لمحات من حياة العالمة لمياء الكيلاني..عين حارسة على آثار العراق

لمحات من حياة العالمة لمياء الكيلاني..عين حارسة على آثار العراق

عادت لتحميها من السرقة، واستخرجتها تحفاً حتى من البالوعات..
رحلت عالمة الآثار د لمياء الكيلاني التي كانت من أوائل عالمات الآثار في تاريخ العراق، وساعدت المتحف القومي لبلادها في مواجهة عمليات النهب التي تلت حرب العراق. رحلت في الثامن عشر من يناير/كانون الثاني الجاري في عمّان، بالأردن، عن عمرٍ يناهز الثمانين عاماً. تقول ابنتها نور إنها توفيت بسبب أزمة قلبية، بينما كانت في عمّان لحضور ورشةٍ لتدريب القيّمين ومساعدتهم على حماية وحفظ الإرث الثقافي للعراق وسوريا.

العالمة لمياء الكيلاني.. إرث من العلم

على مدى نصف قرنٍ تقريباً بَنَت د. لمياء لنفسها سمعةً عالميةً كعالمةٍ مرموقةٍ وقيّمةٍ وكاتبةٍ، عاشت معظم حياتها في لندن، لكنها كانت تعود بانتظامٍ للعراق لإجراء الأبحاث هناك. في عام 2003 كانت في رحلة استثنائية لبغداد، إذ قادت أمريكا القوات التي احتلت العراق في مارس/آذار من ذلك العام بذريعة البحث عن أسلحة دمارٍ شاملٍ ولأيامٍ تتابع اللصوص على نهب المتحف العراقي في العاصمة. ظلت لمياء تواجه العاملين بالمتحف، تقول: «كانوا في حالة صدمةٍ، أذكر أن أحداً منهم لم يكن قادراً على إكمال جملةٍ لآخرها لقد كانت رؤية المتحف خالياً هكذا غريبةً وفظيعةً»، وفق ما ذكرت في مقابلةٍ أجرتها معها هيئة الإذاعة البريطانية BBC عام 2016. كانت الكيلاني خبيرةً في الأختام الأسطوانية الحجرية لحضارة ما بين النهرين، التي كانت تستخدم منذ آلاف السنين للطباعة على الطين كويسلةٍ للتوثيق، وسُرقت من قبو المتحف أغلبية المجموعة، والتي كانت تبلغ 7 آلاف قطعة. في مقابلتها تقول: «كانت الأختام في زاويةٍ، في صناديق صغيرة فوق كابينةٍ، كيف وجدها اللصوص إلا لو كانوا يعلمون بوجودها هناك؟ يمكنك أن تلوم أي شخصٍ. يمكن أن يكونوا من خارج المتحف، لكنهم سمعوا عنها، أو يمكن أن يكونوا من العاملين بالمتحف».
فهرسَت القطع المتبقية من المتحف بعد سرقته
ومن خلال عملها مع مكتب إعادة إعمار العراق الذي أنشأته وزارة الخارجية الأمريكية ساعدت د. لمياء في تقدير الخسائر وفهرسة القطع المتبقية وإيجاد منشآتٍ لتخزينها، كما أدت دور الوسيط بين العاملين في المتحف وقوات الاحتلال. يعد تمثال الباسيتكي إحدى أهم القطع المستردة بعد النهب، وهو تمثالٌ نحاسي عمره 4300 عامٍ لساقي رجلٍ عارٍ جالسٍ على قاعدةٍ مستديرةٍ. كان التمثال مخبأً في بالوعةٍ خارج بغداد. وتقول د.لمياء إنها قابلت الجنود الذين وجدوه وأحضروه للمتحف عند الباب، ولم تكترث أبداً بشأن رائحته الكريهة. وفي مقابلةٍ أجرتها مع مجلة Science عام 2004 قالت: «إنها قطعةٌ مهمةٌ للغاية، لطالما كانت قطعتي المفضلة». في النهاية عُثر على آلاف القطع، وأُعيد افتتاح المتحف عام 2015.

يربطها بالتاريخ علاقة وثيقة
وُلدت لمياء الكيلاني في الثامن من مارس/آذار عام 1931 في بغداد وهناك نشأت مع إخوتها الأربعة، كان أبوها أحمد جمال الدين الكيلاني صاحب أطيانٍ، وكانت أمها مديحة آصف محمد عارف أغا ربة منزلٍ. ويرتبط التاريخ العراقي بعائلتها ارتباطاً وثيقاً؛ فوالدها ينحدر من نسل الشيخ عبد القادر الكيلاني الإمام الصوفي وعالم اللاهوت المسلم الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي ونسبها يتصل بأول رئيس وزراءٍ للعراق في التاريخ الحديث (عبد الرحمن الكيلاني النقيب). صديقتها د. زينب البحراني، أستاذة الآثار وثقافات الشرق الأدنى بجامعة كولومبيا، تقول في مقابلةٍ عبر الهاتف: «لم يكن في عائلتها علماء آثارٍ قبلها، لكن لأن عائلتها من بين الأقدم في العراق، فإن إحساسها بالتاريخ كان عالياً جداً». بدأ تلقيها لعلوم الآثار لسنةٍ واحدةٍ في جامعة بغداد، قبل أن تنتقل إلى إنجلترا، حيث تخرجت في جامعة كامبردج بدرجة البكالوريوس في علوم الآثار والعمارة. ونالت شهادة الماجستير من جامعة أدنبرة، وشهادة الدكتوراه من جامعة لندن، وكان موضوع رسالتها الأختام الأسطوانية. التحقت د. لمياء الكيلاني بالمتحف القومي بالعراق عام 1961 وعملت به قيّمةً، وكانت إحدى مهامها الأولى طباعة آثارٍ على الطين للأختام الأسطوانية لكن طموحها للانضمام إلى عمليات التنقيب عن الآثار في العراق -التي تعد أرضاً خصبةً لأعمال التنقيب- كانت تحده المواقف العراقية المحافظة تجاه النساء. مع ذلك أقنعت سلطات المتحف بقدرتها على العمل، ورغم موافقتهم على مباشرتها العمل، فقد حددوا عملها في منطقة بغداد فقط. وفي منطقة تل الضباعي خارج مدينة بغداد كانت د. لمياء ضمن المجموعة التي اكتشفت مدينةً بابليةً كاملةً ببيوتها ومعبدها ومبنىً إدارياً.
لم تكن المكتشفات مميزة بصرياً.. لكنها كانت مهمة جداً.. وفي كتاب “The Looting of the Iraq Museum, Baghdad” الذي صدر عام 2005 للكاتبين بولك وأنجيلا شاستر وردت مقالةٌ لها قالت فيها: «لم تكن الاكتشافات مميزةً بصرياً، لكنها كانت في غاية الأهمية». «كانت من بين المكتشفات بالموقع ألواحٌ مسماريةٌ بينها لوحٌ اعتُبر برهاناً لنظرية فيثاغورث كُتب قبل مولد فيثاغورث بنحو 2000 عامٍ». كانت الكيلاني تمثل طليعة عالمات الآثار العراقيات، لحقتها بعد ذلك بوقتٍ قليلٍ سلمى الراضي، وراجحة النعيمي، ونوال المتولي خبيرة الكتابة المسمارية التي صارت مديرةً للمتحف العراقي فيما بعد. وبحلول عام 2003 كان الكثير من علماء الآثار العاملين في المتحف من النساء. وفي أطروحتها التي نُشرت عام 1988 في دورية Bibliotheca Mesopotamia وصفت د. لمياء الآثار المتقنة للمشاهد المنقوشة على الأختام، والتي تخلفها على ألواح الطين. كتبت في إحدى المرات عن شماش، إله الشمس في حضارة ما بين النهرين، والذي كان تجسيده الأساسي على الألواح «المنشار أو السكين المسنن، والثور ذو الوجه البشري». وتتابع: «يظهر عادةً واقفاً، وقدماه على جبلٍ مزينٍ أو ثورٍ متكئٍ. يقف أمامه عابدٌ يرتدي قلنسوةً مستديرةً بحافةٍ مقلوبةٍ، وثوباً طويلاً مفتوحاً من الأمام مُبدياً ساقاً عاريةً». وفي رسالةٍ إلكترونيةٍ قال ماكغواير غيبسون، أستاذ علم آثار بلاد ما بين النهرين بجامعة شيكاغو، إن «أطروحة د. لمياء أظهرت صوراً للأختام التي وجدها الفريق العراقي في الحفريات وإن هذه المعلومات كانت ستظل مجهولة على الأغلب لولا عملها».

ورثت حب الآثار لبناتها أيضاً..
وبالإضافة لابنتها نور الكيلاني، قيّمة قسم الحضارة الإسلامية بمتحف غلاسغو، لدى د. لمياء ابنتان أخريان هما عزة الكيلاني، وحصن وير. كان زواجها الأول من ابن عمها المؤرخ المعماري عبد الرحمن الكيلاني قد انتهى بالطلاق، أما زوجها الثاني رجل الأعمال الأردني جورج وير فقد توفي عام 2003. كارثة السرقات المنتشرة للأختام وغيرها من آثار المتحف العراقي سبقت كارثةً ثقافيةً أخرى هزت البلاد في السنوات الأخيرة، عندما قام أعضاء تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) بتدمير الكثير من الكنوز القديمة والأضرحة في سوريا والعراق، مثل الموقع الذي يُفترض أنه قبر النبي يونس في نينوى خارج مدينة الموصل العراقية. وتقول د. زينب البحراني التي عملت مع د. لمياء: » تلك كوارث جعلتنا ننتحب، إن ما يجعلهم يستهدفون الأضرحة هو أنها مقدسةٌ لدى جميع الأديان، وبمهاجمتها فهم يهاجمون ثراء وتعددية الثقافة». لقد كانت د. لمياء حزينةً، لكنها لم تيأس أبداً، أرادت أن تجعل العالم شاهداً على ما يحدث، وأن تجعل الناس يعرفون الحقيقة.
عن (عربي بوست)