فان كوخ.. النهاية التي أردت المضي إليها

فان كوخ.. النهاية التي أردت المضي إليها

ناجح المعموري
يكتب شقيقه تفاصيل اللحظات الأخيرة في عمر كوخ قائلاً : ظللت الى جواره حتى انتهى كل شيء. كان من بين آخر ما قاله"هذه هي النهاية التي أردت أن أمضي إليها"هذا ما قاله فان كوخ بعد أن فشلت محاولة الانتحار لم يستطع الصمود أمام الانكسارات والاحباط بسبب علاقته مع المرأة التي صدته بقسوة وعنف. وتضاعف إحساسه بالوحدة والخوف من شيء مجهول وغائم كما رأته واجه نوعاً من الاضطراب النفسي القاسي وهو يعيش في غرفة معتمة.

لم يعد قادراً على مقاومة ذلك، لانه بحاجة الى طبيعة مكشوفة، وفضاء متسع، حيث الشمس القوية، الساطعة، لأن ذلك يغذيه ويمنحه طاقة للدنو من الحياة اليومية المنورة.
ضاعفت علاقته مع غوغان متاعبه ومشاعره تجاه الآخر، على الرغم من ارتباطهما بصداقة طويلة وعاشا معاً في مرسم غوغان الذي كان رثاً فوق أحد السطوح، لا أثاث فيه سوى سرير نحاسي ومنضدة ومعقد وحامل لوحات. اعتقد بأن ما كانت عليه حال غوغان بسبب العوز، لكنه لم يرد تأكيد ذلك بوصفه فناناً فذاً وذهب لتأكيد قناعته بالقليل المتوفر. وأضاف معقباً : لكن روحي لا يقيدها قيد، وأخرج عدداً من لوحاته ليعرضها أمام فان كوخ الذي وقف مشدوها يتطلع إليها وقد تملكته الحيرة، فقد رأى خيطاً من المناظر الغارقة من ضياء الشمس المتوهجة وأشجار وحيوانات ورجال، لا يمكن أن يخلفهم سوى رسام عبقري....
لم يكن صعباً على فان كوخ أن يدرك بشكل جيد، بأنه مخلوق للطبيعة والفضاء المكشوف، فلا هو قادر على البقاء في المدينة والسكن بالغرف المعتمة : أريد أن أعود الى الحقول. أود أن أجد شمساً ملتهبة تحرق كل ما فيّ سوى الرغبة في الحب. وفي صباح أحد الأيام وجد"ثيو"خطاباً صغيراً على المنضدة يقول فيه : عزيزي"ثيو"لقد رحلت الى آرال وسأكتب اليك بمجرد وصولي الى هناك.
ما قاله الفنان فان كوخ في لحظاته الاخيرة لا يختلف كثيراً عما ردده على أسماع أحد المقربين منه : إن الموت يريد أن يسطو على كل شيء جميل في حياتي، إنه يريد أن يأخذني من"بولين"لكنه في اللحظة التي رأى فيها"بولين"وهي تدخل الى غرفته، نظر إليها نظرة أخيرة ورفع رأسه وارتسمت على فمه ابتسامة الرضا والارتياح وتمتم قائلاً :"هذه ملكتي تلقي النظرة الأخيرة على أحد رعاياها، ما أكثر الخير الذي صنعته في هذا العالم"واختصر تورغنيف فلسفته المتماثلة مع فان كوخ عندما قال : الآن وهو يشرف على الموت ويقول إنه كان سعيداً جداً.
“سؤال الحب" كتاب الاستاذ علي حسين الثالث والصادر عن دار المدى ذهب من خلاله الى الفلسفة أيضاً. ولم يغادر اهتمامه هذا. فالحب فلسفة خاصة، لكنها متنوعة، كل الفلاسفة الذين كتب عنهم علي حسين لهم آراء مهمة عن المرأة ككائن ومعشوق، لكنه في هذا الكتاب لم يذهب عميقاً نحو الموقف الفلسفي حول الحب وان تضمنت مقالاته بعض الاراء الخاصة بهايدجر / ونيتشه / شوبنهور / وكنت أتمنى أن يمنح فضاء أوسع لهايدجر مع علاقته الشهيرة مع حنة أرندت، مثلما نقب في العلاقة الاستثنائية بين سارتر ودي بوفوار. الشذرات التي التقطها الاستاذ علي حسين عن المفكرين والفلاسفة، سارتر / هايدجر / ابيقور / تولستوي / سقراط / من يقرأ الفصل الخاص"الحب الضائع... بين اليأس والرفض والغضب والجنون"والمكرس عن فان كوخ، سيكتشف بأن هذا الفنان أسرع كثيراً نحو الهاوية وإرادة النهاية، لانه لم يفلح بعلاقة حب حقيقية. فظل مضطرباً ومشوشاً بحزنه كثيراً حيث ضاعت عليه هذه الفرصة الإنسانية، وظل يلاحق مروية الإنثى الضائعة، لكنه لم يعثر عليها ولم يستطع التعرف جيداً عن اللحظة الموحدة بينه وبين الأنثى، بل تعرف على البعض منهما، لحظته هو مع"اورسولا"ابنة صاحب النزل الذي كان يقيم فيه في لندن والتي تعامل معها بوصفها ملاكاً. وقد ضحكت من قلبها قائلة : سأذهب لأقول ذلك لأمي.
قالت له الأمّ لاحقاً وهي تراه يتجه الى باب الخروج : نحن نرى من الأفضل أن تسكن في مكان آخر. استدار لينظر الى اورسولا التي اخفضت وجهها الى الأرض، فأما الام أخذت تكمل حديثها : لقد كتب إلينا خطيب ابنتي قائلاً إنه يريدك خارج البيت، وإنني أرى إن هذا من الخير، كل الخير لو إنك لم تأت الى هنا على الاطلاق.
حكاية الحب الضائع، بين اليأس والرفض والغضب والجنون تراجيديا الفنان فان كوخ التي استعادها سردية متوترة وعنيفة الاستاذ علي حسين في كتابه الثالث"سؤال الحب"والصادر عن دار المدى 2018//
أثارت هذه التراجيديا سؤالاً، سيظل بعيداً عن الإجابة وهذا أمر مثير لقلق القارئ، لأن مو ضوعة الحب مثلما هو معروف قضية فلسفية وليست عبارة عن محكيات تعطينا تفاصيل ممتعة او مثيرة للحزن والفزع احيانا، مثلما حصل في سرديات حب همنغواي والنهاية العنيفة التي وقعت.
قدم الاستاذ علي حسين تصوراً عن صعوبة الحالة النفسانية التي كان يمر بها فان كوخ، لذا اضطر الى رسم لوحته الاخيرة حيث (نظر الى الحذاء المركون الى جانب السرير، رفعه عن الأرض ووضعه برفق فوق كرسيه، تأمله لحظة وبدأ يرسمه بحرارة وانفعال كما يفعل مع الأشخاص الذين يحبهم، انتهى الرسم، وضع الى جوار الحذاء ورقة كتب عليها (انا أضع قلبي وروحي في عملي هذا، وربما سأفقد عقلي بسبب ذلك) ولم يكن يدري إن هذا الحذاء العتيق سيثير سجالاً فلسفياً، ففي عام 1936شاهد هايدجر اللوحة في معرض بامستردام، فيقرر أن يكتب دراسة طويلة بعنوان"أصل العمل الفني"سؤال الحب ص51/ وما زالت تلك الدراسة ذات حضور مهيمن في فلسفة الفن وظلت مثيرة للجدل وبما أن هايدجر توصل الى ان العمل الفني هو أصل الفنان وحقيقته وبالامكان أن نعرف القيمة الفنية الخاصة بالعمل من خلال استعمالات العمل وما يومئ إليه. وتوقف هايدجر عن جوهر لوحة الحذاء، لأنه يكمن في سرديات اللوحة. ويبدو بأن هايدجر تعرف على بعض من تفاصيل علاقة فان كوخ في لندن، واستعاض عن الفتاة برمز دال عليها، او هو حذاء امرأة فلاحة، كما أشارت بعض الدراسات. قال علي حسين : يؤكد هايدجر إن فان كوخ عندما رسم الحذاء، كان يرسم بورتريتاً رمزياً لمعاناته مع النساء، ويكتب فرويد في تحليله شخصية فان كوخ من إن الرسام : كان يعيش أكثر لو نجح في الحب، إن فشله في العثور على رفقة أنثوية ساهم في انهياره.
حدثت أولى حالات الانهيار عندما رفضته عام 1874 الفتاة الجميلة"اورسولا لوبر"ابنة صاحب المنزل الذي كان يقيم فيه في لندن / سؤال الحب / ص 521//
عزلة فان كوخ وشعوره بحاجة قصوى للعلاقة مع إمرأة، هذا ما كشفت عنه رسائله والوقائع التي حصلت وعاش تفاصيلها واعتقد بأن وجوده في لندن هو جذر الاأزمة النفسية وغادرها فزعاً من الموقف الذي اظهرته"اورسولا"
كشفت رسائل فان كوخ الى اخيه"ماثيو"والتي نشرتها تاتو عن رغبة لمغادرة لندن وإن لم يذكر السبب، كذلك صدمة كبيرة فجرتها ابنة خالته التي قالت له مرة : ــ كلا ــ فأنا جربت الحب مرة واحدة وكاد أن يقتلني وسواء كنت سأرتبط برجل آخر، أم سأموت هكذا، فإنني لا أفكر فيك زوجاً / سبق ذكره / ص55//