رائد الرواية الحديثة

رائد الرواية الحديثة

ولد (جيمس جويس) في دبلن في الثاني من شباط عام 1822، من أسرة كاثوليكية، وكان الثاني من أحد عشر ولداً. وكان أبوه (جون جويس) رجلاً ماجناً صخاباً مولعاً بالشراب كثير العربدة، وكان إلى ذلك رجلاً عاطفياً، سبط البنان، طيب السريرة. وقد نأت بأبيه حياته هذه اللاهية عن التمتع بهناءة الاستقرار، فظل عمره كله، ينتقل مع أسرته من بيت إلى بيت، تلاحقه الديون ويتعقبه شبح الحجز.

أما أم (جيمس) فكانت امرأة مرهفة الشعور، متدينة، وقد أحبت زوجها وتحملت نزواته وصبواته بجلد صابر وابتسامة صافحة.
وضع جيمس في السادسة من عمره في مدرسة داخلية، وتمرّغ قلبه الغض الفتي وهو يرى إلى أمه تنشج باكية حين ودعها وحرم دفء صدرها الحنون، ونقل بعد سنوات ثلاث، إلى مدرسة داخلية أخرى في ضواحي (دبلن) يشرف عليها رهبان يسوعيون.
وقد هيأته تربيتهم القاسية لأن يألف النظام ويتزود بدراسة علمية أدبية كلاسيكية غنية، غير أن التزمت الشديد الذي اتسمت به تلك التربية خلف في نفسه رواسب من التمرد والتحدي، تراخت في شبابه إلى زعزعة إيمانه وإلى كرهٍ متقد دائم لرجال الدين.
وشكا جيمس منذ صغره ضعفاً في بصره واضطر إلى حمل نظارة لازمت عينيه الزرقاوين، وأضحت متممة لقسمات وجهه.
ولئن عرفت طفولته الحرمان والقلق والغربة، لقد كان يتكلف المرح والابتسام، حتى دعاه أخوته بجيمس الضاحك وقد ركبته فيما بعد هموم الحياة، وظلت ابتسامته معلقة بشفيته الرقيقتين، ولكنها أضحت ابتسامة حاقدة ساخرة مريرة.
وتفوق جيمس في دراسته ونال المركز الأول بين أقرانه وظفر بأكبر جائزة أجريت لطلبة المدارس وكانت الجائزة عشرين جنيها، وجدها أبوه – وكان قد أحيل على التقاعد منذ أمد قريب – خير هدية ليعاقر خمرته ويستأنف عربدته، وتعيش أسرته الوفيرة في يسر مؤقت.
وفي عام 1898 التحق جويس بالجامعة، ليتابع فيها دراسة الفرنسية والألمانية والايطالية والنرويجية، وعلم النحو المقارن، وقد أعانه تضلعه في اللغات، على تلقيح مؤلفاته المقبلة بما أصاب من ثقافة لغوية متشعبة.
وخلب لبه وهو في فجر تفتح فكره مسرحيات الكاتب النروجي (إبسن) فعكف على قراءتها وأعجب بما يشيع في أكثرها من تقديس لحرية الفكر وثورة على قيود العادات الرجعية البالية، وأغراه إعجابه بإبسن بكتابة مقالٍ ضافٍ مسهب عن إحدى مسرحياته، وتناهى المقال إلى الكاتب النروجي العظيم، فكتب إلى جويس شاكراً، فأجاب هذا برسالة قال فيها:
"أشكر لك تلطفك بالكتابة إلي، إني فتى إيرلندي، في الثامنة عشرة من سني، إن كلمات إبسن ستبقى، عمري كله منقوشة في قلبي".
ولما ظفر بشهادة البكالوريا عام 1902 عزم على دراسة الطب في باريس فسافر إليها وسكن في الحي اللاتيني، ولعل آماله المخيبة في وضع أسرته وكفاح وطنه وثورته على تقاليد مجتمعه، قد حملته على الابتعاد عن دبلن ليجد في باريس مدينة النور والفكر والحرية ملاذاً لروحه الظامئة المتمردة. ولكنه أضحى، وهو في باريس ملازماً لمكتبتها الوطنية أكثر من اختلافه إلى معهد الطب. وكان يتزود منها، منقراً ، مطلعاً، تستهويه دراسة علم الجمال. واشتد ضعف بصره وأخذ يشكو من دوار دائم في رأسه، وتخبط في العسر والإملاق فاضطر إلى إعطاء دروس لتعليم اللغة الانكليزية، وكتب عدة مقالات لعلها أن تفي ببعض نفقاته. وفي العام التالي قفل عائداً إلى دبلن بعد أن تناهى إليه خبر بأن أمه مشرفة على الموت. وقد أدركها ونظر إليها تحتضر أمامه، ولكنه أبى أن يجثو مصلياً إلى جانب سريرها كما تقتضي التقاليد الدينية، وشعر بعد وفاتها بندم شديد يعصر قلبه وفراغ رهيب يغزو حياته.
وكانت سنةً قاسيةً امتحنته فيها الأيام بالمصائب، وألفى في الخمرة – كما ألفى أبوه من قبل – مفزعاً يذيب فيها آلامه، ومكث في دبلن يرتزق من دروس ضئيلة، ولكن غرامه بالأدب ظل متقداً وكتب قصته المعروفة (ديدالوس أو صورة فنان في ريّق صباه) مندفعاً، مضرم الهمة. وقد جلا فيها حياته المضطربة في طفولته وصباه. وقد كان وصفه وتحليله وسبره لأغوار النفس يشي بفن روائي مستحصد ناضج، بيد أنه لم يعثر على ناشر يرضى بنشر كتابه فانصرف إلى نظم الشعر وقرزم بعض القصائد ثم بدا له أن يتقدم إلى مسابقة غناء – وكان له صوت ندي – ولكنه لم يفز بالجائزة المنشودة.
والتقى في هذا العام بنورا بارناكل، فشغف بها حباً. وقد جعل من تاريخ يوم لقائه بها في 16 حزيران، اليوم المشهور الذي تدور فيه حوادث روايته المقبلة (أوليس).
وقد أعجبت نورا بموهبته الأدبية وأحبته وقبلت به زوجاً، وأخلصت له الحب وقاسمته حلو الحياة ومرها.
وإذ كان يرغب في الابتعاد عن دبلن بعد أن انتسخ أمله في الوصول إلى الهناءة وطراوة العيش فقد سافر مع زوجته إلى (زوريخ) في (سويسرا) عسى أن يجد فيها عملاً، فلم يظفر بما كان يهفو إليه، واتخذ أدراجه إلى تريستا بعد تنقل مرهق متصل، ولكن تكسبه من تدريس اللغة الانكليزية لم يكن يكفيه وترصدته كؤوس الخمرة يغمس فيها شجونه، وفي تريستا وضعت زوجته صبياً سماه (جيو رجيو). وتجاذبه الفرح بابنه والتخوف من مسؤولية تربيته، ولكن همومه لم تثنه عن التأليف، فأنهى ديوان شعر صغيراً، ومجموعة قصصية، سماها (أهل دبلن) وبعث بمخطوطتيهما إلى أخيه (ستانيسلاس) في (دبلن) لعله أن يجد لهما ناشراً فلم يوفق، وكتب إلى أخيه يغريه بالمجيء للعمل في تريستا فقدم إليه وتقاسم الأخوان البيت.
وكثيراً ما كان جيمس يسترفد من أخيه عونه المالي فلا يضن عليه بشيء. وبدا له أن ينتقل إلى روما ليعمل موظفاً في مصرف، ولكنه لم يسغ العمل هناك، وعاد بعد أمد قصير إلى تريستا أكثر إملاقاً، ووضعت زوجته طفلة سماها (لوسي آن) في القسم المخصص للفقراء من مستشفى التوليد، وأمسك جيمس عن الخمرة، أمداً، إثر التهاب في قزحية عينه وتوعد زوجته وتهديدها بأن تعمد طفليه – وكان يكره التعميد والطقوس الدينية كرهاً متأصلاً – إن عاد إلى معاقرة الخمرة.
وسافر جويس إلى دبلن ليشرف على نشر كتابه (أهل دبلن) وتم طبعه على نفقته، بعد صعوبات جمة ولما قدم إلى المطبعة ليستلم نسخ كتابه، أعلمه الطابع أن شخصاً مجهولاً أتى إلى المطبعة فاشترى النسخ كلها ودفع ثمنها ثم أمر بإحراقها في مكانها ومضى.
وعاد جيمس جويس إلى تريستا، وفي جيبه ثمن نسخ كتابه المحروقة، وفي قلبه تتأجج نار من الأسى، مؤالياً على نفسه ألا يعود إلى وطنه أبداً. ولكنه حمل وطنه في قلبه ليجري أقدار أبطاله في مرابع مدينته المتنكرة الجافية (دبلن).
وعمد إلى نشر صفحات من روايته (ديدالوس) في مجلة أدبية، فما عتم أن لفت أنظار الأوساط الأدبية إليه، وأعجب به الشاعر (ت.س. إليوت) والشاعر الأمريكي (إزرا باوند) إعجاباً كبيراً ، وقدم إليه باوند مساعدة مجدية، لنشر روايته، وإعادة طبع مجموعته القصصية (أهل دبلن) وكذلك بدأ نجم شهرته يتوامض في سماء الأدب.
وفي عام 1914 شرع جويس بكتابة رائعة (أوليس)، وفي هذا العام أعلنت الحرب العالمية الأولى، واضطر جويس إلى مغادرة تريستا، وكانت بلداً تابعاً للنمسا، ومضى مع أسرته إلى سويسرا، وأمده باوند ثمة، بمعونة مالية مجدية، أنقذته من الفاقة، وما كاد أوار الحرب يخمد حتى عاد جويس إلى تريستا، ليستأنف عمله في التعليم، وينكب على روايته أوليس.
بيد أنه لم يستطع إنهاء روايته إلا في باريس، بعد أن حبب إليه صديقه باوند الإقامة فيها، وظفر جويس بتقدير عدد كبير من الكتاب والمفكرين الفرنسيين المعجبين بأدبه، وعلى رأسهم (فاليري لاربو)، واحتضنت باريس عبقريته، حفية به، معجبة، في مدى عشرين عاماً، بعد أن مني بالخيبة القاسية في وطنه.
وقام جويس بمحاولات يائسة لنشر روايته في انكلترا وأمريكا، ولكن الرقابتين الانكليزية والامريكية، مانعتا في ذلك متعللتين، بأن في بعض الصفحات من الكتاب، واقعية صارخة تجلو ضعة الإنسان وغرائزه، بأسلوب يخالف الآداب العامة. واتسق له، أخيراً، أن يطبع الكتاب بمساعدة (سيلفيا بيتش) في (ديجون) بفرنسا.

وأتمثله، في صباح اليوم الثاني من شهر شباط عام 1922، في يوم عيد ميلاده الأربعين، يذرع غرفته، جيئة وذهاباً، قلقاً، نافد الصبر، في انتظار أول نسخة من روايته التي أذوى في تأليفها زهرة شبابه واستصفى لها خلاصة عبقريته، وحنا عليها ساهراً، حسير البصر، وها هي ذي أمنيته تتحقق ويؤتي جهده أكله، آخر الأمر.
وينظر إلى سيلفيا بيتش تدخل حجرته متطلقة الوجه ضاحكة وبيدها رزمة. لا ريب أنها وافت الآن، من المحطة. ويتهلل وجهه بشراً وسعادة، ويحل رباط الرزمة الثمينة. إنها تتضمن نسختين من روايته. وتمتد أنامله المرتعشة إلى نسخة من الكتاب تتلمسها وتقلب صفحاتها في نشوة غامرة.
في هذا اليوم، يحتفل إذن بعيدين، عيد ميلاده، وعيد طبع روايته. لقد كان يرى أن وجوده كله معلق بكتابه هذا، ولعله أن يكون على حق، فقد كانت روايته نقطة انطلاق جديدة في أسلوب الرواية الحديثة.
للقارئ أن يتساءل:
أي شيء يمكن أن يوحي به يوم عادي في حياة إنسانٍ ما، تتابع حوادثه الطبيعية، دون أن يند منها حادث عجيب يستدعي الاهتمام أكثر من غيره ويتطلب من الكاتب الإطالة والإسهاب؟ ومع ذلك فقد نهضت روايته (أوليس) التي كتبها في ست سنوات أو تزيد قليلاً، على سرد حوادث يوم واحد هو السادس عشر من حزيران عام 1904، في مدينة دبلن واتسقت في 870 صفحة من القطع الكبير.
وقد شبه الباحث النفسي الكبير (يونغ) تلميذ (فرويد) هذه الرواية في دراسة مستفيضة رائعة بنهر عظيم لجي، تنساب أمواهه غامرة كل شيء، حتى إذا شارفت الرواية نهايتها، انبجس حوار داخلي تريقه زوجة بلوم، في جملة واحدة تقع في أربعين صفحة، لا يحجز بين كلماتها، نقطة أو فاصلة، كموجات النهر المتصلة المتدفقة، كأنما قصد بها جويس إلى تصوير الفراغ الرهيب الذي يطوق حياتنا ويكظم أنفاسنا.
لم يفئ جويس إلى الراحة بعد المجد العظيم الذي أصابه في أوليس فقد انصرف إلى تأليف كتاب آخر هو يقظة فينيغان، وكان يطمح إلى أن يتجاوز بقيمته الأدبية رواية أوليس، وقد أنفق في تأليفه سبعة عشر عاماً، كان بصره خلالها يزوي شيئاً فشيئاً، ولكن عزيمته الجبارة كانت تملي عليه المضي والاستمرار، وكذلك كان يبذل هذا الكاتب العظيم نور عينه على محراب أدبه الفذ.
غير أن هذا الكتاب لم يصب من النجاح ما أصابته رواية أوليس لعسره والتوائه وغموض دلالاته، وقد أوضح جويس نفسه أن هذا الكتاب الذي استشرف به أغوار الأحلام الظليلة هو كتاب الليل، وأن أوليس هو كتاب النهار المشرق.
لقد تراخت رواية اوليس إلى الحوار الداخلي الذي كانت مولي تلهج به في ذات نفسها، قبل أن يسلسل جفناها للنوم، وتناهت إلى وصيد الأحلام، ووقفت بلفظة نعم عند مشارف الغفوة، أما كتاب (يقظة فينيغان) فهو يتخطى الحد الفاصل بين اليقظة والنوم، ليدخل في عالم الأحلام السحري.
وأسلوب الكتاب، على غموضه، طريّ سيّال، كنهر الزمن. إنه يطاوع انسياب الحلم والتواءه، وإشراقه، سافحاً في تدفقه كل ما يمكن أن يريقه الجاثوم، من غرائب ومفاجآت وممكنات هي بسبيل إلى الأساطير.
إن في مكنتك، حين تدخل عالم الأحلام، أن تلهج بلغاتٍ لا تعرفها في اليقظة – أو هكذا يبدو للمرء – وكذلك نحت لنا جويس في كتابه كلماتٍ جديدة – يتجاوز بعضها سطراً برمته، قبسها واشتقها من تسع عشرة لغة كان يعرفها ويرتضخ أكثرها بطلاقة، فإذا الكتاب كيمياء لفظية ومزيجٌ من ألفاظٍ ملتوية مبهمة، وصور غامضة هي أقرب إلى المعميات والرقى. على أن بعض المتحمسين لجويس، وعلى رأسم (أوجين جولاس) وجد فيه ثورة لغوية لا نظير لها في الآداب العالمية كلها.
***
لم يقدّر لكتاب فينيغان، على عظمته وسموه وغناه، ما قدر لرواية اوليس من تذوق وفهم، وقوبل، حين ظهوره، بنقد يفصح عن العجز، ومن يدري فلعل الأجيال المقبلة تستطيع أن تفهمه وتتأوله وتستنبط الكنوز الخبيئة في منجمه.
على أن جويس لم يكن ليأبه لسهام النقد تفوق إلى كتابه هذا، فقد كان مشغولاً، في مغرب سني حياته بمحنة تعدل محنته ببصره هي محنته بابنته لوسيا، فقد أحبت لوسيا الكاتب الارلندي (صموئيل بيكيت)، وكان يتردد على أبيها، أحبته حباً مبرحاً يائساً دون أن يستجيب لحبها، وألم بها يأسٌ عتيٌ فخولطت في عقلها، ولعلها تنتظر حتى الآن، وهي في أحد مصحات (نورثامبتون)، حبيبها الموهوم (بيكيت).
وقد أنفق جويس ثلثي ثروته التي أصابها من مؤلفاته في معالجة ابنته، وانتقل بها من مصح إلى مصح دون جدوى، وكان يراعي ابنته المسكينة مردداً، ودموعه تغيم في عينيه:
"مهما تكن شرارة الموهبة التي أملكها، فإنها قد انتقلت إلى لوسيا، وأرّثت ناراً في دماغها".
وكذلك جعل بصره يضعف ويمّحي منه النور، وأجريت لعينيه عمليات عديدة، دون أن تجدي شيئاً، حتى شارف ظلمة العمى، كما جعل النور ينطفئ في عقل ابنته الحبيبة حتى سربلته دياجير الجنون.
وانزوى جويس بعيداً، عن أضواء الشهرة، لا يكاد يأبه لأحداث العالم تتوالى مدلهمة، منذرة بحرب ضروس، فلما اندلعت نارها عام 1939 أقام جويس في قرية لابول قريباً من مصح ابنته. واضطر إلى مغادرة فرنسا مع زوجته وابنه بعد الغزو الألماني، وسافر إلى جنيف ومنها إلى زوريخ، وفي 10 كانون الثاني من عام 1941 أحس جويس بآلام مفاجئة في معدته، فنقل إلى المستشفى، وتبين بعد الفحص الشعاعي أن قرحة قد نغرت وانفجرت وأدت إلى نزف شديد. وأجريت له عملية عاجلة، تراءت في البدء ناجحة، ولكن قواه زايلته وغاب عن وعيه واستفاق ليطلب أن يوضع إلى جانبه سرير لزوجته، ثم نادى زوجته وابنه وأسلم الروح.
***
وكذلك انتهت غربة أوليس العصر الحديث، توارى جيمس جويس بعد أن عرف مرارة الإخفاق، وبلا حرقة الجوع وهام في كل مضطرب من الأرض.
لقد غادر وطنه وحلكة العمى تهدد عينيه، بحثاً عن اللقمة، ثم قدر له أن ينجز أثراً أدبياً، سما به إلى قمة المجد، ولم يكد يتذوق حلاوته، سائغة شيهة، حتى رزئ بابنته في عقلها وغاله الموت حزيناً حسيراً.
وقد مضى أكثر من أربعين عاماً على وفاته ومئات الدراسات ما تفتأ تتعاقب، مللة أدبه، مبينة عمقه وأصالته، وإذا بهذا النهر الزاخر يمتد وتتفرع منه جداول جمة، وإذا بجيمس جويس يضحي رائداً للرواية الحديثة التي تحدّر منها (روب غرييه) و (ساروت) و (بوتور) و (سيمون)، ولعل (ويليام فولكنر) أعظم من تأثر به وأخذ بمنهجه في الاعتماد على الحوار الداخلي، ينساب كالدم في عروق رواياته كلها.
يقول الناقد (رولان بونال):
"إن جيمس جويس هو أوفر كتاب القرن العشرين ابتكاراً".
وفي الحق أن أثر جويس، على غموض أدبه، وتمنعه على القارئ العادي، يتسع مع اتساع آفاق الثقافة، إذ لم تكن تجربته أدبية روائية فحسب، بل هي، إلى ذلك، تجربة فنية فكرية علمية معاً.
***
في منسرح خيالي، ألمح طيف شاعر مشرد أعمى، كان يضرب منذ ثلاثين قرناً، بين مدن الاغريق، شفتاه كانتا تمرعان قصائد وأساطير، ومن راحته كانت تمتد عصاه العجفاء الضاوية، لعلها كانت تماثل جسمه النحيل وكانت تتقرى وتنقر الأرض نقراتٍ خفيفة رتيبة، كأنها كانت تهمس له، تحدثه، تهديه. إنه الشاعر اليوناني العظيم: هومر.
وأرى إليه ساعياً من (ساموس) إلى (أثينا) لاهجاً بملحمة (الأوذيسة)، متغنياً بمآثر بطله اوليس. ويفجؤه الموت، ويتخطفه غريباً عن بلده وموطنه، ولكنه يفرع بشعره واساطيره وملاحمه قمة الخلود.
وألمح في مسرح خيالي، طيف شاعر كاتب آخر، استبدت به الغربة بعيداً عن وطنه، وتقاذفته مدن أوروبا، وعلى شفتيه كانت تنعقد ابتسامة شاحبة مريرة ساخرة، وأمام جفنيه المتعبين كانت تجثم نظارة، ينسرب النور من زجاجها إلى إنسان عينيه الزرقاوين، ولكنه ينكفئ وينطفئ فلا تلمح عيناه سوى أشباح ملتاثة وخيالات مهتزة.
من راحته كانت تمتد عصاه العجفاء الضاوية، لعلها كانت تماثل برقتها جسمه الهضيم وكانت تتقرى طريقها، وتنقر الأرض نقراتٍ خفيفة، رتيبة، كأنها كانت تهمس له، تحدثه، تهديه، إنه الكاتب الارلندي العظيم: (جيمس جويس).
وأرى إليه، يستنزل اوليس من ملحمته، ويقذف به، في مسلاخ إنسان عادي في متاهات دبلن، لينسج من حوادث يوم واحد، روايته الرائعة: اوليس.
ثم يختطفه الموت عام 1941، وهو في قمة المجد، غريباً بعيداً عن وطنه، تاركاً أثراً أدبياً خالداً، أضحى اللبنة الأولى في صرح الرواية الحديثة

هذه المقالة للباحث والناقد الراحل نهاد التكرلي
مجلة الكلمة 1971 نيسان