عندما اصبحت المس بيل مديرة لاثار العراق

عندما اصبحت المس بيل مديرة لاثار العراق

سميرة شعلان
التحقت المس غيرترود بيل بالحملة البريطانية لاحتلال العراق في عام 1916 وعينت في المكتب العربي فرع البصرة في حزيران من العام نفسه ، وحينما احتل البريطانيون بغداد فيالحادي عشر من آذار 1917 آنتقلت المس بيل إلى بغداد وعينت سكرتيرة شرقية للمندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس ، ومنذ وقت مبكر لوصولها وبحكم آختصاصها الدراسي وولعها بعالم الآثار ،

أدركت مدى الحاجة إلى الإهتمام بالآثار العراقية والمحافظة عليها من أن تطالها أيادي العبث والسرقة ، وفي ذلك السـياق وجهت تحذيراً شــديد اللهجة للمسؤول البريطاني عن شؤون الآثار العراقي ،وحملته المسؤولية عن أي ضرر يلحق بها وأخذت منه تعهداً خطياً بعدم هدم أي موقع آثاري في بغداد لأي سبب كان.
وأخذت على عاتقها القيام بجولات ميدانية لزيارة عدد من المواقع الآثارية التي أصبحت بحاجة ماسة إلى الصيانة لترميم الأضرار لغرض المباشـرة بصيانتها ، وكان في مقدمة المواقع التي زارتها طاق كسرى في منطقة المدائن ، وآصطحبت معها أحد المهندسين لإيجاد الحلول المناسبة لمنع سقوط أحد جدران الطاق بسبب تصدعه.
إنَّ آهتمام المس بيل بالآثار العراقية وسبل المحافظة عليها دفعت الملك فيصل الأول 1921-1933 بعد تتويجه ملكاً على العراق في الثالث والعشرين من أب 1921بناءً على طلبها تعيينها مديرة فخرية للآثار القديمة بصورة مؤقتة ، ريثما يتم تعيين موظف مناسب ، نظراً لإلمامها وسـابق تتبعاتها لاسيما بما يتعلق بـعاديـات العـراق ، وكانت تدرك منذ وقت مبكر أهمية أن يكون للعراق متحف يضـم آثاره ، إلاَّ أنها كانت تعلل ذلك بعدم توافر التخصيصات المالية اللازمة لأنشائه.
آستقبلت المس بيل بعد توليها المسؤولية الفخرية لدائرة الآثار القديمة عدداً من البعثات الآثارية التي كانت تتطلع إلى الحصول على آمتياز التنقيب في عدد من المواقع الأثرية ، ومن أشهرتلك البعثات البعثة المشتركة للمتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأمريكية برئاسة ليونارد وولي ، التي حصلت على آمتياز التنقيب في مدينة كيش ، ونجحت البعثة المشتركة خلال موسم واحد في العثور على قطع آثارية كثيرة ، نال العراق منها نصف الكمية ، تسلمتها المس بيل من البعثة بنفسها ، وقد حاولت خلال عملية الإقتسام الحصول على أفضل اللقى الآثارية المكتشفة ، من بينها خوذة ذهبية وقيثارة ودبوساً ذهبياً وتمثال لأحد ملوك مملكة كيش السومرية يبلغ طوله ثلاثة أقدام ، مقطوع الرأس ،ولم يتمكن الآثاريون من قراءة الكتابات الموجودة على كتفه ، بآستثناء تحديد آسم الملك.
وقررت المس بيل إرساله إلى لندن لفك رموزه من علماء الآثار البريطانيين ومن ثم إعادتهإلى العراق ، وتمكنت أيضاً من شراء عدد من الآثار من الأهالي فكانت حصيلة ما جمعته كمية لا يستهان بها من الآثار التي اكتشفت حديثاً آنذاك ، مما شجعها على إقامة معرض لعرض اللقى الآثارية المكتشفة أمام الجمهور للتعريف بها ، وقد أفتتح المعرض بتأريخ الحادي عشر من آذار 1923، وضعت فيه اللقى الآثارية على مناضد وبالقرب من كل قطعة بطاقة تعريفية باللغتين العربية والإنكليزية ، ونال المعرض آستحسان الحاضرين والزائرين ، وكان في مقدمتهم الملك فيصل الأول والوزراء والشخصيات العامة.
وعقدت المس بيل العزم بعد نجاح المعرض على إنشاء متحف عراقي بعد أن أصبحت الظروف مواتية لإقامته ، لاسيما توافر كميات كبيرة من الآثار العراقية التي حصلت عليها عن طريق التنقيبات الآثارية على وفق نظام المناصفة أو الشراء ، فكان لابد من جمعها في متحف للحفاظ عليها من السرقة والضياع والاندثار ، إلاَّ أنَّ عقبات عدة آعترضت سبل تنفيذه أول مرة ، منها عدم توفر مكان ملائم لإقامته ، فلم تتمكن وزارة الأشغال والمواصلات كون دائرة الآثار القديمة احدى الدوائر العائدة لها من إيجاد بناية مناسبة للمتحف ، وبعد البحث والتقصي وقع آختيار المس بيل على إحدى غرف بناية الكلية الدينية في جامعة آل البيت ، إلاَّأن جهودها قد باءت بالفشل بسبب تأخر أعمال البناء فيها ، فلم يكن من مناص سوى اللجوء إلى بناية القشلة التي تضم دواوين الحكومة ورئاستها ، لتكون مكاناً لإقامة المتحف ، فآختارت مضطرة إحدى الغرف الصغيرة في الطابق الأسفل من مبنى القشلة ، عرفت هذه الغرفة لاحقاً بآسم غرفة الأحجار البابلية.
كان أمراً طبيعياً أن يؤدي آزدياد بعثات التنقيب الآثاريةإلىآزدياد حصة المتحف من الآثار ، ولا سيما تلك الواردة من مدينة أور الأثرية ، وأصبحت الحاجة إلى نقل المتحف مطلباً ملحاً ليسع الآثار الأخرى التي تجمعت بمرور الوقت في صناديق خشبية لم يكن بالإمكان عرضها بسبب ضيق مساحة المتحف.
تزامنت رغبة المس بيل في البحث عن موقع جديد مع نية الحكومة العراقية بيع مطبعة الحكومة وتسليم بنايتها إلى وزارة الأشغال والمواصلات ، فكتبت رسالة إلى وزير الأشغال والمواصلات صبيح نشأت آشتكت فيها بمرارة من ضيق متحف القشلة وتكدس الآثار فيه ، وفي ضوء بيانها لحالة المتحف وما آل إليه من تردٍ كانت تأمل من وزير الأشغال والمواصلات أن تحصل منه على بناية مطبعة الحكومة ، ولإتمام الفائدة وجدنا من المناسب أن نستشهد ببعض الأسطر مما ورد في رسـالتها، إذ قالت ما نصه: " لا يخفى على معاليكم أن المحل الراهن الذي اشغله المتحف أصبح منذ مدة طويلة غير كاف له بالمرة ، وبذا آستحال الأحتفاظ بالآثار القديمة وآستعراضها للجمهور ، وإنَّ كثيراً من الآثار الموجودة في المتحف لها قيمة ثمينـة جـداً وبوضعها الحاضر لابد أن يصيبها أضرار ، وقد فهمنا إنَّه عما قريب سـتباع مطبعــة الحكومة ويفرغ مكانها الحالي ،وإنَّ وزارة الأشغال ستستلم هذه البنايـة ".
إنَّ آختيار بناية مطبعة الحكومة ، وتحويلها إلى متحف يعود إلى عدد من الإعتبارات ترتبط بالمقام الأول بسعة البناية مقارنة بمتحف القشلة ، وتألفها من طبقتين وحداثتها ، إذ لم يمر على تشيدها سوى بضعة سنين ،فضلاً على ملاءمتها للعرض المتحفي ، الأمـــر الذي أكـــده مستشار وزير المعــارف المسـترليونيل سميث (Lionel Smith) الذي زار بناية مطبعـة الحكومة برفقة المس بيل، وجدت مطالبة المس بيل لوزارة الأشغال والمواصلات والحكومة على حد سواء ومناشدتها الإستجابة ، فتم تلبيتها ، وهكذا جرى إعطاء بناية مطبعة الحكومة إلى دائرة الآثار القديمة لتتخذها متحفاً ومقراً لها.
أشرفت المس بيل بنفسها على أعمال تأهيل بناية المتحف الجديدة وصيانتها ، بما يلائم العرض المتحفي ، وزودته بأعداد كافية وحديثة من الصناديق المخصصة لعرض الآثار ، ولم تدخر جهداًإلاَّ وبذلته لإظهاره بمظهر يليق بتأريخ العراق وحضارته العريقة ، وتزامن ذلك كله مع تدهور حالتها الصحية و وفاة أخيها غير الشقيق ، والأكثر من ذلك أنها أجلت زيارتها المقررة لذويها فكتبت إلى والدها رسالة أشارت فيها إلى عدم آستطاعتها مغادرة " العراق في هذا الوقت ".
وشجعها ذلك على آستمرار العناية بالمتحف والتفرغ لإدارته ، فأبدت رغبتها بالإستقالة من عملها في دائرة المندوب السامي البريطاني بوصفها سكرتيرة شرقية ، والتفرغ لإدارة دائرة الآثار القديمة أصالة وليس بوصفها مديرة فخرية ، لكن المنية قد أدركتها بتأريخالثاني عشر من تموز 1926عن عمر ناهز الثامنة والخمسين على إثرتناولها جرعة دوائية كبيرة، وعرفاناً بالجميل أَطلق الملك فيصل الأول آسمها على الجناح الرئيس بالمتحف العراقي وحظي ذلكالأجراء بمباركة وتأييد الحكومة العراقية.
عن رسالة ( المتحف العراقي نشأته وتطوره )