النجف في  منتصف القرن التاسع عشر كما يصفها لوفتس

النجف في منتصف القرن التاسع عشر كما يصفها لوفتس

جعفر الخياط
في 1853 زار النجف رحالة انكليزي يدعى لوفتس، وقد كان عضواً من أعضاء لجنة الحدود التي تجولت في منطقة الحدود العراقية الايرانية في 1849 فعملت على تثبيتها. وفي سفرة ثانية إلى العراق لأغراض علمية آثارية تجول في البلاد فكتب رحلته المعروفة في وصف الموصل فبغداد فالفرات الأوسط فالبصرة فعربستان.

وقد جاء إلى النجف الأشرف في صيف 1853 من الحلة وفي معيته درويش باشا متصرف الحلة وطاهر بك الحاكم العسكري فيها، مع ثلة من الجنود الأتراك. ولذلك نراه يذكر شيئاً عن الكوفة التي وصل إليها من الكفل قبل وصوله إلى النجف بطبيعة الحال. فيورد عدداً من الروايات عنها، منها، أن موقع الكوفة كان هو الموضع الذي نزل فيه جبرائيل إلى الأرض فصلى لله عزّ وجلّ، ومنه انبثقت مياه الطوفان الطاغية على عهد نوح (عليه السلام) فاستقل فلكه هرباً منها. ويزعم العرب بالاضافة إلى ذلك ان الحيّة حينما أغوت حواء نفيت إلى هذا المكان عقوبة لها; ومن هذا نشأت فكرة اتصاف أهالي الكوفة بالمكر والخداع. وبعد ذلك يأتي على ذكر الكوفة في أيام العرب، وأهمية الخط الكوفي، ومقتل الإمام (عليه السلام) فيها من قبل الخوارج، ثم يشير إلى أنها لم يبق منها في وقت زيارته لها (أي في 1853) سوى عدد من التلول وبقايا جدار من جدرانها مع أنها كانت تمتد على ما يقال إلى ما يقرب من كربلاء (مسافة 45 ميلا).
وحينما ينتقل إلى ذكر النجف يقول أنها أسست على أنقاض مدينة الحيرة القديمة، التي نشأت الاُسر العربية المالكة المعروفة فيها، ولا شك أنه يشير بذلك إلى المناذرة. وكانت الحيرة على حد قوله قد التجأ اليها خلال القرن الثالث للميلاد كثيرون من النصارى اليعاقبة هرباً من الاضطهاد والفوضى التي انتابت أحوال الكنيسة. وبهذه الوسيلة اعتنق ملك الحيرة ورعاياه الديانة المسيحية قبيل مولد النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). ويتطرق إلى فتح خالد بن الوليد للحيرة ويقول أنها فتحت بسهولة بعد قتل ملكها في المعركة، وبذلك فرضت عليها الجزية التي كان مقدارها (7000) قطعة ذهب في السنة. وتعد الحيرة أول بلد فتحه المسلمون خارج الجزيرة العربية; كما تعد الجزية التي فرضهت عليها أول جزية فرضوها على أي بلد من البلاد الأجنبية.
ويصف لوفتس موقع النجف الجيولوجي وشكلها العام كذلك فيقول أنها تقع فوق هضبة من الحجر الرملي الميال إلى اللون الأحمر، وترتفع إلى أربعين قدماً فوق السهول المحيطة بها. وقد وجد أسوارها عامرة ممتازة، يحيط بها خندق عميق خال من الماء. ثم يتطرق إلى بحر النجف فيقول انه يمتد نحو الجنوب الشرقي إلى مسافة أربعين ميلا، وينشأ من نهايته السفلى نهران يقال لهما: شط الخفيف (Khuff) وشط العطشان. وحينما يطغى الفرات طغيانه السنوي المألوف يفيض إلى بحر النجف فتصبح المسافة الممتدة بينه وبين السماوة كلها قطعة واحدة من المياه، يطلق عليها"خور الله"أما ماء هذا البحر فيكون عذباً صالحاً للشرب حينما تصب فيه مياه الفرات، ويصبح ملحاً اُجاجاً حينما تنقطع عنه، وعند ذلك يضطر الأهالي إلى جلب الماء من الكوفة.
ويبدو مما كتبه لوفتس انه دخل الصحن الشريف بمعية درويش باشا وطاهر بك; وبحراسة من الجنود الأتراك المدججين بالسلاح. وهو يقول في هذا الشأن انه كان من النادر أن تسنح لأي مسيحي الفرصة للدخول إلى أماكن عبادة المسلمين ولا سيما في مكان مقدس مثل مشهد الإمام عليّ. وحينما أبدى فكرة الدخول إلى طاهر بك وجد تشجعياً منه على ذلك. ولما مرت جماعتهم بالسوق المؤدي إلى الصحن كان الناس على عادتهم الشرقية ينهضون للتحية; فيردونها لدرويش وطاهر لكنهم كانوا ينظرون شزراً إلى (الأفرنج). وقد تجمع حشد من الناس وراءهم، وحينما قاربوا باب الصحن كانت النظرات التهديدية والهمسات الخافتة تدل على انهم كانوا اُناساً غير مرغوب فيهم. لكن الجند اصطف في مدخل الصحن فاجتازوا من بينهم دون تردد.
ويقول لوفتس انه لا يمكن أن يصف الشعور الذي يخالج الناظر إلى جميع ما كان في داخل الجامع من زينة في البناء وتناسق في الألوان، لأن مايراه كان لابد من أن يولد انطباعاً خالداً في نفسه. ويصف شكل الصحن الشريف والضريح المطهر الموجود في وسطه، مشيراً إلى زينة القاشاني المحتوية على الرسوم المتناسقة للطيور والأوراق النباتية والكتابات المذهبة ثم يذكر ان أركاناً ثلاثة من أركان الصحن كانت تقوم فوقها مآذن ثلاث كسيت الاثنتان الأماميتان منها بالآجر المغلف بالذهب الذي يكلف تذهيب الواحدة منه مبلغ تومان واحد، أو ما يعادل باونين استرلينيين. وهذه مع القبة كانت تؤلف منظراً فخماً يعجز عنه الوصف. وكانت القبة الكبرى المكسوة بالذهب وهي تتوهج في نور الشمس تبدو للرائي من بعيد وكأنها تل من الذهب يقوم من البراري الممتدة من حوله. كما كانت توجد بين يدي الضريح المطهر بركة من النحاس تزيد في جمالها أشعة الشمس المتراقصة فوق سطحها الصقيل اللماع الذي يكاد يحاكي سطح القبة نفسه في بهائه وتلألؤه.
ولم يدخل لوفتس إلى الحضرة، لكنه يذكر ان داخليتها كانت على النمط نفسه من البهاء والرونق الاخاذ. لأنه علم ان أرضيتها كانت مبلطة بقطع منتظمة من الأبريز المصفى، وان عدداً غير يسير من الأعلاق الفنية المهداة من المسلمين المؤمنين كانت تزين الداخل كله.
ويذكر كذلك ان الصحن كانت تباع فيه أشياء وحاجات كثيرة، فيقارن ذلك بالمعبد في بيت المقدس الذي دخل اليه المسيح قبل ثمانية عشر قرناً فوجد الناس يبيعون فيه الثيران والأغنام، والصرافين يتاجرون بالعملة. ولقد لفتت نظره على الأخص طيور الحمام الكثيرة كذلك.
ويقول لوفتس انه حينما خرج مع جماعته بعد مدة غير طويلة لاحظ في السوق ان الوجوه كانت مكهفرة والجو مكهرباً، فأدرك السبب الذي حدا بطاهر بك إلى أن يأتي بالجند المسلح معه.
ولقدسية النجف هذه كان يقصدها الزوار الشيعة من جميع الأنحاء على حد قوله، وعلى هؤلاء كانت تعيش البلدة بأجمعها. وهو يقدر معدل عدد الزوار الذين كانوا يفدون عليها في كلّ سنة بمقدار (000/80) شخص، كما يقدر عدد الجنائز التي كان يؤتى بها للدفن بشيء يتراوح بين (5000) و (8000) جنازة في السنة وكانت الجثث تنقل من بعيد على ما يقول بصناديق مغلفة باللباد الخشن، وتحمل على ظهور البغال، ولذلك كانت كلّ قافلة تصل إلى بغداد من ايران على الأخص لابد من أن يكون من بين أجمالها عدد من هذه الصناديق التي كان منظرها مألوفاً في الطرق المؤدية إلى النجف.
وكانت الاُجور التي تفرض على دفن الجنائز تتراوح ما بين عشرة توامين ومئتي تومان (خمسة إلى مئة باون استرليني)، وأكثر من ذلك أحياناً. وكثيراً ما كانت الجنائز تتكدس خارج السور مدة من الزمن حتى يتم الانفاق على الاُجرة التي يتحتم على الأقارب دفعها.
ثم يذكر ان توارد الزوار على النجف بكثرة قد أغناها غناء غير يسير في تلك الأيام، كما يستدل من التوسع التي طرأ عليها في تلك السنين والسور الجديد الذي اُنشيء لها. وكذلك يشير إلى انه وجد أن نهراً كان يحفر لايصال الماء إلى البلدة من الفرات، وحل مشكلته، وإلى فضول أهالي النجف وتجمعهم حول الأجانب القادمين من الخارج إلى حد أن البعض منهم كان يأتي بأهله ونسائه للتفرج عليهم.

موسوعة العتبات المقدسة. قسم النجف