الدكتور كمال السامرائي

الدكتور كمال السامرائي

د. عبدالأمير الأعسم
درس الدكتور كمال السامرائي و ترعرع في أسرة فاضلة بسامراء، و قرأ و طبق في كلية الطب ببغداد، و لم يفكر في أن يتقدم لدراسات عليا لأنه تمرس في العلوم الطبية بالتجربة في الطب النسائي، و رقي للتدريس في الكلية التي تخرج فيها، حتى غدا من أهم و أكبر أطباء الطب النسوي في العراق.
واستعان به البلاط ليكون طبيب الملكة عالية عندما استمكن منها المرض العضال.

وبحسب مذكراته وافى الأجل الملكة و كان رأسها على كتفه! وللمرحوم السامرائي شهادات بحق ما كان يجري حوله في البلاط و بخاصة قصر الرحاب. فقد تعرف على الملك فيصل الثاني، و الوصي عبدالاله، و باشوات البلاط مثل نوري السعيد و ناجي شوكت و أرشد العمري …الخ، فكان هؤلاء، و غيرهم الكثير من شخصيات المجتمع العراقي، قد أودعوه أسرار زوجاتهم و بناتهم و أخواتهم،فكان أمينا بحق مع علمه ومهنته ومريضاته الى منتهى الأمانة.

كان المرحوم كمال نطاسيا بارعا، لقيامه بما لايحصى من عمليات قيصرية في مستشفى المجيدية (= مدينة الطب بعد 1968). و لم يمارس الدكتور كمال لعبة السياسة، لكن آراءه كانت، سلبا أو ايجابا، واضحة فيها و بالقيمين عليها، في مذكراته التي تضمنت أوصاف رجالات العراق بحسب استحقاقاتهم غير خاضعة لقوة السلطة. كان الدكتور كمال يعتبر نفسه خارج نطاق السلطة حتى وهو يتحدث في أخطر الموضوعات، مثل مقتل الملك غازي، أو وفاة الملكة عالية. و مذكراته تعج بالروايات التي صارت في ذمة التاريخ، لكنه يرويها كأنه مصدرها الوحيد.

والدكتور كمال كان كثير السفر، وجاء وصفه لرحلاته ذكيا بارعا فيه لمسات فنية جميلة، وقد استنفد طرقه في السفر برا وبحرا و جوا على نحو غريب لطبيب متقن لعلم الجراحة و مهتم بوظائف الأعضاء، و بالذات التناسلية و التوليد. كان أديبا فنانا، و جغرافيا مؤرخا، وعاشقا للجمال في الطبيعة. و المرأة عنده تمثل ذروة الجمال و كنز البشرية.

كُرم الدكتور السامرائي مرات عديدة في حياته، أبرزها تكريم جامعة لندن التي عدته مهنيا عالي الابداع في الطب النسوي من الناحية العملية، و علميا واحدا من أبرز المعنيين بتاريخ الطب عند العرب. ومؤلفاته في الطب العربي تعتبر مرجعيات ذات قيمة خاصة لأنها صدرت عن طبيب إمتزجت تجربته بمعرفته التاريخية. و من هنا كانت لديه مكتبة نفيسة عامرة بمصادر الطب و مراجعه، من كتب و مجلات و دوريات و أبحاث، عني بها كل العناية على نحو استثنائي بالتنظيم و التجليد و التذهيب حتى صارت مكتبة جامعة لكل ما قيل و كتب في تاريخ الطب بعامة والطب العربي بوجه خاص. علاوة على اهتمامه الشديد بجمع مصورات أعمال المستشرقين في الطب من مختلف اللغات، حتى تكونت لديه مجموعات طبية تراثية وحديثة و معاصرة يندر أن يمتلكها انسان في العالم. و أخبرني، رحمه الله، سنة 1997 أنه أهداها الى دار الكتب و الوثائق العراقية.

كنت أعرف الدكتور كمال منذ طفولتي عندما توفي في مستشفاه أحد أولاد عم والدي سنة 1952، و منذ شبابي عندما رأيته في مستشفاه سنة 1957 يتابع مع الدكتورة لميعة البدري الوضع الصحي لخالتي التي كانت تعالج من قبلهما، و شفيت و عاشت بعد ذلك ثلاثين عاما حتى توفاها الله 1997. و لكني لازمت معرفته منذ سنة 1991في مؤتمر الباراساكوليجيين، وكان معه الدكتور عبداللطيف البدري و الأستاذ حسين علي محفوظ. و في نفس السنة تأسس ملتقى الرواد فكان الدكتور كمال رئيسه،وكنت عضوا فيه. و عندما تأسست جمعية العراق الفلسفية سنة 1992،و كنت رئيسها، اقترحت اسمه عضوا فخريا في الجمعية مع مجموعة شخصيات فكرية و علمية، فزرته لأبلغه بالقرار، فكان مسرورا لأننا سميناه (ابن ماسويه) الذي جمع بين الطب و الفلسفة. و في سنة 1993 دعوته الى جامعة الكوفة، عندما كنت عميدا لكلية الآداب فيها، بالتعاون بين جمعية العراق الفلسفية و جمعية الباساكولوجي العراقية و بين جامعة الكوفة. و ألقى محاضرة شاملة لخص فيها كل آرائه في تاريخ الطب العربي. و في سنة1995 دعوته للمشاركة في الندوة الفلسفية ببيت الحكمة ببغداد، مع أنه بدأ يضعف و قد وهن جسمه، فقد حضر و شارك المنتدين بمعرفته الفلسفية بحماس شديد لفت إنتباه المعنيين بالفلسفة الذين لم يعرفوه عن كثب : كم كانت معرفته الفلسفية دقيقة و مؤثرة! و التقيته سنة 1996 في تشيع جثمان المرحوم الدكتور عبدالله سلوم السامرائي من منزله في حي العدل الى مثواه الأخير في مقبرة أبي غريب، فقد كان الدكتور كمال حزينا صامتا يلفه جزع هاديء و هو يلقي النظرة الأخيرة على فقيده. و لا أنسى أن المرحوم كمال حضر إفتتاح ندوة ابن رشد في بيت الحكمة سنة 1998، لمناسبة إحياء الذكرى المئوية الثامنة لوفاته (1198-1998).

والتقيت بالدكتور كمال في اللقاء الأخير، الذي كان الأكثر ثراء بيننا في منزله بالشماسية قبيل وفاته بأشهر، و شاركني في لقائه الصديق الدكتور عبدالستار الراوي. واتصف اللقاء بجلسة مباحثات و مطارحات في تاريخ الفلسفة و العلوم و الطب بالذات. و كنت طلبت منه أن يقبل بفكرة تسجيل الجلسة كلها، فوافق، و لكنه قال :"لو جرى الحديث مجرى سياسي أنت المسؤول"!! وكان وقتها قد بدا عليه الضعف تماما، و قد ناهز الثمانين، لكنه تمتع بذاكرة خارقة لكل الأشياء التي تحاورنا حولها، فدامت الجلسة ثلاث ساعات، و قد كان إستقبلنا ثم ودعنا و هو جالس في فراشه الوثير، وكلماته الجميلة تصلنا حتى و نحن نترك باب المنزل الى الحديقة الخارجية لنذهب من حيث أتينا مودعين من قبل زوجته و رئيس حراسه. وقتها، و يدي تتحسس جهاز التسجيل الصغير و الأشرطة الأربعة، لم أكن أعلم أن هذه الزيارة هي الأخيرة التي أراه فيها.

و بعد حين، بينما كنت في إحدى سفراتي العلمية لحضورأنشطة فلسفية في روما و تونس و الجزائر، رجعت بعد شهر ليتلقفني الآخرون بخبر وفاة الدكتور كمال، رحمه الله، فحزنت كثيرا. وبعد أيام شاركت، في ملتقى الرواد، الزملاء الأعضاء في تأبينه لمرور أربعين يوما على غيابه عنا. نعم، لقد مات الرجل الذي أحببناه، و كان لدينا أجمعين مكان في قلبه الكبير.