زمن عريان...حول بعض مواطئ الشاعر عريان سيد خلف

زمن عريان...حول بعض مواطئ الشاعر عريان سيد خلف

(معاينة في قصيدتي"غربه 1965" و “ردي...ردي 1967")
عبد العزيز لازم

نشا مع منابت القصب وتنشق رائحة مواسم الحصاد واستمع إلى حكايات المجالس ثم استوى على الدكه يحدثنا عن الشوق إلى الآتي. إن اسمه قد ارتبط بالندرة فهو النادر في عائلته لذلك مطلوب منه أن يكون عريانا بالاسم كي يبقى بينهم أثيرا ومحبوبا وعصيا على العواصف.

أما هو فأراد أن يكون عريانا لأنه يكره الكتمان ولا يرى في حقائق الروح إلا أن تسيح في رحاب البوح، لأن البوح عنده هو هويته الحقيقية.

إن الحديث عن الشاعر عريان السيد خلف لابد وان يجرنا إلى الحديث عن وجهين من القضية أولهما الشعر الشعبي العراقي ذاته والثانية غياب نقد الشعر الشعبي تماما عن ساحة النقد الأدبي الذي هو أصلا يعاني من أزمة تحدثنا عنها في مناسبات أخرى. لكن الشعر الشعبي العراقي تميز عن قرينه الشعر الفصيح في كونه لم يعش أزمة إنتاج كمي أو نوعي كالتي يمكن تأشيرها في حالة الشعر الفصيح. وهذه يمكن فهمها أيضا وردها إلى طبيعة الشعر الشعبي نفسه خاصة تلك السمة التي تتجسد في ارتباطه بأدب القول أو الأدب الشفاهي أكثر من ارتباطه بالورق والقلم والكتاب. وهو هنا يمتلك حرية اكبر في التخلص من مخالب الضغط التي يمكن أن تصدر عن جهات اجتماعية أو سياسية شتى.
كما أن الشعر الشعبي كان ولازال اٌقرب إلى مكنة الرجال والنساء مما أدى إلى اتساع قاعدة منتجيه وانتشار مواويله في تضاعيف التجمعات البشرية الظاهرة أو المعزولة، حتى صارت الأذن العراقية فائقة القدرة والحساسية في التقاط ما تطلقه أي شفاه ترتجل الكلام الملحن. بل إن الباعة في شوارع المدن باتوا يتفننون في دعوة الزبائن لشراء بضاعتهم عبر إطلاق عبارات الدعاية المغناة بما يشبه الأراجيز وشاع مؤخرا تسجيل هذه الأراجيز وإطلاقها عبر مكبرات الصوت.. لكن هذا الكم العفوي الهائل قد أولد معه مشاكله كأي ظاهرة اجتماعية، فالشعراء الشعبيون الجادون أصحاب الصنعة يرون إن العمل الشعري الشعبي هو عمل إبداعي يمتلك ضوابطه التي ينبغي إن تؤسس الإطار القياسي للجودة.ويرون أيضا إن الخروج عن تلك الضوابط أو انعدام الدقة في الالتزام بها أو إهمالها ينذر بوجود ما يهدد كيان القصيد باعتباره مبادرة وجدانية تنشأ داخل الروح وتبحث عن إنائها الذي تسكب نفسها فيه. لكنهم يؤسسون أيضا رفوفاً للجودة متدرجة الترتيب فاتحين الباب أمام المبدع كي يفعّل خياله الخاص ليقتنص ما يقدر عليه من الجواهر ويترك الباقي على المنتفعين بها من الباحثين عن المتعة الروحية، تل المتعة التي هي من صميم وظائف الشعر. إن الشاعر الشعبي في نظرنا لا يمتلك هامش التخطيط الذي يمتلكه زميله مبدع الشعر الفصيح ذلك لأن الشاعر الشعبي غير مضطر كثيرا إلى هذا التخطيط، فهو يطل على مساحات شاسعة من الموروث الشعبي الذي سرعان ما يجول في صدره عارضا عليه مكنوناته النادرة، وعلى الشاعر هنا أن يوظف حساسيته التي لا يوجد مثيل لها عند غيره من الشعراء في الغوص في مطامر الجمال ما أمكنه ذلك. وتكمن موهبة الشاعر هنا في اختيار البريق الخاص الذي تطلقه حقائق روحية ذات رنين سري يحفّز خلايا التلقي المنتظرة في نفوس الناس ألباحثين عن مفاتيح البشاشة فيما يطلقه صدر الشاعر من مفاتحات. فأين يقف الشاعر عريان السيد خلف من كل ذلك؟ إننا بطبيعة الحال لا نستطيع أن نرى موقع الشاعر أو مواطن إنصافه دون ذكر رحلته في عالمة الشعري. فالرجل منذطفولته وصباه لايكف عن السير عاري القدمين، بل انه في بحثه يتعمد الولوج إلى أصقاع تغطيها الأشواك لأنه يعتقد إن الأرض الصعبة تكتنز في داخلها بحقائق لا يستطيع الوصول إليها إلا ذلك النمط من المغامرين ممن يتحملون الوخز. أولئك الذين يتحلون بالغناء حين تدمى أقدامهم. وكأنه يضرب على وتر صنوة (ناظم حكمت) حين حبسوه في مكان قذر وكانت رجلاه تغوصان حتى الركبتين في القذارة، لكنه في ذلك المكان أطلق أجمل أشعاره الغنائية. ويجب إن نشير هنا إلى إن ارض ناظم أختلقها الطغيان البشري في الواقع العياني، لكن ارض عريان خلقتها خلوة صوفية متواصلة ساطعة الامتعاض وعصية على التطويق وجدت غذائها في تضاريس التاريخ والجغرافية معا ثم تماهت معهما في وحدة امتلكت
قوانينها الخاصة. فلم نر شاعرا في التاريخ الأدبي العربي يكره الرحيل أو السفر مثل عريان، ليس لأنه يرفض فكرة السفر على إطلاقها، بل لأنه يخشى لدرجة الرعب من أن مواطن أغانيه سترحل معه وتفقد بذلك اتزانها، لأن عنصر الاتزان في مخلوقات عريان تكمن في موطن الولادة، فلا هو ولا أغانيه يستطيعان الأداء بله العيش في أحراش بعيده.لكن الشاعر في صوفيته كثيرا ما تحدث في قصائده عن
الغربة، وهي هنا غربة روحية في وطنه، فبصف روحه (وليعذرني إذا حاولت توضيح بعض العبارات بين الأقواس حيثما تطلب ذلك إلى الناطقين بالعربية من غير العراقيين):
يا روحي الغريبة
يالمثل دله استوت...
بوجاغ....
ما يخمد لهيبه...
....................
وهذا طبع الناس...
بيهم بد وفه...
أو بيهم وفي....
اتجيبه الحليبه
بحليب الأم"...
وانتي...
لا جف الينشف العين..
لا دار الولف يمج جريبه

ونحن لا نريد تحليل مفردات النص بالتفصيل لكننا نريد أن نطل على أصقاع تقع خلفه في محاولة لاستطلاع حقائقه البعيدة التي تقذفها أمواجه علينا فنزعم إن مكامن الغربة عند الشاعر تنشأ من مصدرين سائدين، أولهما فداحة الكبح الموجه ضد حلم الشاعر حول عالم قائم على مروءة هي في عالمه الراهن مغتصبة و ممنوعة من التعبير عن نفسها وكشف معدنها الجميل وهي لذلك معاقة القدرة على إشاعة الأنصاف لصالح الإنسان المغدور، انه حلمه بعالم تسود فيه العدالة ويعم الرخاء حياة الناس. وثانيهما رؤيته لأخيه الإنسان وهو يتخلى بسبب ضغط القوة الكابحة وجبروتها عن إنسانيته ومروءته ويتحول إلى تابع مستكين لعوامل التشويه التي تنظمها (المصائب) الناشئة عن حركة الطغيان. ورغم إن النص الذي أستل من قصيدة (غربة) لغرض توظيفه كمثال يتحدث عن نفسه بوضوح لكننا نريد أن نتطفل على وسائل الشاعر في إحداث التطهير المطلوب لدى القارئ. انه يعود إلى منابته فيضع في مكان، دله مستعرة بلهيب النار لتناظر ما بنفسه من حرقة على ما يجري، ويضع الحليب (حليب الأم) (منبع الأصالة) في مكان آخر يتجاذب منه مع الدلة الساخنة حوارا مفجوعا حول فداحة حال الأبناء الذين اسلموا أنفسهم لعوامل الجحود. وكأننا أمام امرأتين مخذولتين لا يتبادلان الحوار عن طريق النواح فحسب بل يحرّضان (أو ينخيان) المستمع (أو القارئ) على أن يفعل شيئا إزاء السوء الذي يجري، بعد أن يدفعان بسورة الغضب إلى جوفه فيدفعانه بذلك إلى التبرؤ من ذلك السوء أولا ثم إيصال ما اكتشفه إلى غيرة.
بعد توصلاتنا تلك، نتساءل هل يتركنا الشاعر ننام رغدا ونفرح بما لقينا من كنوزه؟ نعتقد إن عريان بأدبه الجم وسماحة روحه لا يتخلى رغم ذلك عن شغبه الشديد ومشاكساته المتصاعدة ضد واقع لا تستطيع روحه الركون إليه، فحين نتحدث عن الصورة الشعرية التي تولع وتفنن في رسمها غاية التفنن من أجل سكب مكنوناته فيها وصولا إلى انجاز وظيفة الشعر الكبرى، نكون قد وضعنا أنفسنا أمام عالم يقع خلف الصورة نفسها،الأمر الذي يتطلب منا حذرا محسوبا يريده الشاعر نفسه. فحين يريد رمي شباكه علينا يصف نفسه أو أحد أبطال قصائده بالناعور الذي (بترس ويبدّي) (يملأ ويسكب)، الناعور صورة لشيء مرتبط بالزراعة والري. لكنه أيضا دائري الشكل ودائم الحركة كي ينجز وظيفته، ومعروف أيضا هندسيا إن حركة الدائرة لا نهائية، فهي لا تتحرك في الأفق المنظور، وحركة الناعور هن تناظر حركة الأرض التي تكتسب امتدادها اللانهائي من دائريتها (والأرض مددناها أي جعلناها لانهائية الامتداد عن طريق جعلها دائرية - تفسير الآية القرآنية، من رسالة جد الشاعر الكبرى). إن الناعور حسب أجواء القصيدة يساهم في تكوين حالة امتعاض شديد،لكنه يقول لنا إن الاستمرار على الدوران والعطاء رغم عوامل الغيض هو من صميم طبعه وليس له خيار آخر غير الإصرار على ذلك. انه حالة رمزية لقوة خيّره تعرضت باستمرار للضغط وأفعال الإعاقة لكنها مصرة على انجاز رسالتها مستمدة صبر المطاولة مما تحمله من خير للأرض والناس وهو مضمونها. يستخدم الشاعر تقنية التشبيه بشكل محكم لرسم صورة الصراع الذي يخوضه المتكلم صاحب القضية الذي يشبّه نفسه بالناعور مكونا عمقا دراميا باهرا لطبيعة الصراع. إن صاحب القضية ذاك يجذب نفسه ويعود إلينا ليخاطبنا بروح مستقرة:

آنه موش أوّل زند...
يشتل شلب...
ويحصد بردي...
ولانه بس أتغربت...
تغرب...
والمعتنيله...
إيصير ضدي

مفردتان مهذبتان تتحكمان بكل هذا الضجيج المعذب الذي يطلقه شتل الشلب وحصاد البردي والغربة وذاك (المعتني له) الذي يصير (ضدي)، هما (أوّل) و(بس). فهاتان المفردتان تلخصان درسا لتجربة قاسية مفاده إن الكبوات وحالات الفشل لا تعنيان نهاية الطريق الذي يضم من يسير نحو ضوء يراه هو خلف التلال التي أمامه. لذلك نرى النص يدخلنا في أجواء واقعية قاتمة ثم يجعلنا نستمد الطاقة المحركة اللازمة من كل الحزن الناشئ كي نستعين بها على مواصلة السير نحو الأجمل والأبهى (وهو وصف للمستقبل يكرره الشاعر) عبر تجاوز الضيم المتفشي. رغم إن ستينيات القرن الماضي قد شهدت حضور الشاعر ضمن دائرة المقربين أو صفوة المتابعين لشؤون الشعر الشعبي
، إلا أنه بدا بعد ذلك في عيون اللاحقين مثل نجم بدأ رحلته منذ سنين ضوئية غائرة بعيدا في جسم الزمن حتى لكأننا نوشك أن نتوقع منه أن يحكي لنا شعرا عن طوفان نوح وقصة الخليقة أو عن صراع كلكامش من أجل الخلود. انه يؤرخ لعواطف الناس الأزلية وهمومهم، ويكره لشدة ارتباط بساطته بعمقه أن يكون شاعرا مثيرا للجدل،لأنه يقدم خطابا لا تستطيع أن ترفضه مهما كانت قواعدك وإذا تأملته فانك كمن ينظر إلى شبكة جداول تتفرع من الرافدين لتفرغ محتوياتها في النهاية في الأهوار الممتدة. وإذا رافقته إلى أعماق ابعد ستجد إن أهواره تغترف أيضا من البحر الشاسع، بل إنها تستعير بعض مياهها من جوف الأرض نفسها.لقد وجد هذا التماهي النادر بين الشاعر والوطن وجها آخر له ليلة التغيير الدرامي في حال البلاد عام 2003 فقد رأينا عريان يظهر بقوة على مواقع الانترنت وشاشات التلفاز وكأنه علامة مميزة للتغيير،أو متنفس للناس كي يطلعوا على شعره ويتصلوا به بحثا عن ترجمة مطلوبة لمشاعرهم بعد أن كان ذلك ممنوعا عليهم.فهل يعيش الناس اليوم زمن عريان؟
انه يحيط بنا ويدعونا ببساطه لمشاركته في بناء تلال الورد....

سبق لهذه المادة ان نشرت في صحيفة
طريق الشعب وهي من آخر مقالات
الراحل عبدالعزيز لازم