بول ريكور من اليتم إلى الأسر..  سيرة موجزة للفلسفة

بول ريكور من اليتم إلى الأسر.. سيرة موجزة للفلسفة

اعداد / عراقيون
ولد بول ريكور في السابع والعشرين من شباط العام 1913 في (فالانس)، في منطقة (الدروم). فقد ريكور أمه منذ نعومة أظافره، أما والده كان مدرسا ثانويا، قتل في أثناء الحرب العالمية الثانية. وتربى بول ريكور في كنف جديه اللذين كانا من المتزمتين البروتستانت. اخذ في بداية تعليمه دروسا في الأدب، ومن ثم في باريس، حاز (الأغريغاسيون) في الفلسفة،

وتابع في ما بعد حلقات (السهر) عند غابرييل مارسيل الذي كان بمثابة الوجه الأبرز من وجوه (الوجودية المسيحية)، و نشأت صداقة بين الاثنين.
درّس بول ريكور الفلسفة في (كولمار) ومن ثم في (لوريان) قبل أن يقع في الأسر عام 1939 حيث سجن في ألمانيا. وهناك استطاع أن يقدم رشوة لحارسه في السجن مقابل أن يجلب له الكتب. وفي مدة السجن هذه ترجم إلى الفرنسية أعمال هوسيرل، كما كانت تلك الأيام لحظات تعرفه الاولى على ياسبرز.
في عام 1939 حين تم تجنيده في صفوف الجيش كملازم بالجبهة الشرقية. وذاق ريكور ويلات الحرب حتى الثمالة حين أسَرَتْهُ القوات الألمانية في احدى المعارك واحتفظت به في معسكرات الاعتقال ببولندا لمدة اربع سنوات كاملة. وبرغم ظروف الاعتقال القاسية ثابر ريكور على قراءة أمات الكتب الفلسفية بلغة المحتل الألمانية وقرأ كل أعمال الفيلسوف كارل جاسبرز أحد اقطاب الوجودية ذات النزوع الديني. بل أنه قام بترجمة كتاب للفيلسوف الألماني ادموند هوسيرل مؤسس المدرسة الظاهراتية الألمانية بخط اليد على حواشي الكتاب الأصلي بقلم الرصاص لعدم توفره على الورق. ويحكي أنه كان يعطي دروسا في الفلسفة والأدب للمعتقلين برفقة صديقه الناقد الفني ميكيل دوفرين.
بعد نهاية الحرب عاد ريكور الى باريس وانضم للفور الى كوكبة من المفكرين الفرنسيين المبشرين بالمدرسة الظاهراتية الألمانية المتحلقين حول مجلة Esprit روح وكان من بينهم جون بول سارتر وايمانويل ليفيناس وموريس ميرلو بونتي.
وطوال سنين عديدة اكتفى ريكور بالنشر في المجلات الفكرية والأدبية وعُرف بنهم ثقافي كبير لمدوامته على القراءة وهي سمعة لازمته طويلا حيث كان في نظر الكثيرين مجرد قارئ بارع وليس مبدعا لمفاهيم جديدة. عام 1950 نشر ريكور أطروحته الجامعية الارادي واللاارادي وبعد عشر سنوات سيصدر الجزء الثاني تحت عنوان الانسان المعرض للخطأ ثم الثالث تحت عنوان رمزية الشر وتشكل هذه الكتب الثلاثة الهيكل النظري الذي بنى عليه ريكور اجتهاده الفلسفي وطور قراءة ظاهراتية وجودية لمسألة الارادة من خلال تحليل دقيق للتجربة الانسانية اليومية المتجلية في التردد مثلا والاختيار والعاطفة والجهد. واستثمر ريكور آليات التحليل النفسي الفرويدي في تحليله الأفعال اللاارادية ورمزيتها الأخلاقية وقدم مقاربة تأويلية لقضيتي الاثم والشر. لكن ايمان ريكور الديني كان مثار امتعاض زملائه خاصة الوجوديون منهم ومن هنا الانتقادات التي كانت توجه اليه وتصف أعماله بكونها اجتهادا دينيا داخل الحقل الفلسفي برغم أن ريكور كان دوما يقر باستقلال الفلسفة عن الدين. واذا كان ريكور خصص في سنوات الخمسينيات معظم جهده قراءة وكتابة للظاهراتية في الستينيات انصب اهتمامه على العلوم الانسانية خاصة علم النفس الفرويدي مما خلق له بعض المشاحنات مع جاك لاكان واتباعه. كما اهتم ريكور بالاتنولوجيا وغاص في اعمال كلود ليفي شتراوس الأمر الذي أبعده عن دوائر البنيويين المتحلقين حول جون لوي ألتوسير. ومن هنا يمكن فهم اللغز الذي تحدثنا عنه في بداية هذه المقالة وسر التهميش الذي تعرض له بول ريكور في ساحة فكرية فرنسية كان يسيطر عليها آنذاك اما الوجوديون من أتباع سارتر أو المحللون النفسانيون المتكتلون خلف جاك لاكان أو دعاة المدرسة البنيوية
بعد التحرير اندمج ريكور في خانة (مدرسة الفينومينولوجيا) طبقا لعنوان أحد كتبه، فدرّس في جامعة ستراسبور، وتابع رحلته مع الفلسفة الألمانية مع تحفظات رافقته على فكر هايدغر.
كان ريكور منذ العام 1947 عضوا في هيئة تحرير مجلة (إسبري)، وعام 1956 تبوأ ريكور كرسي الفلسفة كأستاذ محاضر في جامعة السوربون وهو منصب سيتخلى عنه بعد عشر سنوات برغم أهميته ليساهم برفقة ثلة من كبار المفكرين مثل جيل دولوز وآلان تورين في تأسيس جامعة نانتير.
وأثناء ذروة الانتفاضة الطلابية في ايار (مايو) 1968 تعرض ريكور لمغامرة أليمة أثرت في وجدانه بشكل قاس وضاعفت من شعوره بالغبن وسوء الفهم مع الآخرين. فباعتباره عميدا للجامعة كان أيضا عضوا باللجنة التأديبية التي تم انشاؤها لمعاقبة زعماء الطلاب المنتفضين وعلى رأسهم دانيال كوهين بنديكت. وبرغم أن ريكور كان ينظر بعين الرضا إلى الانتفاضة الطلابية ويعتبرها فرصة تاريخية لاصلاح الجامعة فقد كان الطلاب خاصة أولئك وراء الشعارات الثورية يعتبرونه رجعيا وخصما سياسيا تجب محاربته. هكذا عانى عنجهية السلطة التي بعثت بفيالق الشرطة لاقتحام الحرم الجامعي وقمع الطلاب وعاني الوقت نفسه تحامل بعض الطلاب خاصة الماويون منهم الذين حاصروه في مكتبه واندفع أحدهم ليضع على رأسه سلة زبالة امعانا في اذلاله. وقد شاعت هذه الواقعة في الأوساط الثقافية وصارت حديث المتندرين والمتشفين وقيل لاحقا أنها كانت السبب وراء هجرته الى الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما نفاه في حواراته الأخيرة مؤكدا أن الأمر يتعلق بنوع من الخيبة الفكرية وأن الأمر لا علاقة له بواقعة سلة المهملات. وكانت مواقفه السياسية، في الستينيات، لصالح استقلال الجزائر، السبب في توقيفه. عين في العام 1956 في جامعة السوربون، لكنه أحس هناك بالعزلة، لذلك استفاد من إنشاء جامعة (ناتير) (السوربون الجديدة) ليدرس فيها بدءا من العام 1966، وليصبح عميدها العام 1969 على الرغم من أنها أصبحت أكثر الأمكنة غليانا بالحركة الطلابية (بعد أيار 1986). وهناك تعرض لبعض المضايقات الجسدية التي شنها عليه طلاب اليسار الذين وضعوا على رأسه سلة مهملات تيمنا بالجملة الشهيرة (مزابل التاريخ) في هذه الفترة تنازعه أمران، الأول قربه الثقافي من التحركات الطلابية، والثاني همه في الاستمرار بالاضطلاع بأعماله الإدارية الجامعية، لذلك فضل تقديم استقالته العام 1970.
بعد ان تابع دروس لاكان ومحاضراته، نشر كتابه (عن التأويل)، بحث فيه حول فرويد الذي جلب له الكثير من مضايقات الفرويديين. درس فترة طويلة في جامعة شيكاغو، وبعد عودته إلى فرنسا تسلم إدارة (مجلة الميتافيزيقا والأخلاق)، ونشر كتاب (الزمن والسرد) العام 1983. وصفت فلسفته بأنها تقوم على ثلاثة أقانيم: (الفلسفة التأملية الفرنسية) و(المثالية الألمانية) و(الأنغلو ساكسوني) في إيجاد خطاب دقيق.
من بين أعماله العديدة التي وسمت جيلا كاملا من الفلاسفة الفرنسيين وبخاصة دريدا وليوتار كانت (فلسفة الارادة) و(تاريخ الحقيقة) و(أزمة التأويل) و(الزمن والسرد) و(أنا نفسي بمثابة شخص آخر) و(الذاكرة، التاريخ، النسيان).
حاز بول ريكور العديد من الجوائز، أبرزها جائزة هيغل وجائزة كارل ياسبرز وجائزة الأكاديمية الفرنسية الكبرى للفلسفة، وجائزة مدينة باريس الكبرى وغيرها