رفعت السعيد.. خبرات نادرة في السياسة والتاريخ والثقافة

رفعت السعيد.. خبرات نادرة في السياسة والتاريخ والثقافة

د. عبدالعليم محمد
رحل عن عالمنا الدكتور رفعت السعيد.. وربما فوجئ الكثيرون بالإجماع الرسمى وغير الرسمى على قيمة الرجل ومكانته فى الحياة السياسية والثقافية والفكرية، حيث التقى فى مشهد عزاؤه جميع أطياف النخب السياسية والفكرية من اليسار واليسار القومى والليبراليين وغيرهم، وكذلك مختلف الأجيال من هذه النخبة، ودلالة ذلك هى بالتأكيد الاتفاق حول أهمية الدور الذى لعبه الراحل الكبير فى الحقل السياسى والفكرى طيلة العقود المنصرمة، لقد درجنا، نحن المصريين،

على الاعتراف المتأخر بمكانة وأهمية من يرحل عن عالمنا، وكأنه تنقصنا الجرأة والشجاعة على الاعتراف بمكانة الأشخاص والرموز الوطنية فى أثناء حياتهم أو أننا نبخل عليهم ببضع كلمات فى أثناء حياتهم قد تمنحهم بعض الأمل فى الحياة أو تحثهم على التمسك بما بقى منها.

جمع الدكتور رفعت السعيد خبرات نادرة فى السياسة العملية والنظرية والتاريخ والثقافة وجمع فى وقت واحد بين وجوه متعددة، ولكنها لم تكن متضاربة بل كانت جميعها تسترشد بنموذج إيديولوجى وفكرى وسياسى قابل للجدل والاختلاف، ولكنه يحمل على الاحترام والتقدير، فهو المناضل الاشتراكى فى إطار الظروف التاريخية الوطنية والعالمية التى رسمت صورة ذلك النضال، كما أنه المثقف الذى حاول أن يكون عضويا بتعبير «جرامشى"وموسوعيا بحكم تنقله بين حقول التاريخ والثقافة والفكر والسياسة ووجه الإنسان الكونى والأممى الذى يضع هموم وطنه فى التحرر الوطنى والاجتماعى فى إطار أشمل وممتد إقليميا ودوليا وما يترتب على ذلك من أعباء ومواءمات والتزامات.
انتقل الدكتور رفعت السعيد فى حياته النضالية الحافلة من الدعوة للتغيير الثورى إلى الدعوة للإصلاح والتنوير، واستند هذا الانتقال إلى مرجعيته الإيديولوجية والفكرية، حيث كان لينين المنظر الماركسى وزعيم ثورة 1917 البلشفية يقول «إن الثورى يمكن أن يكون إصلاحيا فى حين أن الإصلاحى لا يمكن أن يكون ثوريا» ومن ثم كانت دعوته الإصلاحية تقع فى صلب تطوير الدعوة إلى التغيير واختلاف الظروف والملابسات، وتطويع النموذج الإيديولوجى ليتلاءم مع الواقع والضرورات العملية، وكان يرى من ثم أن إعلاء الإيديولوجيا على الواقع نوع من الجمود والسلفية بل والأصولية ويدخل فى صلب تقديس النصوص غير المقدسة ويعزز من عزلة اليسار.
فى منظور هذا الزمان المعلوم، من المؤكد أن القيم والأفكار والأهداف التى احتواها النموذج الإيديولوجى والفكرى للدكتور رفعت السعيد قد تغيرت، وتحولت واتخذت مناحى مختلفة وسلكت سبلا غير تقليدية، ومع ذلك فإن موقف الدكتور رفعت السعيد منها كان صادقا وجديرا بالاحترام والتقدير.
مرت حياة رفعت السعيد بمراحل ومحطات متميزة ومتغيرة وفق الظروف ووفق رؤيته السياسية، ففى مرحلة السادات وبداية الانفتاح الاقتصادى وبدء تحلل النظام من التزاماته تجاه حقوق الكادحين والبسطاء أعطى الأولوية للدفاع عن العدالة الاجتماعية، ودعم بقوة انتفاضة الخبز فى عام 1977 ومن شاركوا فيها من المناضلين اليساريين وغيرهم سواء من كان يعرفهم أو من لا يعرفهم، فجميعهم سواء أكانوا أعضاء فى الحزب الذى شارك فى قيادته أم ينتمون إلى جماعات يسارية أخرى ولم يخلط رفعت السعيد بين موقفه من النظام وإدارته وبين الدولة وركز انتقاداته وممارساته حول السياسات التى فتحت الباب للالتفاف حول حقول المواطنين المكتسبة.
وفى مرحلة مبارك ومنذ بداية الثمانينيات ركز رفعت السعيد على دعم الدولة فى مواجهة الإرهاب ودافع عن الدولة المدنية، وتبنى موقفا صارما ضد خلط السياسة بالدين، حيث إن ذلك فى تقديره يفسد الدولة والدين فى آن واحد. كانت الدولة المدنية فى رؤيته هى الوعاء الحديث والصحى والملائم لتحقيق المواطنة والمساواة وحرية الاعتقاد والضمير، ودق أجراس الإنذار مبكرا للتنبيه إلى خطورة هذا الخلط بين الدين والسياسة وربما كان من القلائل الذين يذكر لهم السبق فى هذا المجال وظل على هذا المنوال حتى وافته المنية.
كان يدرك مخاطر «التأسلم"كما كان يسمى أولئك الداعين إلى هذا الخلط على الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط بل بين المسلمين بعضهم بعضا، كما كان يدرك أن هذا الطريق أى هذا الخلط هو الوصفة السحرية لتفكيك الدولة الحديثة وهدم البنى المؤسسية والدستورية والقانونية التى تأسست عليها عبر ما يفوق القرنين من الإصلاح والنهضة والتنوير، هذا الخلط فى تقديره كان هو طريق العودة إلى القبلية والعرقية والعشائرية والبنى التقليدية لما قبل الدولة الحديثة.
خبر رفعت السعيد، من خلال احتكاكه بهذه الجماعات فى السجون وخارجها، المرجعية الفكرية لها وثوابتها التى تتمسح بمسوح القداسة وجمودها واستعصائها على التطور واستيعاب المتغيرات الوطنية والإقليمية والعالمية وتوجهها صوب الماضى وليس صوب المستقبل، واتخاذ هذا المضى نموذجا يحتذى وهى دعوة فى نظره منفصلة عن الواقع المعاش، كان يرى أن دعوى الخصوصية التى ترفعها هذه الجماعات هى دعوى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وتمثل نصف الحقيقة فقط، فالصحيح أن ثم خصوصية فى ثقافتنا ومجتمعاتنا، ولكن هذه الخصوصية لا يمكن أن تعنى الانفصال عن العالم المعاصر والعودة إلى الماضى الذى تنشده هذه الجماعات.
ولا شك فى أن هذا التحول فى مسار السعيد السياسى والفكرى من التغيير الثورى إلى الإصلاح ومساندة الدولة فى مواجهة الإرهاب والدفاع عن الدولة المدنية، لا يقتصر عليه وحده، بل شمل العديد من رموز اليسار فى العديد من الدول وتغير مفهوم اليسار ليتخذ مسالك جديدة فى الدفاع عن حقوق الإنسان والدولة المدنية ومكافحة الفقر، ومناهضة العولمة والدفاع عن الأقليات، وفى فرنسا انخرط العديد من رموز اليسار الفرنسى ويسار 1968 فى البنى المؤسسية للدولة الفرنسية، خاصة بعد انتهاء الاستقطاب الإيديولوجى بين اليمين واليسار، وظهور ما يسميه بعض الكتاب «الإيديولوجية الناعمة أو الرخوة"والتى تنحو نحو ملء هذا الفراغ وتروج لقيم حقوق الإنسان والتضامن والكرامة الإنسانية.
يظل رفعت السعيد رغم رحيله أحد مصادر تكوين مختلف الأجيال من اليسار وخاصة جيل 1972، فمن خلاله تعرفنا على تاريخ الحركة الشيوعية والوطنية، وتعلمنا منه قيمة الالتزام والاجتهاد وتقبل النقد البناء ورفض الدخول فى المهاترات الشخصية وحملات التشويه.