كيف اكتشفت (ملحمة كلكامش) قبل 150 عاما؟

كيف اكتشفت (ملحمة كلكامش) قبل 150 عاما؟

دانيال سيلاس آدامسون
في عام 1872، قضى رجل يدعى جورج سميث ليالي معتمة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، في حجرات المتحف البريطاني يتفحص في رقيم طيني مكسور. وكان هذا الرقيم واحدا من آلاف القطع التي عثر عليها في التنقيبات حينها في شمال العراق، وكانت ممتلئة بنصوص كتبت بحروف مسمارية معقدة، استخدمت قديما في بلاد الرافدين، وفكت رموزها خلال حياة سميث.

ويوضح بعض هذه الرقم شؤون الحياة اليومية، للمحاسبين والموظفين في الدولة الآشورية، وتفاصيل أمثال انكسار عجلة إحدى العربات أو تأخر وصول شحنة من الأرز والقار، بينما سجلت ألواح أخرى انتصارات جيوش الملك الآشوري، أو تعاويذ الفأل التي تنبأ بها كهنته ووضعوها في أحشاء خروف قدم كقربان.لكن الرقيم الذي كان سميث يدرسه كان يحكي قصصا، إحداها عن العالم الذي غرق بسبب الطوفان، وأخرى عن رجل بنى سفينة، وعن حمامة أطلقت لكي تبحث عن أرض جافة.وأدرك سميث أنه يقرأ في نسخة من قصة سفينة نوح، لكن الكتاب لم يكن سفر التكوين. إنها ملحمة جلجامش، وهي قصيدة ملحمية نقشت لأول مرة على ألواح من الطين الرطب عام 1800 قبل الميلاد، أي نحو 1000 سنة قبل كتابة التوارة اليهودية (العهد القديم في المسيحية)، وحتى رقيم سميث الذي يعود الى حوالي القرن السابع قبل الميلاد يعد أقدم بكثير من المخطوطات المبكرة لسفر التكوين.
وبعد نحو شهر من ذلك، وفي الثالث من ديسمبر/ كانون الأول، قرأ سميث ترجمة هذا النص على أعضاء جمعية علم آثار الكتاب المقدس.وكان من بين من حضروا للاستماع رئيس الوزراء حينها ويليام غلادستون، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستمع فيها جمهور إلى ملحمة جلجامش طيلة أكثر من 2000 عام.وأثارت قراءة سميث ضجة، فتعامل معها البعض بقناعة دينية، عادا اياها إثباتا للحقيقة الجوهرية التي جاء بها الكتاب المقدس، ولكن ثمة من رآها أكثر إثارة للقلق. إذ صدَّرت صحيفة نيويورك تايمز صفحتها الأولى في اليوم التالي بمقال، يقول عنوانه إن رقيم الطوفان يكشف”تراثا مختلفا عن الطوفان بعيدا عن ذلك الذي ورد في الكتاب المقدس، الذي ربما يكون أسطوريا مثل البقية”.

وبعد أقل من 15 عاما من نظرية داروين عن أصل الأنواع، جاءت ملحمة جلجامش لتبدو للعديدين أشبه بصدع كبير في صرح المسيحية في العصر الفيكتوري.وبدأت قصة العثور على رقيم الطوفان في مكان يسمى تل كوينجق وهو أحد الأماكن الأثرية التي يحفر فيها تنظيم الدولة الآن بحثا عن الآثار الآشورية.وجاءت هذه القصة في كتاب للبروفيسور ديفيد دامروش من جامعة كولومبيا بعنوان”الكتاب المدفون: فقدان وإعادة اكتشاف ملحمة جلجامش العظيمة".
وتقع بلدة كوينجق قبالة مدينة الموصل على الضفة الأخرى من نهر دجلة، وكانت منذ نحو 2700 عاما جزءا من مدينة نينوى آخر عاصمة للأشوريين.وكانت الدولة الآشورية امبراطوية واسعة، امتدت في أوج مجدها من شواطئ الخليج إلى جبال الأناضول في تركيا وسهول مصر.وطيلة ثلاثمائة عام، ما بين عامي 900 إلى 600 قبل الميلاد، كانت الحضارة الأشورية الحضارة الأكثر تقدما على الإطلاق في تلك العصور، وقوة تكنولوجية كبرى استندت إلى ثروات تجارها وبأس جيوشها.وعثر على نقش في تل كويسنجق يظهر الملك الآشوري آشور بانيبال، يتنزه في حديقته بينما يتدلى رأس عدوه ملك عيلام تيومان المقطوع من أحدى الأشجار.لكن الحضارة الآشورية لم تكن منيعة على الغزوات، ففي عام 612 قبل الميلاد اجتيحت نينوى ودمرت تدميرا كاملا في تمرد قاده البابليون، وأضحت أغنى مدينة في العالم حينها أنقاضا. وسقط سكان نينوى قتلى أو أسروا عبيدا، وغطى التراب بقايا مكتبة الملك الراحل أشور بانيبال، ونسخته المكتوبة بعناية من ملحمة جلجامش.
وبعد نحو ألفين وخمسمئة عام من ذلك التاريخ، وفي شتاء عام 1853 رفع رجل يدعى هرمز رسام هذه القصيدة الملحمية من وسط التراب. نشأ رسام في مدينة الموصل على الضفة الأخرى من النهر. وفي ذلك الحين الذي كانت القوى الاستعمارية تنظر فيه إلى السكان المحليين على أنهم ليسوا أكثر من عمال زراعيين، أو اناسا يغطون في الجهل، عين رسام من قبل المتحف البريطاني، ليقود أهم عملية تنقيب عن الآثار في ذلك العصر، وأصبح بشكل أو بآخر أول آثاري يولد وينشأ في الشرق الأوسط. حينما كبر رسام، كانت الموصل مكانا هادئا، وكانت هذه المدينة جزءا من الإمبراطورية العثمانية التي كانت تضمحل تدريجيا، وهذه المدينة، التي كانت مساحة خلفية منعزلة، لم توفر كثيرا من الفرص لشاب يتمتع بالطاقة والموهبة.
لكن في عام 1845 التقى رسام بشخص ما غير مسار حياته، وهو أوستن هنري لايارد. كان رسام يبلغ من العمر حينها 19 عاما. وكان لايارد مستكشفا وصل إلى الشرق الأوسط على ظهر الخيل في نهاية الثلاثينات من القرن السابع عشر مسلحا بمسدسين والكثير من الأموال.وخلال الفترة التي وصل فيها إلى الموصل، كان لايارد قد شاهد بالفعل معبدي بترا وبعلبك بالإضافة إلى مدينتي دمشق وحلب النابضتين بالحياة، لكن آثار العراق غير المكتشفة هي التي استحوذت على لبه.وكتب لايارد قائلا:”غموض كبير يخيم على آشور وبابل وكلدو (ارض الكلدانيين)، فقد ارتبطت هذه الأسماء بأمم عظيمة ومدن عظيمة.....السهول التي ينظر إليها اليهودي وغير اليهودي على حد سواء على أنها مهد سلالتهم".وأضاف:"مع غروب الشمس، رأيت للمرة الأولى تل نمرود المخروطي الكبير وهو يرتفع في مواجهة السماء الصافية وقت الليل، وكان التل يقع في الجانب الآخر من النهر. والانطباع الذي ولده لدي (هذا التل) لا يمكن نسيانه أبدا.الفكرة التي كانت تخطر ببالي باستمرار هي إمكانية الاستكشاف الكامل لتلك الآثار العظيمة باستخدام المجرفة".
وخلال ثلاث أو أربع سنوات، اكتشف لايارد الحضارة الآشورية القديمة، التي لم يكن يعرف عنها حتى ذلك الحين سوى اسم مذكور في صفحات الكتاب المقدس، وملأ المتحف البريطاني بالنقوش والكتابات من المكان الذي شهد مهد الحضارة المدنية.وحينما نشر قصة تنقيباته في عام 1849 في كتاب”نينوى وآثارها"، أصبح هذا الكتاب بسرعة أحد الكتب الأكثر مبيعا.لكن باعترافه، لم يكن من الممكن إنجاز أي من هذه الأشياء بدون هرمز رسام
. وصلت الصناديق التي تحتوي على مكتبة آشور بانيبال إلى لندن في الوقت الذي كان يغادر فيه جورج سميث المدرسة. ومثل رسام، لم يكن سميث عضوا في المؤسسة الفيكتورية، فقد ولد لأسرة تنتمي إلى الطبقة العاملة، وبدأ في سن الرابعة عشرة العمل متدربا في مؤسسة لسك العملات النقدية. وكان الصبي رساما جيدا، لكن بمرور الوقت بدأ عمله، وتأثر خياله فعلا بمغامرات لايارد الجسور والآثار التي وصلت من نمرود ونينوى.وبحلول منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، زار سميث أروقة المتحف البريطاني، وشاهد الرقم المسمارية التي كانت تأتي من قصور الملوك الآشوريين.

ولم يمض وقت طويل حتى استطاع سميث، الذي لم يلتحق بالجامعة ولم يغادر بريطانيا، الوصول إلى أهم اكتشاف في تاريخ وأدب الأمبراطورية الآشورية.تشجع سميث باعتراف زملائه من خبراء علم الآشوريات بجهده، لكن ما كان يريده بحق هو شئ سيجعل اسمه ذائع الصيت، وهو شيء ما يعادل رحلة استكشافية إلى العراق.في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1872 وبينما كان يتهجأ سطور قصيدة رقيم الطوفان سطرا بعد سطر، شعر أنه توصل إلى اكتشاف ما. وكان سميث فرحا جدا، فكتب الى أحد زملائه بأنه”يدور في الغرفة”وأنه من”دهشه اكتشاف هذه الهدايا، بدأ في خلع ملابسه".وبعد شهرين، وبفضل منحة مالية قدمتها صحيفة”ديلي تيلغراف”وقدرها ألف جنيه استرليني، ذهب جورج سميث إلى العراق لاستئناف أعمال التنقيب الأثرية التي بدأت من قبل.
بيد أن جورج سميث كان بلا شك عبقريا، وقبل وفاته بسبب اصابته بالزحار (الديسنتري) في حلب عام 1876، عن عمر ناهز 36 عاما فقط، كان قد نشر ثمانية كتب أساسية عن تاريخ الحضارة الآشورية ولغتها، فضلا عن عشرات الكشوف الآثرية الرئيسية، و أماط اللثام عن أول أعظم عمل أدبي في العالم.
وعقب وفاة سميث، اعيد استدعاء رسام للعمل في المتحف البريطاني. حيث واصل العمل لاكتشاف مدينة سيبار البابلية والتنقيب فيها للكشف عن الأبواب البرونزية العظيمة لقصر بلاوات، كما إرسل أكثر من 70 ألف لوح مسماري إلى لندن.

عن موقع ( BBC عربي)