يوسف حبي وإسهاماته في خدمة الفكر والتراث

يوسف حبي وإسهاماته في خدمة الفكر والتراث

الثقافة سلطة معرفية وقوة عظمى
د. إبراهيم خليل العلاف
منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، تعرفت على الأستاذ الدكتور الراحل يوسف حبي في كنيسة الكلدان في محلة المياسة، والتي كانت تسمى كذلك ب ـ (البطركخانه) وهي مقر المطرانية في الموصل، وله في هذه الكنيسة غرفة أنيقة تزينها مكتبة كبيرة تضم الكثير من الكتب والمصادر، وقد وجدته إنسانا فاضلا، ومثقفا واعيا مدركا لكل مايحيط به. له آراء متفردة في الكون، والإنسان، والمجتمع، والحياة.

ومما يفرح أن الدكتور حبي كان يعبر عن تلك الآراء بكل وضوح وصراحة وذلك من خلال حواراته مع الآخرين، أو من خلال وسائل النشر المتاحة وفي مقدمتها مجلة (بين النهرين) التي كان يرأس تحريرها ويكتب مقالاتها الافتتاحية، ويرعاها رعاية خاصة، وكان من دلائل هذه الرعاية أمران: أولهما أنها كانت منفتحة على كل التيارات الفكرية. وثانيهما أنها كانت منتظمة في الصدور وهذا ما نفتقده اليوم فيها.
كان له فضل علي، وذلك من خلال مساعدته لي في ترجمة النصوص الفرنسية التي كنت احتاجها في دراستي للماجستير، وكنت أزوره في مقره، وفي بيته. وتوثقت علاقتنا، عندما انتدب للتدريس في أواسط السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي لأكثر من 5 سنوات (1975-1981) لتدريس اللغة الفرنسية في قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب – جامعة الموصل، فكنا نلتقي يوميا في (كافيتيريا) الكلية مع بعض الأخوة من الأساتذة، كما دعاني إلى المشاركة في تحرير مجلة (بين النهرين). وأسهمت للمدة من 1973 وحتى 2002 بكتابة قرابة 15 بحثا ودراسة في اختصاصي التاريخ الحديث نشرت كلها.
واستطاع د. يوسف حبي استقطاب عدد كبير من الباحثين وأساتذة الجامعات العراقية للكتابة في المجلة، ويرجع السبب في نجاحه في هذا الاتجاه إلى أخلاقه وطيبته وثقافته العالية وأريحيته الكبيرة، وابتسامته الودودة.
وللأسف ضعفت لقاءاتنا، عندما نقل إلى بغداد سنة 1990 لتسلم عمادة كلية بابل للفلسفة واللاهوت فيها. وأتذكر أننا التقينا اللقاء الأخير بعد انتهاء مؤتمر عقد في الكلية المذكورة بين 3 و7 مايو/آيار سنة 2000 بعنوان”وجه الله”أسهم فيه نخبة من علماء الدين المسلمين، ورجال الدين المسيحيين.
لم أكن أعرف بأن اسمه الحقيقي فاروق بن داؤود يوسف حبي، واسمه الكنسي يوسف حبي إلا بعد أن ترشح في انتخابات المجلس الوطني في الثمانينيات من القرن الماضي. وصعقت عندما سمعت بما تعرض إليه من حادث سير على طريق بغداد - عمان أودى بحياته يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول سنة 2000.
ولد الدكتور يوسف حبي في الموصل في 23 ديسمبر/كانون الأول سنة 1938، من عائلة مسيحية موصلية عريقة، وانتمى بعد إنهائه الدراسة الابتدائية في مدرسة كنيسة مار يوسف بمحلة القلعة، ثم في مدرسة الطاهرة في شارع النبي جرجيس، ثم دخل إلى المعهد الكهنوتي البطرياركي في الموصل (شمعون الصفا)، وأكمل دراسته الدينية فيه، وسافر إلى روما سنة 1954 وحصل على الدبلوم في الإعلام من جامعة بروديو سنة 1962 والدبلوم في العلوم الاجتماعية من معهد جيسك سنة 1966 والليسانس في الفلسفة من الكلية الاوربانية المعروفة بـ”بروبغندا”والماجستير في الفلسفة ثم الدكتوراه في القانون الكنسي من جامعة اللاتران سنة 1966.
كان الأب الأستاذ الدكتور يوسف حبي، أحد مؤسسي مجلة (بين النهرين) ورئيس تحريرها منذ صدورها سنة 1973، واختير لسمعته العلمية عضوا في المجمع العلمي العراقي، وكان من الخمسة المؤسسين لمجمع اللغة السريانية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1972، ولنشاطه واهتماماته بالتاريخ العراقي القديم، منحه اتحاد المؤرخين العرب عضويته. هذا فضلا عن أنه كان عضوا في المعهد الشرقي في روما، وعضو شرف في مجامع عربية وعالمية وهو أحد ثمانية منظمين للمؤتمرات الدولية للدراسات العربية والسريانية.
كما أنه عضو في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وعضو نقابة الصحفيين، وعضو الجمعية الفلسفية العراقية، وعضو الجمعية الدولية لتاريخ الطب في باريس منذ عام 1982.
له مئات المقالات والدراسات والبحوث المنشورة في مجلات موصلية وعراقية وعربية وعالمية وباللغات العربية والسريانية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية. وله كتب منشورة ومخطوطة، ورصدت الكثير من تلك المقالات والدراسات التي لا يتسع المجال لعرضها، وكان ينشر في مجلات عديدة منها مجلة (بين النهرين)، ومجلة (آفاق عربية)، ومجلة (المورد)، ومجلة (نجم المشرق)، ومجلة (المجمع العلمي)، ومجلة (الفكر المسيحي).
ومن كتبه المنشورة:
1.حنين بن اسحق1974
2.طريق الفرح (مترجم) 1970
3.علوم البابليين (مترجم) 1980
4.الإنسان في أدب وادي الرافدين 1980
5.كنيسة المشرق 1989الجزء الأول وقد أنجز الجزء الثاني قبيل رحيله.
6.تواريخ سريانية (تحقيق) 1983
7.تاريخ ايليا برشينابا
8.الدلائل لحسن بهلول (تحقيق)
10.فهرس المؤلفين لعبد يشوع الصوباوي (تحقيق) 1986
11.قطوف من مهرجان حنين
12.رحلة اوليفييه إلى العراق 1984
13.ملحمة الثمانين (شعر)
14.نيران الشعر
15.خلجات خواطر
16.نشوة القمم (خواطر) 1996
17.دراسات إنجيلية
18.جوامع حنين بن اسحق في الآثار العلوية
19.كنائس الموصل 1980
20.كتاب المولودين لحنين بن اسحق (تحقيق)1980
بالإضافة إلى أن له كراريس تعريفية بدير الربان هرمزد، وكنيسة الطاهرة، ودير ماركوركيس، ودير مار ميخائيل.
وليس من السهولة حصر مقالات ودراسات الأب الدكتور حبي لكن لا بأس من أن نورد عناوين عدد منها وخاصة في مجلة (بين النهرين) منها على سبيل المثال مقالاته الموسومة: العمل والعمران في أدب وادي الرافدين، وملامح ثقافية خليجية حتى القرن السابع الميلادي، والنشر العربي المسيحي في العراق 1856-1980، والتاريخ حق والحق أسمى، وأقدم كنائس العراق، وأبرشية نوهدرا، ومصادر القانون في كنيسة المشرق، والتراث والإنسان، والرها مدينة افرام ومدرسته، ووزراء وكتاب مسيحيون في القرنين السابع والثامن الميلاديين، والمفهوم الأبوي للرئاسة في كنيسة المشرق، وإسهام السريانية في الحضارتين العربية والعالمية، والتاريخ أعظم مدرسة، والتراث عمل مشترك، ولا حياة بدون تاريخ، ومار بهنام بين القصة والحدث، والتاريخ والمعتقد، وأصول التاريخ ومصادره، وحوار الثقافات، والسلطة خدمة، ومن نحن؟ وتاريخنا وتراثنا، ومطبعة الآباء الدومنيكان وإكليل الورود.
فضلا عن: مسيرة العرب الأوائل في ميدان النحو، وكنيسة مسكنتا في الموصل، وإنسان كلكامش، والتراث ركيزة البناء والتقدم، والبطريرك يوسف اودو، وخصوصية فكرنا القديم: نظرة إنسانية متزنة، والمرأة في الشرائع العراقية القديمة، ومخطوطات تلكيف، والتراث العلمي العربي، وأصالة تراثنا، والطباعة العربية في ايطاليا من القرن 16 حتى القرن 19، والعراق يصد هجمات الفرس في القرن الثامن عشر، وكنيسة المشرق بين الأصالة والتشتت، والفكر ينقصنا أم ماذا؟ والسلحفاة والأرنب في عصرنا، وتكريت ومدرستها في القرنين السادس والثاني عشر الميلاديين، وفي ذكرى ابن العبري 1286-1986، ولقاء الفكر والقلب والحياة.
كان الأب الدكتور يوسف حبي، إنسانا متحررا من القيود الكنسية الصارمة، وقد وجدته مهتما بالقرآن الكريم ويقتني معظم تفاسيره، ويحاول باستمرار من خلال أحاديثه وكتاباته أن يستشهد بآياته، ويجري مقارنة مع ما وجده في الكتاب المقدس. وكان يحب العراق، ويتمتع بحس وطني عال جدا. وكان يدعو باستمرار إلى البناء، ومقاومة الهدم ويقول:”لأتهدم بل ابن دوما».
كما كان يؤكد في كل أعماله وكتاباته على أن الإنسان الحق هو من يدرك أصوله وخصائصه وهدفه وبقدر ما تكون الأصول عميقة، والخصائص متنوعة، والأهداف بعيدة بقدر ذلك يتطلب الأمر فكرا وطاقة وهمة، وكان يتساءل: وهل أغنى من التراث وأهم من تاريخ الإنسان وأعمق من أصول حضارة العراق بلد مابين النهرين وأشد تنوعا وأسمى تطلعا؟ وقال جوابا على تساؤله إن العالم يهتم بتاريخه، وتراثه، وحضارات الأمم لذلك لا بد لنا كعرب وكمشرقيين أن نعمل من أجل اعتماد أسس واضحة وثابتة، وهذه الأسس هي وحدة تراثنا وتاريخنا وجماعية العمل والهدف في نهاية الأمر الكشف عن تراثنا وحضارتنا وبلدنا العراق، ولا بد من أن يكون العمل من أجل خير الإنسانية وتقدمها.
ارتبط الدكتور حبي، بصلات واسعة مع مجايليه من الباحثين والمؤرخين والكتاب والشعراء، وكان مهتما بالفكر وبالثقافة البناءة، وذلك لأن الثقافة بنظره سلطة معرفية وقوة عظمى.
لقد خدم الأب الدكتور يوسف حبي الفكر والتراث والثقافة العراقية والعربية بكل جد وإخلاص، ولم يكتف بالتركيز على الإضافات النوعية لحضارة ما بين النهرين إلى الحضارة الإنسانية، وإنما ركز على القيم الايجابية في تراثنا وتاريخنا وحضارتنا ولاسيما قيم الخير والتسامح والسلام والمحبة والعمل والإخلاص والحكمة والتواضع والإيثار والاحترام.