الرصافي على ضفاف البسفور..كيف اتصل الشاعر البغدادي بأقطاب الحكم في استانبول؟

الرصافي على ضفاف البسفور..كيف اتصل الشاعر البغدادي بأقطاب الحكم في استانبول؟

د. علي شاكر علي
بدأ الشاعر الكبير الرصافي حياته تلميذاً في المدارس الدينية، فقد تلقى دروسه الدينية في مدرسة الحيدرخانة على يد الملا بايز، ثم مدرسة منيف أفندي في محلة الميدان، ثم مدرسة الحاج حسن الأفغاني في مسجد نجيب الدين، وختم القرآن الكريم وعمره تسع أو عشر سنين، ثم التحق بالمدرسة الرشدية العسكرية وتخرج فيها وله من العمر إحدى عشرة سنة تقريباً.

يقول الرصافي عن دخوله الى هذه المدرسة (كانت بالنسبة لنا حياة جديدة، فالملبس كان يختلف فيها عن المدارس الأهلية كمدرسة الحاج حسن، حيث هناك الازياء كانت مختلفة وأهلية، اما في هذه المدرسة فكانت الازياء موحدة وهي عبارة عن البدلة الافرنجية مع الطربوش. غير أن الرصافي لم يحتمل النظام الصارم في المدرسة الحربية ((الرشدية)) فتركها عند أول رسوب له في المدرسة مع انه وصل الى مرحلة متقدمة فرجع ليلبس العمامة مرة أخرى، فدرس على يد الأستاذ محمود شكري الآلوسي 1875-1924م، وهو من اقطاب الاتجاه السلفي في ذلك الوقت، الأمر الذي جعله في مواجهة مع اقطاب الاتجاه الصوفي، ثم عمل معلماً في مدارس بغداد وتوابعها، ثم كلف بتدريس اللغة العربية وآدابها، مكتب الاعدادي العسكري أيام الوالي نامق باشا الصغير (1899- 1902م) وظل في عمله هذا حتى قيام الحركة المشروطية سنة 1908م، حيث استدعى إلى استانبول من قبل (احمد جودت بك) صاحب جريدة ((إقدام)) بهدف إصدار جريدة باللغة العربية.
في ضوء ما سبق نستطيع القول، إن الشاعرين قصدا استانبول في ظروف سياسية غاية في التعقيد، حيث الصراع بين انصار الجامعة الاسلامية وخصومها على أشده، فضلاً عن المناقشات الحامية التي كانت تدور بين اقطاب التحديث، ودعاة المحافظة على الوضع القائم في الدولة العثمانية. الأول (الزهاوي) استدعي من قبل رأس الهرم في الدولة العثمانية (السلطان) لمساندة مشروعه الانقاذي للمسلمين (الجامعة الاسلامية) و الثاني (الرصافي) استدعاه أحد اقطاب التجديد في العاصمة. لنشر افكاره باللغة العربية بين العرب في الدولة العثمانية

الرصافي في استانبول
رحل الرصافي الى العاصمة العثمانية بصحبة النواب العراقيين في مجلس المبعوثين العثماني، غير أن هدف زيارته لم يتحقق بسبب عدم اتفاقه مع صاحب جريدة الإقدام فبقي بدون عمل، وسكن مع جميل صدقي الزهاوي الذي كان يسكن العاصمة وقتئذ. حتى قيام الحركة المعروفة بحركة (31 مارت) ويشير الرصافي في مذكراته، أنه حاول الاتصال مع محمود شوكت في سلانيك، غير ان هذا الاتصال لم يفض الى نتيجة غير تبديل عمامته الى طربوش، وينوه الرصافي أنه أراد العودة الى بغداد، غير أن (المطران ندرة)، اقنعه بالبقاء وتكلف بدفع نفقات إقامته، السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا تكلف المطران ندرة بهذا الأمر، ربما كان ذلك سبب اتصاله بالماسونية التي عاشت فترة ذهبية في تاريخ الدولة العثمانية في هذا العقد، وقد احتك الرصافي عن كثب بأقطاب التيارات السياسية والفكرية التي كانت تموج في الساحة الفكرية في العاصمة، والتي كانت تتماهى مع افكاره في مجال مهاجمة السياسة العثمانية التي دأب على ترويجها قبل مجيئه إلى استانبول من خلال نشره سلسلة مقالات في جريدة بغداد لصاحبها مراد سليمان، ومهما يكن من أمر فقد عاد الى بغداد غير أنه تركها بعد شهر، ليعود الى استانبول، بناءً على طلب من احد النواب في أزمير، ليسهم في اصدار مجلة شهرية عربية بأسم (سبيل الرشاد) غير أنه اقنع أي (عبد الله افندي) بإصدارها بأسم (العرب) كما توسط الأخير بتعيينه مدرساً في المدرسة الملكية الشاهانية، وبعد إلغائها، عيّن في مدرسة تعود للأوقاف في العاصمة تعرف بأسم (مدرسة الواعظين) مدرساً للغة العربية، وبقي في هذه المهنة حتى سنة 1912 م، حيث انتخب نائباً في البرلمان العثماني.
والملاحظة الجديرة بالذكر هنا اتصال الرصافي بطلعت بك وزير الداخلية، وتردده عليه، بحجة تدريسه اللغة العربية، غير أن الواقع كان كما يذكر هو أن طلعت اتصل به بهدف الوقوف على اخبار السياسيين العرب في العاصمة العثمانية والولايات التابعة لها. كما أن طلعت باشا هو الذي رشحه لمجلس المبعوثان العثماني كنائب عن المتتفك حتى سنة 1916م، حيث لم يجر انتخاب مجلس جديد فمددت مدته، فمكث الرصافي في استانبول حتى سنة 1919م، حيث تركها دون رجعة.
في الواقع أن مكوث الرصافي اكثر من عشر سنوات في العاصمة العثمانية، قد ترك اثاراً عميقة في افكاره الدينية والسياسية، فلم يعد الفكر الديني الاصلاحي (السلفي) الذي تشبع منه عن طريق أستاذه محمد شكري الآلوسي في بغداد ذا بال عنده، ويبدو أن هذا التحول جعله يبتعد عن الصراع بين الصوفية والسلفية، كما أن اتقانه اللغة التركية، دفعه الى دراسة التيارات الأدبية التي شاعت في استانبول في حقبة مدرسة (ثروت فنون) وكان أهم طابع يميز شعراء هذا العهد عن غيرهم، هو تصويرهم البديع للوقائع والموضوعات الشعرية وتجسيمهم إياها كتماثيل حية، فهم يرسمون المواضيع في اشعارهم رسماً كاملاً، وكأنهم يلتقطون صورة فوتوغرافية ثم ينفخون فيها الروح الفنية. فتبدو القصيدة كأنها صورة حية ناطقة وقد اقتبس الرصافي كثيراً من الفنون الأدبية من مدرسة ثروت فنون. ويظهر ذلك جلياً في قصديته (حول البسفور) التي نظمها سنة 1908 اثناء زيارته الأولى للعاصمة العثمانية، إذ تجلت براعة الشاعر في وصف الطبيعة الخلابة للبسفور وربطه المبدع بين طبيعة البسفور ونسيمها وسفوح جبالها، وكأنها ثغر الطبيعة يقول في هذه القصيدة:

خليلي قوما بي لنشهـــــــــــــد للربى
بجانبي (البسفور) مشهد أحرار
ويجري النسيم الرطب فيـها كأنــــــــــه
تبختــر بيضاء الترائب معطــــــــــــار
نزلنا بها و الشمس من فوق أرسلت
على منحنى الوادي ذوائب أنــــــــوار
يلــوح بها ثغر الطبيعـــــة باسماً
فيفتر منها من منابت أزهار