شجاع العاني بين الأمس واليوم

شجاع العاني بين الأمس واليوم

مؤيد داود البصام
* المقدمة:
يعتبر النقد أحد أهم مفاصل العملية الإبداعية في نموها وتطورها، واهتمت الأمم المتقدمة بالحوار النقدي الذي قادته الفلسفة، وقد تأسس النقد كحالة تفسير ورفض، من خلال الأسئلة التي وجهها الفلاسفة لمعرفة كنه الوجود، واعتبر الطريق الرئيسة التي فتحت الأبواب للتطورات الحضارية للشعوب المتقدمة في بنائها العلمي والتكنولوجي،

ومن هنا كان النقاد وما زالوا يمثلون روح الأمة ونشاطها للتطور والتقدم في جميع مجالات الحياة الفكرية والعملية، وعلى الرغم من تعثر النقد في المنطقة العربية، بسبب التخلف والجهل وسيادة روح البداوة وسيطرة العقلية الريفية على مجتمعاتها، اللتين تقفان بالضد والنقيض من أي تطور للمنهج النقدي في المجتمع باعتباره شيئاً جارحاً يمس كرامتهم، قبل أن يكون أمراً للتقويم والبناء، فقد ظهر في الوطن العربي والعراق نقاد مهمون شقّوا طريقهم ببالغ الصعوبة، متحدين القوى التي ذكرناها، ليرسوا ويرسخوا الحركة النقدية العربية.


ويعتبر د.شجاع مسلم العاني واحداً من أهم النقاد في العراق والعالم العربي، قدّم على مدى أكثر من نصف قرن إبداعاته النقدية، من خلال تدريسه لطلبته كأستاذ أو كتاباته النقدية في السرد العراقي والعربي، التي جاءت عبر المقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية أو عبر كتبه التسعة التي أصدرها والتي سنأتي عليها لاحقاً، وقد وضع خطواته الواثقة في الدراسات النقدية السردية، وأسس لبناء علاقة وثيقة بين النص والناقد باعتباره مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون عملية إبداعية، وحاول أن يؤسس منهجاً نقدياً مختصا بنفسه، مركزاً على القيم الجمالية التي يحملها النص، وكشف اللا مرئي في النصوص الإبداعية، وملاحقة القيم الجمالية التي تكشف مكامن قوة النص، متخطياً بذلك المناهج الانطباعية والآراء المبنية على رؤى إيديولوجية، إن كانت ضمن الحدود الأكاديمية وصرامتها وقوانينها الفكرية والفنية، أو ضمن انطباعاته التي حاول أن ينأى بها عن المشاهدية، وبعيداً عن غائية المقصد إيديولوجيا أو مصلحياً، وهو وأن صرح بتأثره بالمنهج الشكلي الروسي والبنيوية، إلا أنه حاول أن يستفيد من هذه المناهج وغيرها من المناهج الغربية، لا أن يستنسخها ويقلدها، ولكن باعتبارها قوة معرفية منحتنا الرؤية الى ضرورة معاينة النص الأدبي عند نقدنا إياه، وأن لا تقتصر دراستنا على الظروف الخارجية المحيطة بالنص.
وقد وصف الروائي علي بدر في مقدمته لكتاب د.شجاع العاني، (قراءات في الأدب والنقد)، منهجه في الدراسات النقدية الذي اختطه عبر هذه السنين،”هناك جاذبية ما، جاذبية تذكر في كل الأعمال النقدية التي كتبها د. شجاع مسلم العاني، ليس في حدتها النقدية الباهرة، أو في تمييزها الفائض المعنى بين النص وعملية إنتاجه، وليس في عباراته الصافية التي تتمسك بجاذبية لا تنكر وحسب، إنما في تعبيرها الضروري بين المنهج بوصفه فكرة تجريدية ذات نزعات كليانية والعملية النقدية بوصفها واقعة تجريبية”(1).. فكوّن عبر هذه الرؤية النقدية الذاتية التي حملت بين طياتها جهدا أكاديمياً لم يتخل عنه، موقفاً وبناءً قائماً على أسس العلاقة بين المرسل والمرسل إليه، وإخضاع هذه العلاقة إلى التجربة الحياتية، بالاقتراب من روح النص وتأكيد على التجربة الذاتية، في مصطلحها خارج دائرة القوانين التي تكبّل الحس الجمالي وقيمه بشروحات وتعقيدات لايحتاجها المتلقي لكشف جمالية النص، وجاءت هذه الرؤية النقدية، من خلال جملة عوامل ذاتية وموضوعية، كان أهمها هضمه للمناهج النقدية العربية والعالمية، في الوقت الذي كانت تتلاطم في الساحة الثقافية العراقية والعربية والعالمية مدارس متعددة أغرقت النقد بمصطلحات وشروحات وتداخل بين الرؤية الإبداعية وبين تفكيك وتشريح النص، وهي وجهات نظر أبعدت قسم منها، الكثير من المتلقين عن متابعة العملية النقدية، لأنها أصبحت نسقاً خاصاً لنخبة بدأت تتقلص تدريجياً وتنكفئ على ذاتها.
التطور وتاريخ المراحل...
لا ينكر ما لأهمية المراحل التاريخية التي يمر بها المبدع التي تكشف عن آلية تطوره أو نكوصه وتراوحه في مكانه، بينما الزمن يسير بوسع انفتاح هذا العالم، وشجاع العاني من الشخصيات التي استمرت في تنمية قدراتها وملاحقة التطورات الفكرية والأدبية على صعيد تطور السرد محلياً وعربياً وعالمياً، وملاحقة المناهج النقدية وتطورها في العالم، مع ملاحقته لمعظم ما يصدر في الساحة العراقية والعربية والعالمية من قصص وروايات وكتابات إبداعية، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة والشواهد التي يقدمها إن كانت في كتاباته أو عند تحدثه في المحاضرات والندوات، ومما لا شك فيه أن تأثيرات أعوام الستينات من القرن الماضي، والحراك الفكري الذي أنتج ثورة فكرية في الثقافة العراقية خصوصا والثقافة العربية والعالمية عموماً، كان له تأثير مباشر على مجمل تفكيره وتطوره الثقافي، فلم يكن بعيداً عنها، وإنما كان في صلب الحدث، فقد صاغت الأحداث التي عاشها العراق والوطن العربي والعالم، حياة جديدة، أستطاع الشباب في وقتها من حمل رسالة التغيير، وقد حاولت الدوائر الرأسمالية كعادتها الاستفادة من إي تغيير في المجتمعات لتجييره إلى صالحها والى جني الإرباح منه وأن لا تجعله قوة مضادة لها، إلا أن قوة قيادة الشباب ذات الميول اليسارية، الذين قادوا الحركة الثورية والطلابية بالذات، ألقت بثقلها وفوّتت على القوى الرأسمالية الفرصة لتجيير الحركة الثورية لصالحها، على الرغم من نجاح هذه القوى في النهاية من السيطرة والتحكم بمساراتها، ولكنها لم تستطع في بداية الأمر من وضعها تحت سيطرتها، وفرض الاندفاع الهائل للحركة الثورية التي قادها الشباب ذوو الاندفاعية الثورية واليسارية، من إظهار وجودها وحققت ما تريد ولو على صعيد بعض الحقوق التي لم تلغ عبودية الشعوب لرأس المال التي كانت من أهم أسس ثورة الشباب حينها، ولكن تحققت بعض المطالب في الحرية وحق التعبير وقضايا أخرى ثانوية.
وهذا هو بيت القصيد حدوث تغيير في المفاهيم عالمياً ومحلياً، حينها عرفت صديقي شجاع العاني مع مجموعة أصدقاء طليعيين في الفكر والفن، وكان بعضهم أصدقاء مشتركين لنا مثل الشاعر الراحل سركون بولص وموسى كريدي ومالك المطلبي وأحمد فياض المفرجي وعبد الأمير الحصيري وثامر مهدي ومؤيد الطلال وآخرين لا يسع المجال لذكرهم، من الجيل الذي أطلق عليه جيل الستينيات، وكان هذا اللقاء منتصف ستينات القرن الماضي، وقد تناولت بعض هذه الذكريات في مقالات نشرت في جريدة الزمان الدولية، عندما كنا نحرك الشارع الثقافي، إمام سلطة متخلفة عن الركب الحضاري للشعوب المتقدمة، ويتمثل ذلك بالوزارة التي تعنى بشؤون الثقافة التي كان العاملون فيها يرفضون الحداثة، أو بالإصدارات التي كان يستحكم على سلطتها عقول لاترغب في التجديد، ويعتبرونه مثلبة، كان شجاع من ضمن هؤلاء المثقفين وحركتهم الثورية بنهجها العام الذي كنا جميعا نتحرك ضمنا فيه، ولم نكن نفكر ما هو المستقبل الذي سيأتي بعد هذا التمرد، ولكننا كنا نتوق لبناء عالم جديد، كنا نحلم به، وكما قال د. محسن الموسوي في أحد لقاءاتنا، في معرض استذكارنا بعد أربعة عقود لتلك الأيام في مدينة عمان مع الشاعر حميد سعيد: لم نكن نطمح لتغيير الواقع العراقي، وإنما العالم بأجمعه... ومن بين أهم الأحداث التي كنا نمارسها، لبناء عالمنا المنشود، هو هذا اللقاء اليومي ألحميمي بغض النظر عن اختلاف أساليب تفكيرنا وعقائدنا وانتمائنا، وسيادة الفكر اليساري علينا جميعاً، وما كان يتمخض عن هذه اللقاءات من أحاديث ومناقشات وتبادل الآراء وآخر المستجدات على الساحة الثقافية العربية والعالمية وتبادل الكتب والإصدارات الجديدة، واختلاط الفكر والأحداث السياسية بمسارات النقاشات، وقراءة النصوص لبعضنا البعض، هذه الحياة التي خلقت جواً من الألفة والحميمية وتلاطم كل هذه الأفكار، كان هناك عجالة لملاحقة التطور، فبنيت العلاقات بين الفنانين والأدباء وباقي الأنساق الفكرية والثقافية، وتداخلت بحيث كان هناك صوت مسموع بين كل نسق وآخر وتداعي للالتحام بين الأنساق.
فلم تمر مسرحية إلا وكان الجميع حاضراً في عروضها وتظهر الكتابات عنها وتدور النقاشات في المقاهي الأدبية حولها، وهو ما كان يحدث عندما يقام معرض لفنان أو يصدر كتاب جديد عراقي أو عربي أو عالمي، ناهيك عن النقاشات التي كانت تدور عما يصدر في الصحف وآخر المستجدات من الإصدارات العربية والعالمية التي كانت تزخر بها المكتبات البغدادية في شارع المتنبي، ونتيجة هذا الزخم تأسست الكثير من المكتبات في الباب الشرقي، هذا الجو العام الذي كان يموج فيه الشارع الثقافي العراقي، كان شجاع العاني حاضراً في وسطه، وهو الجو الذي أرسى دعائم حرارة ملاحقة الجديد والجميل في الثقافة عموماً والكتابات السردية خصوصاً في فكر شجاع العاني، لقد ظل شجاع أميناً لهمه الثقافي ونهج تفكيره اليساري المتلاحم مع قضايا الجماهير، وهذا ما جعل نقوده في البدايات كما نجدها في كتابه (المرأة في القصة العراقية) يتبنى أفكاراً ضمن المنهج الانطباعي بنظرة اجتماعية وتاريخية أولاً، لأنه السياق العام الذي كان يحكم البناء النقدي العربي والعراقي في تلك الفترة، مواكباً للرؤية الفكرية التي كانت سائدة في الفن والأدب، في ملاحقة القضايا الاجتماعية وإعطائها الأولوية على ضوء النهج الواقعي، والتي ستؤدي الى الواقعية النقدية الاجتماعية والواقعية الاشتراكية، ولكنه يشبع بناءه المعرفي في الاستفادة من الدراسات النقدية الغربية، ليضع رؤاه في أطروحة الدكتورة، (البناء الفني في الرواية العربية في العراق)، التي قسمها إلى ثلاثة محاور، (السرد والحكاية، الوصف وبناء المكان، وبناء المنظور)، وفيها بداية محاولته أن يختط طريقاً خاصاً في منهجه النقدي، بدراسة البناء الفني في الرواية العراقية والعربية. كما يشير، أ.د. صبري مسلم”حرص الدكتور شجاع مسلم العاني على أن يستعرض مناهج النقد الأوربي الحديثة ويوحي بأنه استوعبها واستمد منها منهجه الخاص”(2) للخروج من الواقع الذي فرض نفسه على بناء الرواية والقصة في العراق من حيث الشكل والقيم الجمالية، مستفيداً من دراسته للمناهج النقدية الأوروبية التي سبقتنا في اتخاذ هذا المسار، وفي هذا يقول،”يجب أن يكون لهما استقلال نسبي عن الايديولوجيا، أي أن الوظيفة الجمالية هي التي يجب أن تحظى باهتمام الناقد ثم تليها الدراسة الاجتماعية أو النفسية أو التاريخية.
وهذا يوضح المسار التي اتخذته أطروحاته النظرية التي حملها كتابه الأكاديمي، ومحاولته أن يحفر خطاً على صعيد نحته للمصطلحات أو ما جاء به من مصطلحات هندسية لوصف السرد وأبنية الزمان، النسق الدائري والحلقي وحركة مروحية أو لولبية...الخ، وهو ما يجعلنا نضع بداية العلامة على انطلاق الناقد شجاع العاني لبلورة منهج خاص به في تنظيره الذي كان يتحقق في قراءته للسرد العراقي من خلال تناول المقارنة والمفارقة، واستخلاص القيم الجمالية في النص، للمقارنة أو الإشارة في ذلك الى اعمال قصصية أو روائية عربية أو عالمية مقارناً إياها بالأعمال العراقية، أو متناولاً إياها لتوضيح الفكرة، ولهذا ظل أميناً على أن لا يجعل التنظير القوة الفاعلة في عمله النقدي، إنما التطبيق العملي للرؤية التي يكتب فيها الناقد،”لا يطير الطائر النقدي بجناحه النظري، ولا بد من الجناح التطبيقي أو العملي، والواقع أن نقادنا مقلون في هذا الجانب العملي»، حوار التمدن، نفس المصدر السابق.