عبد الأمير الورد.. من أعلام العراق الحديث

عبد الأمير الورد.. من أعلام العراق الحديث

سعيد عدنان
غريبة أطواره، وغريب مرآه، وما يبدو منه، وأول ما يستوقف الناظرَ إليه غرابته، في هيئته، وفي حركاته، وفي اللغة التي يُجريها على لسانه. كان كثيف الشَعَر قد أرسل لحيته، وأرخى شَعَر رأسه على نحو لا يلمّه نظام حتى يحسبه من يراه درويشاً من الدراويش بل هو واحد منهم انشق عنه الزمن. وكان يوم رأيتهُ أوّلَ مرّةٍ قد بدأ البياض يخالط سواد شعره ويصحبه صحبةً لا يبدو عليه أنه يُنكرها.

غير أن البياض واللحية المرسلة لم يكفكفا من حركته وسرعتها وأضطراب أركانها، كان غريب الأطوار، سريع التحول من كآبة تغشى محياه، إلى ضحكة واسعة مجلجلة يمتدّ مداها إلى ما حوله، وربما مدّ صوته مناجياً نفسه بشيء من الغناء غير محتفلٍ بمن يسمعه.
كان لا يُجري على لسانه إلاّ اللغة العربية الفصحى محققاً إعرابها رافعاً صوته بها أيّاً كان من يخاطبه وليس عليه أن يُفهَم قوله أو لا يُفهَم. تفيض عاطفته سيلاُ متدفقاً سخياً يغمر من له أدنى صلة به.

حدّث عنه من عرفه في نشأته الأولى: أنه نشأ مقبلاً على المعرفة، محبّاً الكتاب، يقرأ كلّ شيء، مشرعَ الذهن للأفكار لا يمتنع على الجديد منها، يفسح لها في الطريق إليه ويعانيها بكلّ ما تقتضيه. كان للعربية موضع الصدارة في ثقافته، أحبّها وأقبل على نصوصها الخالدة: يقرأ، ويتزوّد، ويتمّثل، حتى يجري ذلك كله في عروقه، ويظهر على لسانه.
درس النحو العربي في عَلَمٍ من أعلامه المتقدمين إذ كتب عن ((الأخفش الأوسط))، ونال بالكتابة عنه شهادة الماجستير، وبقي في صحبته يتتبع آثاره حتى إذا تهيأت له نسخ من كتابه ((معاني القرآن)) شرع في تحقيقه، وتقدم به إلى كلية الآداب لنيل شهادة الدكتوراه، وقد نالها مع الثناء المتصل على العمل والإخلاص فيه، وعلى ما اكتنفه من علمٍ مستفيض بالعربية لغةً، ونحواً، وصرفاً. وكان قبل ذلك يدرّس مواد من العربية في كلية الآداب، وبعضها ليس في صميم الاختصاص، لكنّه لا يتأبّى على درس، ويرى في كلّ مادة ميداناً لبسط المعرفة وإشاعة العربية في قوامها الرفيع.
كان غريباً في قسم اللغة العربية لا يستطيع أن يألف كثيراً ممن فيه، ولا يستطيعون أن يتقبلوا ما هو عليه، وربما تهاون به بعضهم ممن لا يمتلك معشار ما لديه من موهبة وعلم، وكان يصفح عن ذلك صفحاً جميلاً ولا يصغي إلى وقعه، وكأنّه لا يسمع إلاّ هاجس نفسه وما تحدثه به ولا يريد أن يخوض في ما يخوض فيه الآخرون.
كان من النحو بمكان، لكنّه قلما يُعدّ إذا عًدّ النحاة، فكأن ثمة من يريد أن يُقصيه من حيّز النحو إلى شأن آخر فيقول قائل: إنه شاعر، وإنه لكذلك شاعر من طبقة رفيعة، وقلّ أن يلتقي النحو بالشعر كما التقيا لديه، والعهد أن يجور علم النحو على الشعر ويقصّ من جناحيه إذا التقيا في كيان واحد لكنّهما عنده وجد كلٌّ من صاحبه مدداً ومؤازرة حتى ارتفعا معاً. وحسبك شهادة على علو طبقته في الشعر أن يقدّمه علي جواد الطاهر على كثيرين، وأن يضعه بعد الجواهري، وأن يدعو إبراهيم الوائلي شعره باللوز المقشر.
- هلاّ دللتني على مظانِّ شعره!
- لا تعجل، ودع الكلام يبلغ غايته!
كان يُنشد في بعض محافل كلية الآداب إذا طابت نفسه ووجد منها ما يدعو إلى الإنشاد فيأخذ في شأنه- ويدع شؤون الآخرين- بلغةٍ جزلةٍ عذبةٍ قريبةٍ من النفس على بعدها. وكان يُنشد أصفياءه إذا ما سامح الإنشاد وواتى، غير أنه لا يكثر، ولا يريد للأمر أن يتصل، ولا يريد له أن يذيع كثيراً وينتشر. وربَّ عائقٍ يمنع التدفق ويحجز بعض ماء النهر. وربما وجد النهر مسارب أخرى.
وهو على شاعريته قلّ من وقف عنده، وقلّ من عدّه إذا ما عُدّ الشعراء، وكأنّ ثمّة من يريد أن يُقصيه عن الشعر، ويتهاون بشأنه، وكأنّه لا يحرص على الصدارة فيه.
- أكان يحرص على الصدارة في غيره؟
- لا تستبق القول!
زاول الشعر منذ سني الحداثة، وعُني به، وترسّم في بدئه خُطا المتقدمين، ثم اتضح له نهج جرى فيه طليقاً وقد انسجم شأن الشعر لديه مع شؤونه الأخرى، وكان ذريعةً لمن يروم التنقّص من كيانه الجامعي، فإذا أراد هذا المتنقّص أن يهدّ مكانته من النحو، والدرس الجامعي الرصين قال: إنه ممثّل!. وإنه لممثّل من طراز رفيع، وإن التمثيل في صميم مواهبه شُغل به قديماً، ومنحه من جُهده، ووقته، وروحه حتى استقام له كأحسن ما تكون الاستقامة، فلا غروَ أن ينبزه به زميل يريد أن يثُل من مكانته في الدرس النحوي الرصين، غير أنه لا يُلقى له ولأمثاله بالاً، فليقل الآخرون ما يقولون قدحاً ومدحاً، فإنما هو يسعى في مرضاة نفسه، ونفسه لا يرضيها اليسير القريب المنال فإذا نازعته إلى النحو تقدمت به نحو الأصول حتى استوعبها وتمثّل مكامن أسرارها، وإذا زينتْ له الشعر أحلته منه مكاناً رفيعاً، ولا ترضى له إلاّ بالمسرح الجليل، وليس بمكانة المسرح في الثقافة الإنسانية خفاء، ولقد كان أعلامه الأوائل يكتبون ويمثلون، هكذا كان أسخليوس وسوفوكلس ويوروبيدس، وكذا كان شكسبير ومولير فأيّ مغمز في أن يتولّى أستاذ جليل تمثيل شأن جليل من شؤون المسرح. وكان ذروة ما مثّل ((أغنية التم)) وهي مسرحية كتبها تشيخوف. و((التم)) طائر إذا شارف الموت ارتفع في الفضاء وانطلق يغرد تغريداً عجيباً، فكأنه يودع الحياة، أو يرثي نفسه، وقد استعار تشيخوف هذا المعنى وبنى عليه مسرحية من أكثر مسرحياته شجناً وعذوبة.
وقد أُعجب ((الورد)) بالمسرحية ومثّلها مراتٍ وفي كلّ مرة يزيد لحناً في الأداء وكان يرى فيها نفسه في حالة من حالاته، وقد أُتيحتْ له فرصة راقية أن يتألق فيها. كانت أكاديمية الفنون الجميلة لها مسرح تجريبي يقدم عليه أساتذتها وطلبتها نصوصاً ممتازة من الأدب المسرحي العالمي، فكان أن قدّم المخرج المبدع عوني كرومي مسرحية ((غاليليو غاليلي)) من تأليف برشت، وكان لها الصدى البعيد الذي ابتعثه مغزاها. وقُدمتْ أيضاً ((كريولانس)) من تأليف شكسبير، وكان الجمهور على الغاية من الانسجام مع ما يُقدّم على خشبة المسرح التجريبي، وكان يُصغي ليلتقط المعنى الكامن وراء الألفاظ أو الحركات ويروح يستنبط منه ما ينطوي عليه.
أقول أُتيحتْ له فرصة راقية أن يتألق على خشبة المسرح التجريبي في أكاديمية الفنون الجميلة في سنة 1980م، في ربيعها، إذ دعاه لتمثيل ((أغنية التم)) المخرج شفيق المهدي، وكان شفيق يومئذٍ شاباً طالباً يدرس في الأكاديمية وكان إخراج ((أغنية التم)) جزءاً من متطلبات دراسته. كانت المسرحية من ممثل واحد لا يشاركه في الحوار وبناء الأحداث أحد، وذلك أمر يزيد في صعوبة العرض، ويضع الممثل على محك امتحان مقدرته، ويتيح له أيضاً أن يتألق إذا امتلك أداة العمل، وقد كان ((الورد)) عجيباً ذلك اليوم في حسن السيطرة، وامتلاك الأداة، وتمثّل النص حتى كأنّه ينطق عن نفسه، بل هو كذلك. كانت المسرحية منلوجاً متصلاً، وليس سهلاً أن يستمر المنلوج ما يزيد على الساعة والنصف، ولكنّه استمر والجمهور مأخوذ بما يسمع ويرى. فكرة المسرحية ليست مألوفة متداولة مما يكثرُ عرضه؛ مدارها: أن ممثلاً يعود إلى غرفته بعد انتهاء العرض المسرحي. وهو وحيد لا أحد له، وقد تقدمتْ به السن فلم يبق له في وحدته إلاّ الخمر والذكريات واسترجاع ما كان ومناجاة النفس، تبدأ المسرحية عندما يُنهي الممثل عرضه ويعود إلى مسكنه، فكأنّه إذ يناجي نفسه ذلك الطائر ((التم)) وهو يغرّد أُغرودته الأخيرة. لم تكن هذه المرة الأولى التي يمثّل فيها ((الورد)) هذه المسرحية، بل كان قد مثلّها قبل عشر سنين، لكنّه اليوم أقدر على أدائها، وعلى أن يُضفي عليها أشياء تزيد في مدى تأثيرها وتمنحها أفقها الإنساني الرفيع، كان عجيباً في تلبّسه ((الدور)) وفي استبطانه ((الشخصية)) وسبر أغوارها، ولولا أن فيه أشياء منها لما تمكّن هذا التمكّن من بلاغة الأداء وحسن التأثير في المتلقين، وأعجبْ به أداءً بليغاً رائعاً لا تقوى ثلاثون سنة على محو بهجته.
- أفيُعدّ في أعلام التمثيل في العراق؟
- عندما يُعدّ في أعلام الشعر العراقي!
وعلى هذا كله فإن بيئة الفن المسرحي لم تفسح له في أرجائها، وأبقته عند الأطراف، وعندها أنه نحوي لغوي وليس من صميم ما هي فيه، ولعل من هذه البيئة من يرجو أن يرجع هذا الطارئ إلى كتبه القديمة، وإلى قاعة درسه، وإلى مواده من اللغة والنحو. وهو على نهجه لا يبالي بشيء من هذا، ويظل منصرفاً إلى نفسه وما تحدّثه فيه، باذلاً ما يستطيع في مرضاتها.
أهو نحوي، أم شاعر، أم مسرحي؟
ويقول صاحبي: لو بُعث ((الدُّلجي))، وأراد أن يزيد في كتابه ((الفلاكة والمفلوكون)) لوجد في ((الورد)) وسيرته وما كان ينتابه خير ما يزيده، ولجمع بينه وبين من حُورِفَ و((فُلِكَ)) من أهل الأدب والفكر في الحضارة العربية الإسلامية.
ويقول أيضاً: لو أن شبيهاً به في أحواله، وفي مواهبه وُجد في بلد كفرنسا، مثلاً، لعلا نجمه، وامتد أثره ولفاخر به بلدُه بلدانَ الدنيا.
لكنه وَجد الأرضَ تضيق به، وسُبل العيش تلتوي عليه فلا يحسن التأتي لها، ووقع عليه ما وقع على العراقيين من بلوى أخذت تشتد، حتى كأنّ لا محيص عنها، فاغترب، واضطرب في الأرض، وأخذت منه الغربة مأخذاً كبيراً، وتقاذفته البلدان حتى إذا آب إلى موطنه كان مهيض الجناح، واهي القوى لم تلبث رحمة الله أن استأثرت به في سنة 2007م فانطوت صفحة كانت خليقةً أن يسطع ضياؤها.