إيميلي ديكنسون

إيميلي ديكنسون

سعد محمد رحيم
روائي راحل
كلما أقرأ قصيدة (بترجمة جيدة) لإيميلي ديكنسون أزداد قناعة بأمرين، الأول؛ لا شيء مثل الشعر يمكنه أن يشحذ مشاعرنا ويهذِّبها، فهو نسغ العالم الذي نحيا فيه بوصفنا بشراً، ولذا فهو ضروري حتى لا يجف من حولنا شجر الحياة. والثاني؛ يمكن للمترجم القدير أن ينقل لنا روح القصيدة التي يترجمها وشيئاً من شكلها.

وربما معناها كله.. تأملوا معي هذه الأبيات لديكنسون من ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي؛"باستطاعتي أن أخوض في الحزن/ في برك من الحزن بأكملها/ فقد اعتدت على هذا/ غير أن أبسط دفعات الغبطة تكسر قدميَّ/ وإذا بي أترنح ـ سكرى". هكذا تُحيل شاعرتنا، بتأنٍ فذ، وبلا عاطفة مبتذلة، ما هو عام ومجرد، إلى شيء ملموس وحسّي يمكن تذوّقه، المرة تلو المرة، والتلذذ به. وقد أعادني، أخيراً، كتاب (إيميلي ديكنسون: مختارات شعرية وقراءات نقدية.. اختارها وترجمها: نصير فليّح.. الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت 2012) إلى أجواء ديكنسون الكئيبة، ولكن غير المقبضة للنفس، الجدّية مع مسحة من التهكم والمرح السرّي. الضاجة بالحياة من غير صخب أو ميلودراما فجّة. ولا شك أن الفضل في إيصال قصيدة ديكنسون إلينا بزخم جمالها الهادئ، وصورها اللا متوقعة النادرة، وأطياف معانيها اللاعبة أمام عين وعينا، يرجع للمترجم البارع نصير فليح.
تلامس قصائد إيميلي ديكنسون ضفة خفية في الروح؛ الضفة المعتمة، المضطربة فينا، والأشد حساسية وبهاءً وتعقيداً.. وبذا فإنها تمنُّ علينا، دوماً، بالمعنى الآخر، أو هو ظل المعنى، أو ما وراءه. فكلما قرأنا قصيدة لها، وأعدنا قراءتها، نشعر أن هناك ما فاتنا، أفلت من بين أصابعنا، انزلق واختفى في ضباب عقلنا وشعاب حدسنا وإحساسنا. إنه ذلك البعد العصي، شبه المستحيل، من كل نص، والذي نأمل أن نقع عليه، ونمسك به في القراءة اللاحقة، أو التي تليها. وعلى الرغم من بساطة كلماتها غالباً، وشفافية الصور التي تبتكرها، والإيحاء بأن ما تريد قوله واضح، ومباشر، وفي متناول اليد. فإننا سرعان ما ندرك بأن هناك البعد الآخر والمعنى الآخر والفضاء الآخر. وهذا ما يجلل شعرها بهالة الإبداع والخلود.
يقول الناقد دين جيمس عن قصيدة ديكنسون (الليالي الهوج):"على امتداد السنين كونتُ ثمانية أو تسعة تصوّرات حول هذه القصيدة، التي تشهد على معانيها المتنوعة الاختلافات الكبيرة في الرأي النقدي حولها. ما يلي هو آخر محاولاتي لفهم قصيدة مركّبة ومراوغة المعاني". ومن ثم يقدّم تأويله الجديد للقصيدة.
والمفارقة الأكبر في حياة ديكنسون أنها خبرت العالم بعزلتها.. خاضت تجربتها الوجودية وهي على مبعدة من الآخرين.. وهذا، على ما يبدو أتاح لها أن ترى ما عجز غيرها عن رؤيته:"أعرف أنه موجود/ في مكان ما، في الصمت/ خبأ حياته النادرة/ عن عيوننا الفظّة".
وبرأي أرشيبالد مكليش في كتابه الشهير (الشعر والتجربة) فإن تلك العزلة لم تكن هرباً من الحياة،"بل على العكس تماماً، فقد كان اعتزالها مغامرة إلى قلب الحياة ـ اختراقاً للحياة التي اختارت هي أن تكتشفها وترود مجهولها ـ تلك الحياة الشاسعة الخطرة الكثيرة الإيلام، ولكن الأصيلة، الدائمة الأصالة ـ المرهفة الأصالة، بل التي تفوق أصالة كل حياة أخرى ـ حياتها هي".
قصائدها نتاج تأمل عميق، صارم، بيد أنها لا تخلو من ازدراء لطيف، حيث تخرق البصيرة جلد الحياة، فتجهد في العثور على اللغز، وهو المتقلّب الهارب. على السحر المهيّج والباعث على الدهشة. على أسباب القوة والنشوة والضعف والخذلان. على المطلق حيناً وعلى ما هو نسبي وهش وآيل إلى الفناء حيناً آخر. أو على كليهما في الوقت نفسه. وكلما حدّقت في وجه الحياة تلمح الشبح، مخايل الموت؛"رأيت عيناً مُحتضَرة/ تجولُ وتجولُ في الغرفة/ باحثة عن شيء، كما بدتْ/ ثم تصبح غائمة أكثر... ثم مغلّفةً بالضباب/ ثم تلتحم ساكنة/ دون الكشف عمّا أصبحتْ/ لقد كانت مُباركةً لأن تَرى".
تذهلنا ديكنسون في كل قصيدة بانتقالاتها المفاجئة، قاطعة خيط السرد، حيث يحكم بناء معظم قصائدها بعد سردي، وخالقة خيطاً ثانياً وثالثاً، مجسِّدة صورة الحياة بفوضاها الظاهرة ومستوياتها المتعددة واحتمالاتها التي لا تخطر على بال:"سبّاحان تصارعا على الصاري/ حتى بزغت شمس الصباح/ عندما التفت أحدهم باسماً صوبَ اليابسة/ يا إلهي، أما الآخر.... السفن التائهة، وهي تعبر/ لمحتْ وجهاً/ محمولاً على المياه/ بعينين تتوسلان الخروج/ ويدين ضائعتين تستعطفان".

من أرشيف الكاتب الراحل