«ماما زينب».. عقدان على الرحيل وما زالت فنانة الشعب  تُحاكينا!

«ماما زينب».. عقدان على الرحيل وما زالت فنانة الشعب تُحاكينا!

علي الكرملي
لديّ عادة تكاد تكون قد تطبّعَت فِيَّ، كلّما أُحِسُّ بـ الكآبة أهرب إلى الماضي! إلى"مسلسلاته، مسرحيّاته، أَفلامه، وكُتبهِ». هذه المرّة هَرِبتُ صوب"فنانة الشعب"أو"ماما زينب»، فمنذ أيام ليست بالقلائل وأنا أعتكف في مطالعة مسرحياتها، أفلامها وما كُتب عنها.

اليوم يصدف ذكرى رحيل"ماما زينب"الـ 20. أمست 20 عاماً من رحيلها عنّا. مَرَّ عقدان وما زالت روحها تحاكينا بكل تفاصيلها، كما وما زلنا نتذكّرها ونحنُّ لأيّامها، نحنُّ لأيّامها؛ لأنّها أصدق فنّانة وقبل ذاك أصدق إنسانة رسمت صورة شعبها المناضل والمكافح لنيل الحب، والسلام، والحرّية، فضحّت بالكثير والكثير دونما أن تُضحّي بشيء لنفسها.

عين على نشأتها
لم يكن هناك تأكيد جازم على محل مولدها، فأُختُلِفَ في ذلك بين من يقول إنها من الشطرة، ومن رجّحها إلى الكوت، ومن أخذ إلى أنّها بنت الحلّة، هذا غير ما سمعته مؤخراً، أن زينب لم تكن من الأماكن التي ذكرت، زينب بغدادية! غير أن كل تلك الاختلافات تتفق أن عام 1931 هو عام ولادتها.
وُلِدَت بإسم"فخرية عبد الكريم"وعُرِفَت بـِ"زينب"إسمها الفني. انتمت للناس وهمومهم منذ نعومة أظفارها، فأَمسَت شيوعية الانتماء، يساريّة الهوى، تقدُّميّة الفكر. حتى أنها ذهبت لسجن الكوت حيث زارت"يوسف سلمان يوسف"مؤسس الحزب الشيوعي العراقي والمعروف بإسمه الحركي"فهد». فهد الذي قال عنها حينما هتفت ضد أعداء الشعب العراقي:"لا فض فوك يا إبنة الرافدين».
درست اللغة العربية في كلية الآداب بدار المعلمين العالية (جامعة بغداد حالياً) وتخرجت منها عام 1952، لتزاول عملها كتدريسية في غير ما مدرسة وغير ما محافظة (كون الحكومة كانت تنقلها من مدرسة لأُخرى بسبّة مواقفها السياسية النبيلة)، هذا غير فصلها لأكثر من مرّة.

بداية الرحلة الفنيّة
كانت البداية في نصف الخمسينيات الثاني حينما سطع نجمها لأول مرّة في سماء الفن العراقي في دور"فهيمة"في الفيلم السينمائي"سعيد أفندي"للمخرج"كاميران حسني"بعدما تم اختيارها من بين 10 ممثلات تقدّمن للاختبار لأداء الدور. ومنذ ذاك ابتدت المسيرة الحافلة، حيث أعقبته بالعديد والعديد من المسرحيات وكذلك الأفلام.
في جعبتها خزين لا يقدّر بثمن من الأعمال المهمّة التي مارستها، منها مسرحيات"النخلة والجيران، اني أمك يا شاكر، الأم، تموز يقرع الناقوس، الخرابة، نفوس، الخان، دون جوان»، بالإضافة الى"أهلاً بالحياة، رسالة مفقودة، البستوكة، الشريعة، ثورة الموتى، سواليف يا ليل، شفاه حزينة، وبغداد الأزل بين الجد والهزل"أما عن السينما، فإضافة الى"سعيد أفندي"مثّلت في فيلمين آخرين أولهما"أبو هيلة"بالاشتراك هو وسلفه مع الفنان الرائد"يوسف العاني"أما ثانيهما فهو فيلم"الحارس"للمخرج"خليل شوقي"حيث حاز على جائزة"مهرجان قرطاج الذهبية».

«الأم"و"فنانة الشعب»
أمّا عن"الأم"فكانت تعرف بين أوساط المسرحيين وقتئذ بـِ"ماما زينب"أو"الأم»؛ ذلك لأدوارها المعروفة في هذا السياق، كَـ دور (الأم الخبازة) في مسرحية (النخلة والجيران)، ودورها في مسرحيتي"الأم"و"أني أمك يا شاكر»، فضلاً عن دور (أُم عبد) في فيلم"الحارس». وهو يتصل أيضاً برعايتها للفنانين الشباب بعد هجرة عدد كبير من المسرحيين العراقيين نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
أمّا في ما يخص"فنانة الشعب»، فيعود ذلك إلى مسرحيتها الأولى"إني أمك ياشاكر"التي دام عرضها دون توقف لـ(شهر وثلاثة أيام) في العرض الأول لها، ولِـ (ثلاثة أسابيع) في العرض الثاني لها في العام التالي، وهذا الرقم يعتبر في حينها أطول مدة عرض لمسرحيه تقدّم في العراق. لاقت المسرحية انبهاراً غير عادي حتى على مستوى رجال المسرح آنذاك.
تذكر"زينب"باعتزاز كيف أن قيادة (ثورة 14 تموز) قد شاهدت المسرحية وجاءوا ليحيّوها خلف الكواليس، وتذكر أيضاً أن"سلام عادل وحسين أبو العيس"وآخرين من قيادة الحزب هنئوها على أدائها في المسرحية، وتصف بتأثر أول لقاء بها بـ"يحيى فائق"فتقول:"جاءني وأنا خلف المسرح بعد العرض، رجل أشيب، وجثم على الأرض وأخذ بيديه قدمي، وأنا في ملابس أم شاكر، فارتعبت وحاولت أن اسحب قدمي، إلا أنه أصر وقال لي إنه يفعل هذا تقديراً منه لأم شاكر التي هي رمز لكل أم عراقية مناضلة».
برزت زينب بسرعة البرق بعد هذا العمل، كما لم تبرز أي ممثلة من قبلها، إذ أحدثت"اني أمك ياشاكر"ضجة إعلامية كبيرة في الصحف والإعلام حول المسرحية وحولها كممثلة، حتى أن الناس في الشارع ومعارفها وأصدقاءها أخذوا يلقبونها (بأم شاكر) وأطلق عليها بعد أدائها لهذا الدور لقب"فنانة الشعب».

أول مخرجة عربية!
تشير بعض المراجع إلى أن الرائدة المسرحية"زينب"التي كانت من أعمدة"فرقة المسرح الفني الحديث"في العراق التي يترأسها الفنان والكاتب يوسف العاني، ومن أبرز الفنانات فيها الى جانب زميلتها الراحلة"ناهدة الرماح». هي أول مخرجة عربية؛ إذ كتبت مسرحية بعنوان"زواج بالإكراه»، وأخرجتها ومثّلتها مع نخبة من معلمات وطالبات مدرسة"الرمادي"للبنات عام 1953، كما أخرجت فيما بعد مسرحية"دون جوان"لموليير.

نضالها وعنف الحكومات
حياتها مملوءة بالضغوط والمضايقات السياسية من عنف الى فصل وسجن وما شابه، فهي قد فُصلت من عملها التدريسي ولم تتم إعادتها إلا بعد ثورة 1958. تلك الثورة التي فور سماعها بها سارعت للخروج إلى الشارع. وعلى مقربة من أحد مراكز الشرطة اعتلت عربة أحد باعة"الشلغم"واعتمرت قبعة أحد الجنود أو الشرطة وراحت تهتف وتهزج للثورة. فتجمعت حولها النسوة وبدأ التجمع يكبر شيئاً فشيئاً في تحشد شعبي قلَّ مثيله.
اضطرت بعد انقلاب شباط 1963 إلى الاختفاء في كردستان لمدّة زادت عن السنة حتى نهاية عام 1964، لكن لم تتم اعادتها الى وظيفتها حتى عام 1968. بعد ذلك تعرضت لكثير من المضايقات وصلت الى منعها من الكتابة وحتى من دخول الإذاعة والتلفزيون؛ مما اضطرها الى سلك دروب المنافي نهاية السبعينيات.

الصمود في الغربة
عام 1979 غادرت العراق لتعيش في المنافي متنقلة من بلد لآخر، فحطّت في بلغاريا. ومنها سافرت إلى اليمن، وعملت في وزارة الثقافة اليمنية، ونشطت في ميدان المسرح من جديد، وبادرت بتأسيس فرقة مسرحية بإسم"فرقة مسرح الصداقة"عام 1980. وتولت رئاسة الفرقة. ونشطت هذه الفرقة وقدمت باكورة أعمالها بـ»مغامرة رأس المملوك جابر"وقدّم هذا العمل بمناسبة يوم المسرح العالمي عام 1981 ليحظى بإعجاب المتتبعين وبتقدير استثنائي من قبل لجنة التحكيم بعيداً عن منافسة الأعمال اليمنية.
وفي مطلع الثمانينيات، انتقلت الفنانة الراحلة إلى دمشق لتضع تجربتها وخبرتها تحت تصرف فرقة بابل المسرحية التابعة لرابطة المثقفين الديمقراطيين العراقيين، وأدت دور البطولة في مسرحية"قسمة والحلم"تأليف فائز الزبيدي وإخراج سلام الصكر. فضلاً عن مشاركتها في مسرحية"المملكة السوداء"التي قدمت في ليبيا بمهرجان النهر العظيم المسرحي.
في مطلع التسعينيات، غادرت زينب دمشق متوجهة إلى السويد، ومن هناك واصلت عطاءاتها المسرحية وكان لها دور كبير في لمّ شمل الفنانين العراقيين، وقدمت أعمالاً تليق بسمعة الفنان العراقي، وعبّرت عن معاناته وعذاباته داخل الوطن وخارجه.

توثيق لمسيرتها
زينب التي رحلت في (13/ آب/ 1998) في السويد بعيداً عن الوطن الذي حلمت أن يكفنها، كانت مثقفة من طراز جيد، إذ كتبت القصة والمقالات ونشرتها في صحف الخمسينيات بأسماء مستعارة، مرة بإسم"زينب"ومرة أخرى بإسم"سميرة الفقراء».
كل تلك المسيرة الزاخرة بالعطاء التي أشاد بها الكثير، حتى أن وزيرة الثقافة السورية السابقة"نجاح العطار"في (منتصف الثمانينيات) قالت عن زينب:"إنها تستحق أن تكون الموقع الذي أنا فيه"كان لابد من أن توثّق مسيرتها، وفي ذلك قام المخرج"طارق هاشم"في عمل فيلم تسجيلي عن حياتها، كما ألّف عنها"راشد خلوصي"مطلع هذا العام كتاباً يبحث في حياتها الإجتماعية والفنية حمل عنوان"زينب.. فنانة الشعب».
لقد عززت"ماما زينب"كثيراً من ثقتها بنفسها، والشعور بالرفعة والشموخ والسمو التي لازمت شخصيتها حتى وفاتها، وظلت وفيّة لمثل (أم شاكر) البطولية التي تقمصتها في حياتها العادية، وهي في الواقع رغم ثراء تاريخها الفني الحافل بالأعمال المسرحية المهمة، وتنوع الشخصيات التي أدتها طوال 45 عاماً في المسرح، إلا إنها بقيت للنهاية معتزة بأدائها لهذه الشخصية، كأنها لم تؤد في حياتها سوى شخصية"آني أمك يا شاكر"لربما استمدت في أواخر أيامها وهي تصارع السرطان سر القوة في مواجهته من هذه الشخصية التراجيدية.