عالِم الآثار فؤاد سفر.. إسمٌ خالد في سجل المُبدعين

عالِم الآثار فؤاد سفر.. إسمٌ خالد في سجل المُبدعين

سمر منير
في مجال الكتابة عن المبدعين والشخصيات الرائدة والمرموقة في كل مناحي الحياة العراقية، نكتب اليوم عن رائد قدير تألق في علوم الآثار القديمة مع زملاء له، ووضعوا اللبنات الأولى لمؤسسة آثارية وطنية رصينة، قدمت الكثير للعراق، ولأن بلاد ما بين النهرين هي مهد الحضارات الإنسانية الأولى.

كان العراق قبل إنشاء الدولة العراقية وبعدها مفتوحاً لقراصنة الآثار الأجانب، سوى قلّة منهم كانت تفتش عن حلقات إبداع إنسان ما بين النهرين بصدق وباحتراف مهني وعلمي وليس بدافع السرقة والتجارة، ولأجل كل هذا، برزت أيضاً بعد تأسيس الدولة العراقية نخبة وطنية من شباب العراق للتوجه والدراسة والتفوق واختيار فرع الآثار لغرض التأهل ومسك زمام أمور الآثار من قبل أبناء الوطن وكان من هؤلاء الروّاد المبدعين المرحوم فؤاد سليمان اللوس سفر وأستاذهم اللامع المرحوم طه باقر وبهنام أبو الصوف وصادق الحسني وداني جورج وغيرهم.
ولد فؤاد سفر في نينوى عام 1911 وتوفى بتأريخ 9 كانون الثاني عام 1978 بحادث سيارة مفجع وأثناء أدائه الواجب في الحملة الإنقاذية لآثار سد حمرين، ولقد شيع المرحوم بمهابة كبيرة وكانت وفاته خسارة كبيرة للعراق ولعلوم الآثار.
حيث كان الفقيد في قمّة عطائه ولكنها مشيئة الله عز وجل، أنهى المرحوم دراسته الابتدائية في مدرسة مارتوما في نينوى والثانوية عام 1931، ثم نال بعدها شهادة (ماتريكو ليشن) القسم الانكليزي في كلية صفد في فلسطين، وهذه الشهادة هيّأته للقبول في المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو، وفعلاً التحق بها وأكمل دراسته بجامعة شيكاغو ونال شهادتي البكالوريوس والماجستير.
عاد بعدها الى بلده العراق عام 1938 بعد ذلك أختير أستاذ في دار المعلمين العالي وكان يحاضر عن الحضارات القديمة عبر التأريخ وكان ذلك سنة 1941 في بغداد.
ومن نشاطاته كان له الفضل مع زملائه الآثاريين في تأسيس قسم الآثار بكلية الآداب التابع لجامعة بغداد عام 1951 وكانت هذه خطوة كبيرة لجذب المزيد من الطلاب وتشجيعهم للدراسة بهذا الفرع المهم لخدمة البلاد، فضلاً عن ذلك كان المرحوم فؤاد سفر أيضاً موظفاً نشطاً في مديرية الآثار العراقية.
وفي عام 1956 أختير أن يكون رئيس هيئة مفتشي الآثار، وبعد ثورة تموز 1958 عُيّن مديراً عاماً للآثار.
تخرج على يد المرحوم فؤاد سفر الكثير من طلاب علوم الآثار وأشرف على العديد من إطروحات طلبته لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه، وأيضاً كان المرحوم كاتباً لامعاً في مجلة سومر (مجلة سومر الآثارية) الرصينة والحافلة بكل نشاطات علوم الآثار والتأريخ القديم في العراق والمنطقة والعالم وأيضاً كانت لهذه المجلة مكانة كبيرة ولقد كان كتّابها من خيرة العاملين في مجال علوم الآثار الإنسانية القديمة وبخاصة حضارة بلاد ما بين النهرين الخالدة.
كان للمرحوم فؤاد سفر الفضل في التنقيب واكتشاف الكثير من اللقى الآثارية القديمة وحلقاتها المفقودة، ومن اكتشافاته القيّمة أساليب الري القديمة عند الآشوريين وهو الذي اكتشف منظومة سنحاريب الإروائية وعمل المرحوم فؤاد سفر أيضاً في مناطق مهمة في مجال الحفر والتنقيب ومنها في واسط، وأريدو وتل حسونة، ومنطقة العقير والحضر وهو الذي كشف الكثير من الآثار القديمة في هذه المناطق، ولقد وثّقت هذه الاكتشافات وقدّمت دراسة عنها وكانت تُنشر في مجلة”سومر”وغيرها من المجلات الآثارية العراقية والعربية والأجنبية، وفي مجلة”سومر”كتب دراسة عن (كتابات الحضَر) حيث عرض فيها اكتشافه نصوصاً وقوانين ومنها نص عن دعاء ديني ضد كل من يسرق أدوات البناء التي تستخدم في بناء المعابد.
فضلاً عن فك رموز ونصوص كتابية قديمة، علماً بأن المرحوم فؤاد سفر كان يرأس البعثة التنقيبية في الحضَر التي بدأت أعمالها عام 1952 وخرجت بنتائج ممتازة واستمر عملها حتى عام 1971، ولقد وثُقت إنجازاتها الكبيرة في مجلة”سومر”أيضاً عبر كتابات ودراسات وتقارير كتبها المرحوم فؤاد سفر وأيضاً قسم منها موثّقة في ارشيف المتحف الوطني العراقي، ولكن بعد التغيير في عام 2003 واحتلال بغداد وتدمير ونهب مؤسسات الدولة، والسؤال هو هل بقي منها شيء يا ترى..؟
وكلنا شاهدنا عمليات النهب التي طالت المتحف الوطني العراقي والتي شجعها بعضهم مع الأسف، ليس بدافع السرقة فقط بل بدافع تدمير حضارة زاهية لبلاد ما بين النهرين، تقض هذه الحضارة مضاجع من ليس لهم حضارة.
وما عرف هذا النفر بأن حضارة العراق الزاهية محفورة في العقول والقلوب لكل المخلصين الأوفياء، وفعلاً بدأت الكثير من المسروقات تسترجع وبهمّة الغيورين والمخلصين متابعة هذا الأمر بقوة حتى إعادة آخر تحفة سُرقت.
أيضاً للفقيد فؤاد سفر الكثير من المؤلفات، فضلاً عن مئات المحاضرات والدراسات المنشورة ومن كتب المرحوم ومؤلفاته كتاب”واسط” طبع ونشر في القاهرة عام 1952 وأيضاً له كتاب طبع ونشر عام 1960 في بغداد تحت اسم”آشور»، وأيضاً له مؤلف مشترك مع الأستاذ المرحوم طه باقر وهو بعنوان (المرشد الى مواطن الآثار والحضارة) نشر عام 1962، وأيضاً له كتاب مشترك مع الأستاذ صادق الحسني والذي صدر عام 1965 والموسوم (صيانة الأبنية الآثارية)، كان المرحوم يجيد اللغة الأنكليزية باحترافية متناهية ولقد كتب الكثير في اللغة الأنكليزية وترجم منها الى العربية وبالعكس، فضلاً عن إجادته اللغة السريانية أيضاً.
ومن كتبه المترجمة كتاب بعنوان (الإنسان في فجر حياته)، وأيضاً كتابه (المنازل الفرثية) فضلاً عن عشرات التراجم والدراسات العلمية في حقول الآثار والتنقيب. فياله من إنسان مبدع سخّر سنوات عمره لخدمة بلدهِ العراق هو وكوكبة خيّرة من زملائه، كانوا الروّاد والمخلصين لبلدهم وعلينا تذكّرهم دائماً لأن عطاءهم وبصماتهم الرائعة في إبراز تاريخ بلدهم، كانوا هم البُناة الأوائل لهذا الفرع من علم الآثار الحديث.