في رحيل القاص العراقي الرائد عبد الملك نوري

في رحيل القاص العراقي الرائد عبد الملك نوري

مهدي عيسى الصقر
إن رحيل أي شخص عن هذه الدنيا حقيقية لاخلاص منها يعرفها كل واحد منا في ذلك، فإن غياب انسان عزيز يترك في النفس غصة، وفي القلب وجعاً. قبل سفري ببضعة أيام اتصلت بعبد الملك اسأله في أحواله، قال إنه يشعر بالتعب عندما يمشي قليلاً، وإن هذه الحالة يملكها أحد أقاربه، في محلة الاعظمية ببغداد، فهو (لا يملك لا مال ولا عقار).

وقف عبد الملك في أعلى السلّم يحدّق في وجهي، ثم تساءل متوجساً عمن يكون الزائر. ادهشني سلوكه، ضحكت وذكرت له اسمي، ثم دفعت الباب، وصعدت إليه. ادخلني الى البيت وهو يتمتم معتذراً أن عينيه تدمعان، لذلك فهو لا يستطيع أن يرى جيداً، وإنه سأل عن دواء لهما فقيل له أن الدواء الذي يريده لا وجود له في الصيدليات. حين دخلت وجدت سرير نومه يتوسط الصالة. قال إن الصالة هي المكان الوحيد المبرد في كل أرجاء البيت. رأيت في أحد الأركان جهاز تبريد صغيراً من ذلك النوع الذي عليك أن تملأه بالماء كل بضع ساعات، سألته عن صحته قال أحسن، وإن عينيه فقط تضايقانه. تحدثنا لبعض الوقت، ثم غادرته مطمئناً الى أنني سأراه حين أعود من السفر، فنحن نفترض دائماً الا شيء يتغير اثناء غيابنا. والآن تأتيني بضع كلمات من صديق ينقل لي نبأ وفاته فيتحول عبد الملك نوري، في لحظة واحدة، من انسان حملته في ذاكرتي حياً الى محض ذكرى عزيزة. كان نوري هو الانموذج الذي كنا نحن الكتّاب الشباب في أواخر الاربعينات والخمسينات ننظر إليه بانبهار. كانت أقاصيصه القصيرة (جيف معطرة، فطومة، الرجل الصغير، وغيرها)، التي اعتمد فيها ــ لأول مرة في العراق، وربما في العالم العربي ــ اسلوب تيار الوعي، نمطاً جديداً لم تعرفه القصة القصيرة من قبل. كانت القصة في العراق، قبل عبد الملك لا تلتزم بأية شروط فنية، تشبه المقالة، وتنتهي في العادة بحكمة أو فضيحة. وقد اطلق نوري على هذا النوع من القصة اسم (المقاصة) اي خليط من المقالة والقصة، فأثار بهذه التسمية غضب كتّاب القصة التقليديين. إلا أن عبد الملك ما لبث أن توقف عن الكتابة، بعد انهيار حياته الزوجية، وانفصاله عن زوجته التي كان يحبها. ولم يتأثر نشاطه الأدبي فحسب، بل حتى عمله الوظيفي، كان موظفاً مرموقاً في السلك الخارجي. ترك العمل، واعتزل الناس، ولم يتزوج من جديد ظل يعيش هو واخته، التي لم تتزوج هي الأخرى، مثل ناسكين في صومعة وراحت اخته ترعاه كما لو كان طفلها الوحيد، وكان هو يعتمد عليها في معظم شؤون حياته. وحين ارتحلت قبل عامين ظن اصدقاؤه أنه لن يعيش بعدها. إلا أنه تجاوز هذه المحنة باللجوء الى الكتابة مجدداً محاولاً العودة الى عالم القصة بعد فراق طويل. واثبتت الكتابة انها علاج فذ لمغالبة الأحزان. وعندما ودعته قبل سفري كان جريان الدمع في عينيه قد عطّله عن مواصلة الكتابة في قصة طويلة بدأها منذ زمن، ولا اظنه استطاع إكمالها قبل أن تدهمه المنيّة. انني افكر بالوقع المؤلم لنبأ رحيله على صديق عمره، الروائي فؤاد التكرلي، والناقد عناد التكرلي، وعلى الكثيرين من الذين يحترمونه، ويقدّرون له عمله الذي ترك أثره الملحوظ بشكل أو بآخر، في كتابات العديد من الاجيال من كتّاب القصة القصيرة في العراق. إن ما يحز في النفس حقاً أن هذا الرجل الذي يظل ــ حياً كان أم ميتاً ــ من أبرز رموز الأدب العراقي الحديث، عاش حياة فقيرة في سنواته الأخيرة، يجتر أحزانه في صمت، ويحاول أن يتعايش مع واقع مر لا يرحم. فهل بوسعنا أن نقول ــ من أجل أن نعزي أنفسنا ــ أن هذه النهاية، جاءت الآن لتمنحه الراحة، وتخلصه أخيراً من عذاب حياة عقيمة، شقيّة وبائسة؟.
ملف مجلة الأقلام 1998ص