مارلين مونرو وأوراق  والت ويتمان

مارلين مونرو وأوراق والت ويتمان

تحسين الخطيب
ما الذي كان يدور في خلد إيف آرنولد حين التقطت صورتها الأيقونة تلك: مارلين مونرو تقرأ عوليس جيمس جويس. كانت مارلين، في ذلك الوقت، على علاقة عاطفية بآرثر ميلر، وتقوم بزيارة لصديقه الشاعر نورمان روستن، صاحب "اقتربي، على مهلك، أيتها الجنة". كان زمن الصورة قد توقف، برهة، في العام 1954، في متنزه،

قرب شاطئ بنيو إنغلند، لتخرج مارلين من سيارتها نسخة من الرواية، كانت تقرأ فيها، بصوت عال، من حين لآخر، لتستغرف في قراءتها ثانية، وعلى نحو صامت هذه المرّة، آن كانت إيف تضع الفيلم في الكاميرا. لا تشيح مارلين ناظريها، في الصورة، عن"عوليس"قطّ، ولا نكاد نلمح كامل تفاصيل وجهها أبداً. فهل كانت إيف ترغب في تخليص مارلين من صورة"الشقراء البلهاء"التي رافقتها في بداية الخمسينيات، لتدخلها، على مهل، من عين كاميرتها الذهبية إلى مصارع الحياة بكل تمويهاتها وأقنعتها وتخفيّاتها؟ كانت مارلين، وفي لقطة سابقة على هذه الصورة، قد اعتمرت قبعة قش كبيرة، تشبه تلك التي اعتمرها الشاعر الأميركي وليام كارلوس وليامز، في صورته الشهيرة تلك. ثم نراها بثوب سباحة معروق بالأحمر والأزرق والأصفر، من بين ألوان قليلة أخرى، جالسة على دوّارة بقضبان حمراء وزرقاء. كانت نسخة الرواية التي بين يديها قديمة جداً، كأنها من حياة أخرى. كان اسم"عوليس"مكتوباً بأحرف كبيرة حمراء، وكان اسم الإرلندي الشهير قد خطّ بحروف كبيرة سوداء. أجلست مارلين"عوليس"على ركبتيها، قابضة على الغلاف القديم بيدها اليمنى، ساندة حافته بذراعها اليسرى، رافعة اصبعي قدميها الكبيرين نحو السماء. ثم تنتقل عين الكاميرا، من الدوّارة إلى إحدى الأشجار. نرى مارلين، وهي تحمل ذات النسخة، جالسة في حضن شجرة ما. لم تكن مارلين، في هذه الصورة، ترتدي ثوب السباحة ذاته، بل سروالاً قصيراً أسود، وحمالة تتناثر في بياضها قطع سوداء، تحتضن ثدييها المكتنزين، النافرين إلى تحت، إلى مستقرّ"عوليس"على الركبتين المضمومتين. تظهر الصورتان مارلين وهي تحدق في الصفحات الأخيرة من الرواية. فهل كانت مصادفة، أم تراها كانت تقرأ في الحلقة الأخيرة، الحلقة الثامنة عشرة، في"مناجاة"موللي لنفسها، وهي مستلقية في السرير بجوار ليوبولد بلووم؟ فإذا كانت موللي، عند جيمس جويس، هي نظيرة بينلوبي، عند هوميروس، في الأوديسّة، فإنّ مارلين هي نظيرة موللي ونقيضة بينلوبي على حد سواء— فهي على شاكلة موللي في كونها رمزاً للجسد، ونقيضة بنيلوبي في كونها لم تكتف برجل واحد، بل كانت"تلتهم الرجال كالهواء".
موللي مغرمة بالقفازات وبالثياب الداخلية، وكذلك كانت مارلين. موللي تحلم بعلاقة حميمة مع ستيفن ديداليوس، المثقف الذي هو نظير تليماخوس وهاملت، وعلى خطاها سارت مارلين: كانت تسبح عارية في البركة التي في منزل إيرنست هيمنغواي، وتضع رأسها على كتف الشاعر الشهير كارل ساندبيرغ. وموللي هي"زهرة الجبل"— ليس عند جويس فحسب، بل عند الجنوب أفريقي جيه.إم. كويتسي في رواية"إليزابيت كوستيللو"أيضاً، وحتى عند كيت بوش، المغنية الأسترالية، في أغنيتها الشهيرة التي تحمل ذات العنوان؛ فيما مارلين هي وردة"شلالات نياغرا"، و"الأقحوانة"الواجمة على حافة السياج الذي يحدق من خلفه، بنظارته السوداء وقميصه المقلّم، صاحب"موت بائع جوّال".ثم نعثر لمارلين على صورة أيقونة أخرى، وهي تقرأ"أوراق العشب"لوالت ويتمان. كانت الصورة قد التقطها جون فلوريا بفندق بيفرلي كارلتون في نحو 1952. تظهر الصورة مارلين، وهي بكامل ثيابها، مستلقية في السرير. وثمة صورة أخرى لها، وهي تقرأ ذات الكتاب، مستلقية في العشب هذه المرّة. كان ويتمن، وفقاً لسام ستاغز، كاتب سيرتها، هو شاعرها المفضّل. كانت تقرأ ويتمن لتريح نفسها، وكانت إيقاعات أبياته الشعرية الطويلة المتدفقة تلسع"الجسد المكهرب"، كي يهبط من علياء الروح التي يحف بها الدخان.
وكانت إيف أرنولد، قبل ذلك، قد صوّرت مارلين، وهي ترتدي ثوب سباحة كأنه قُدّ من جلد فهدة ما. إنها المرأة الفهدة، مستلقية في عشب والت ويتمن على طرف المياه. وبين رحلة عوليس وأوراق عشب والت ويتمان، لفظ الجسد الأيقونة أنفاسه الأخيرة، وهو بكامل عريه، هذه المرة، وفي سرير مشابه!"كشمعة في الريح"في مدخل الطريق المرصوف ببلاطات صفراء.