ذكريات عن انتفاضة حسن سريع الخالدة

ذكريات عن انتفاضة حسن سريع الخالدة

عربي فرحان
بعد فشل جهود المقاومة الباسلة للعراقيين الوطنيين ضد الانقلاب الفاشي في بغداد في حي الأكراد - شارع الكفاح وفي الكاظمية الباسلة وفي مدينة الثورة والوشاش البطلتين ومحلة الشواكة ومحلة الكريمات - حيث كان لي الشرف في التواجد في هذا الموقع الأخير - وغيرها في باقي المحافظات وبسبب عدم تكافؤ القوة القتالية للطرفين من حيث المعدات والاسلحة والعجلات المدرعة والدبابات تجاه الجماهير العزل المدافعة عن الثورة

والتي لا تمتلك السلاح إلا من بعض الاسلحة الخفيفة، فعلى سبيل المثال لم يكن لدينا نحن المتواجدون بالمئات في محلة الكريمات سوى غدارة واحدة قديمة تسمى (بجت) ولهذا كله كان لا بد من الانسحاب وعدم التسليم للانقلابيين. وفعلاً تمكنت من التسلل مشياً على الاقدام ليلاً الى مكان اختفائي في محلة المنصور، ومكثت فيها حوالي الشهر ومنها سافرت متنكراً الى البصرة ومن ثم عبر الاراضي الايرانية عن طريق المحمرة الى الاهواز، حيث تم إلقاء القبض عليّ وإيداعي سجن (باغ مهران) أحد سجون ايران الرهيبة في طهران .

أعود ثانية فأقول، ففي اليوم الثالث من تموز سنة 1963 اي بعد الانقلاب الدموي بحوالي خمسة اشهر، قام الجنود الوطنيون الابطال الشهداء بقيادة العريف حسن سريع وبتنسيق ومشاركة قسم من المناضلين المدنيين المؤمنين بقضيتهم قضية الشعب العادلة واخلاصهم لمبادئ حزبهم المناضل الحزب الشيوعي العراقي، وللرد على بشاعة اجرام الانقلابيين وايقافهم عند حدهم وبغية اطلاق سراح المعتقلين من الضباط في السجن رقم واحد العسكري وانقاذ الجماهير من زمرة البغي والارهاب والحكام العملاء بالانتفاضة التاريخية التي اطلقت عليها ثورة الجندي العراقي. ففي ليلة ذلك اليوم تمكنوا من إلقاء القبض على بعض قادة الانقلاب التافهين منهم طالب شبيب وأخوه بهاء شبيب ومنذر الونداوي وحازم جواد وأخوه حامد جواد وغيرهم، بعد أن تمت السيطرة على جميع الوحدات العسكرية المتواجدة في معسكر الرشيد وحجز جميع ضباط الخفر لتلك الليلة ومحاصرة السجن العسكري مما سبب انهيار آمره الملازم الأول المدعو حازم الصباغ (الأحمر) فانتحر ومات غير مأسوفٍ عليه وكادت ثورتهم أن تنجح لولا بعض الامور التي أحاطت بحركتهم جراء اختلاف التوقيتات للحركة وقصور قائد الدبابة وتردّده بالتنفيذ ولعدم تكافؤ التسليح وعدم توفر القيادة العسكرية الميدانية المهنية لإدارة المعركة وغيرها من الامور وللأسباب التي ليست من صلب موضوعي هذا، مما أدى ذلك الى فشلها وإلقاء القبض على قادتها والقائمين بها من عسكريين ومدنيين والحكم على معظمهم بالإعدام من قبل المجلس العرفي العسكري الخاص الذي كان يترأسه المجرم العقيد عبد الرحمن التكريتي وتم تنفيذ الأحكام الصورية بحقهم فوراً رمياً بالرصاص.
لم أكن متواجداً في بغداد كما ذكرت ذلك أعلاه، إلا أنني سأروي بعض الاحداث والامور الاخرى التي اعقبتها، بعد أن قامت الحكومة الايرانية بالمساومة مع الحكومة العراقية آنذاك حول تسليم العراقيين المعتقلين واللاجئين لديها البالغ عددهم 101 فرد، إذ كنت أحدهم لقاء تسليم بعض المعارضين للحكومة الايرانية، وقد زار ايران وفد عراقي لهذه الغاية، وكان الوفد بقيادة صبحي حميد وزير الخارجية حينذاك، إلا أن تأخر اجراءات التسليم الروتيني اعطى لنا فرصة ثانية للحياة جراء انقلاب عبد السلام عارف على حكم البعث، أدى ذلك الى تأجل التسليم حتى يوم 1 / 1 / 1964 .
إن اول بدايتي مع الانتفاضة كانت يوم 10 / تموز، حين دعتني ادارة سجن (باغ مهران) للحضور الى المقر، حيث كان هناك خمسة اشخاص باللباس المدني وبعد الجلوس أمامهم بادرني احدهم قائلاً، بأن سبب استدعائي لا يعدو عن بضعة اسئلة نطلب الإجابة عليها إن أمكن.
وفي ليلة 31 / 1 كانون الثاني سنة 1964 تم تسفيرنا بالقطار الى بلدة المحمرة ومن ثم بالسيارات الى داخل الأراضي العراقية، عن طريق الشلامجة الحدودية، حتى ناحية شط العرب (التنومة) هناك جرى استلامنا من قبل الشرطة والانضباط العسكري العراقي، ثم أرسلنا مباشرة الى موقف شرطة البصرة، وفي مساء اليوم نفسه، جرى تسفير الضباط الى بغداد بالقطار الصاعد لذلك اليوم، وكنا اربعة ضباط، وهم كل من الملازم أول ناجي نهر والملازم أول نوح علي الربيعي والملازم اول حامد مقصود وأنا الرئيس الأول الركن عربي فرحان الخميسي، أما الباقون فكلهم كانوا مدنيين، اتذكر منهم الشاعر الكبير مظفر النواب والمحامي طالب بدر وعضو محلية البصرة عبد الرحمن منصور وغيرهم.
وصلنا صباح اليوم الثاني الى بغداد وأرسلنا مباشرة الى وزارة الدفاع وعند مقر الانضباط في وسط الوزارة، جاء أحد ضباط الانضباط ورافقني الى مديرية الاستخبارات العسكرية قال لي، إن مديرها هو الذي طلبك وعند دخول غرفة المدير فوجئت حين رأيت المقدّم الركن شفيق حمودي الدراجي الذي أعرفه جيداً، حيث كان أحد طلابي من الضباط في مدرسة الأسلحة الخفيفة وأحد زملائي الضباط في كلية الأركان للدورة الثالثة والعشرين .
رحّب بي الرجل كثيراً وأمر بجلب فطور لي إلا أني لم اتناوله عدا الشاي. وبعد السؤال عن الصحة والأحوال، بادر هو بذم البعثيين والحرس القومي (اللا قومي) وهاجمهم بشدة وتطرق الى أفعالهم المشينة وقال لي، إن مديرية الاستخبارات قامت بإصدار كراس صغير فيه وصف لتلك الأعمال الاجرامية التي قامت بها تلك الزمرة المجرمة، ومدّ يده وناولني الكرّاس الصغير ألقيت عليه نظرة سريعة واستطرد قائلاً، إن أمور البلد ستكون جيدة وسيسود العدل والمساواة واحترام القانون، وبعد أن انتهى من كلامه طلبت منه أن يأمر بإطلاق سراحي لأني بريء إن هو كان صادقاً ! إلا أنه ابتسم وقال لي، يظهر أنك لا تعلم؟ قلت له ماذا تعني؟، فقال، أنت محكوم بالإعدام غيابياً من قبل المجلس العرفي العسكري الخاص بمحاكمة المشتركين مع حسن سريع، وسترسل الى سجن رقم واحد العسكري. فقلت أمامك جميع الأوليات المرسلة من قبل السلطات الإيرانية مبينة فيها تاريخ إلقاء القبض عليّ من قبلها وهذا دليل قاطع على براءتي، فأجابني هذا صحيح، إلا اني لا املك هذه الصلاحية. ثم سألته كيف ورد اسمي بهذه المحاكمة، فقال لي، جاء أسمك بأحد البيانات للحركة، حيث عيّنك فيها حسن سريع قائداً للفرقة العسكرية الأولى، وإن العقيد الركن غضبان السعد رئيساً لأركان الجيش وآخرين غيركم من الضباط لمناصب الجيش الأخرى، وكلكم محكومون بالإعدام غيابياً .
ارسلنا أنا وناجي ونوح بعد هذه المقابلة الى سجن رقم واحد العسكري عدا الملازم أول حامد مقصود، فقد أرسل الى سجن الحلة لمحاكمته بتهمة قتل المقدّم الركن إبراهيم جاسم التكريتي يوم الانقلاب الأسود في باب معسكر الرشيد، ومن هناك تمكّن من الهروب من السجن
جرى إسكاننا مع الجنود والمراتب المشتركين بالانتفاضة والمحكومين بالسجن وبمدد مختلفة وكان عددهم حوالي المئة، وبينهم بعض المدنيين عرفت أحدهم وهو الأستاذ نعيم جبار الزهيري، وهو معلم وكادر حزبي نشط سبق والتقيت بع في أحد السجون سابقاً .
كان هؤلاء الأبطال قد تعرضوا الى شتى انواع التعذيب والقسوة من جلاوزة البعث المجرم وهم لا يزالون تحت ضغط وهول التجربة القاسية التي مرّوا بها ويصبون حقدهم وغضبهم على اولئك الذين قاموا بالتحقيق الصوري معهم وتعذيبهم أشد العذاب اثناء التحقيق ومن جانبنا نحن الضباط الثلاثة حاولنا جاهدين الرفع من معنوياتهم والاستماع الى معاناتهم ومعاناة عوائلهم بالخارج وعن طريقهم عرفنا سير الأحداث التي جرت قبل الانتفاضة وخلالها وما بعدها والبطولات الرائعة للشهيد حسن السريع وإخوته باقي الشهداء .
سمعنا منهم أن من أحد أسباب قيام الانتفاضة بوقتها المعلن في 3 تموز، حيث يبدو موعداً قد يتصف بالعجلة والشعب العراقي كله وكوادر الحزب الشيوعي والمتعاطفين معه ما زالوا لم يتشافوا تماماً من جراحهم ومن اجرام البعث وسيل الدماء وفقدان القيادة السياسية يوم انقلابهم الأسود، إلا أن الجواب كان هو هناك نية للانقلابيين وعلى رأسهم احمد حسن البكر وطاهر يحيى وعبد الغني الراوي وغيرهم بقتل جميع الضباط المعتقلين البالغ عددهم حوالي الخمسمئة ضابط والمتواجدين رهن الاعتقال في سجن رقم واحد العسكري، وهذه حقيقة اعترف بها فيما بعد بعض عناصرهم ومنهم عبد الغني الراوي وهو يتبجح بهذا الرأي حتى الآن بدعوى معاداته للشيوعيين والشيوعية وفق الاسطوانه المشروخة . اضافة الى اسباب اخرى كثيرة مما دفع بالكادر الحزبي المتقدم ابراهيم محمد علي العضو النقابي النشط أن يأخذ على عاتقه هذه المهمة وأن يطرح فكرة الانتفاضة، حيث عذب اثناء التحقيق حتى الموت من دون أن يعترف على رفاقه ومن بعده خلفه محمد حبيب بالمشاركة الفاعلة مع العريف حسن سريع ورفاقه إضافة الى تقديرهم القائل بضرورة الاستفادة من الضباط أنفسهم لتولي القيادة بعد نجاح إطلاق سراحهم من السجن وهناك أسباب اخرى مبررة كما قال لنا اكثرهم، علماً أن هؤلاء الضباط كان قد سفّروا بذات اليوم بقطار حمل الى السماوة، سمّي بقطار الموت بطريقهم الى سجن نقرة السلمان الصحراوي سيئ الصيت .