الشيخ إمام وتأثيره في الشارع العربي

الشيخ إمام وتأثيره في الشارع العربي

وليد محمود عبدالناصر
تمر هذه الأيام مئة عام على ولادة الملحن والمغني السياسي المصري والعربي الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين الشيخ إمام عيسى، والذي أطلقت عليه جموع الشباب المصري والعربي لقب «فنان الشعب»، وهو اللقب الذي سبقه إليه فقط الفنان سيد درويش في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين.

وقد لحّن الشيخ إمام وغنى قصائد للعديد من الشعراء المصريين والعرب مثل المصريين نجيب سرور وأحمد فؤاد قاعود وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي وحلمي سالم، والفلسطينيين سميح القاسم وفدوى طوقان ومحمود درويش وتوفيق زياد، والتونسيين بيرم التونسي وآدم فتحي، واليمني عبدالله البردوني، وكثيرين آخرين غيرهم، إلا أن اسمه ارتبط كثيراً برفيق دربه في الحياة والفن والسجن الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم.
وإن كان الشيخ إمام مصري الجنسية فإن شعبيته وشهرته ذاعت في مختلف البلدان العربية، خصوصاً بين قطاعات الشباب، وبالذات طلاب الجامعات والمدارس العليا، وكذلك المثقفين وغيرهم من الفئات المسيّسة ضمن تلك الشعوب. فإضافة إلى مصر، أقام الشيخ إمام فترة في تونس، حيث أصبح له هناك مريدون وتلاميذ، كما غنى في عدد من الدول العربية، والأهم من ذلك غناؤه في مناسبات عدة للجاليات العربية في المهجر، خصوصاً في البلدان الأوروبية، وفي مقدمها فرنسا التي دعته وزارة الثقافة فيها رسمياً لإقامة حفلات عدة في عقد الثمانينات من القرن العشرين، وكذلك سويسرا.
وغنى الشيخ إمام، بالإضافة إلى العديد من الأغاني العاطفية والاجتماعية والابتهالات والتواشيح والأناشيد الدينية وتلاوة القرآن الكريم، لقضايا وطنه مصر، سواء من جهة الدعوة لحماية الاستقلال الوطني والحفاظ على حرية الإرادة والسيادة الوطنية، أو من جهة الدعوة لتبني نهج العدالة الاجتماعية والانحياز إلى القطاعات العريضة من الشعب من الفقراء والكادحين والمهمشين والمحرومين، أو من جهة الدعوة للحرية بكل صورها والديموقراطية بمعناها الشامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً باعتبارها تتويجاً لعملية مشاركة مجتمعية وسياسية في مختلف مناحي الحياة ومؤسسات الدولة والمجتمع، أو من جهة الدعوة للدفاع عن الثقافة الوطنية والقومية، أو من جهة الدعوة للدفاع عن انتماء مصر ودورها العربي، كما سيرد تفصيلاً فيما بعد في هذا المقال. وغنى الفنان الراحل للطلاب، وللشباب عموماً، وكذلك للعمال والفلاحين والجنود والمرأة، وغنى للمثقفين على خلفية ممارسة النقد البناء لدورهم، وغنى تعليقاً على تصاعد العلاقات المصرية الغربية، خصوصاً المصرية - الأميركية، عقب حرب أكتوبر 1973، وغنى لوقائع تاريخية مهمة ولمدن بعينها ولشخصيات لعبت أدواراً وطنية مهمة.
ولكن الشيخ إمام غنى أيضاً لقضايا الحرية والعدالة والثورة في العالم بشكل عام، فقد غنى للثورة في شبه الجزيرة الصينية، خصوصاً في فيتنام، حيث نعى بالغناء الزعيم الفيتنامي الراحل هو شي منه، ولاحقاً فرح مع الملايين عبر العالم بانتهاء الاحتلال الأميركي وإعادة توحيد البلاد وغنى لهذه المناسبة، وغنى دفاعاً عن الثورة في تشيلي وزعيمها الراحل الرئيس المنتخب سلفادور الليندي، واحتج غاضباً بأغانيه على الثورة المضادة ممثلة في الانقلاب المدعوم أميركياً الذي وقع في أيلول (سبتمبر) 1973، ونعى قبل ذلك كله، عبر الغناء، المناضل الثوري الأممي الأرجنتيني الأصل أرنستو تشي جيفارا لدى مصرعه في بوليفيا في 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1967.
غير أن الشيخ إمام في غمرة همه بمعاناة الشعب المصري وأحلامه، وكذلك بقضايا التحرر والثورة في العالم الخارجي، لم ينس أو يتجاهل القضايا العربية، بل شمل باللحن والغناء هموم الشعوب العربية، فبالطبع غنى كثيراً للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية والقومية، كما غنى للشعب اللبناني، خصوصاً إبان الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982. ومن جهة أخرى، غنى الفنان الراحل للتلاحم العربي والوحدة العربية باعتبارها وحدة بين الشعوب، وفي أعقاب تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية بعد اتفاقيات كامب ديفيد في أيلول 1978، غنى ليؤكد عروبة شعب مصر واستحالة التفرقة بينه وبين بقية الشعوب العربية وعلى حتمية التواصل باعتبار الشعب المصري هو الأكبر والأكثر تأثيراً على مر التاريخ بين الشعوب العربية الأخرى ثقافياً وفنياً وغير ذلك.
ومنذ ترك الشيخ إمام دنيانا عام 1995، قام الكثير من المطربين المصريين والعرب بإلقاء أغانيه في حفلات عامة وتسجيلها ضمن أغانيهم على أسطوانات، وذلك في رد ضمني واحتجاج صامت على منع الشيخ إمام من الغناء خلال فترات من حياته، سواء داخل وطنه مصر أو في العديد من البلدان العربية، وكان ضمن هؤلاء في مصر المطربان عزة بلبع، التي رافقت الراحل أيضاً وغنّت معه وله خلال حياته، ومحمد منير وعلي الحجار ومحمد الحلو وأحمد سعد ومريم صالح وغيرهم كثيرون، وفي تونس المطربتان صوفيا صادق وأمينة فاخت، وفي الوقت ذاته، تأسست فرق موسيقية عدة من الشباب على امتداد الوطن العربي لتؤدي ألحان وأغاني الفنان الراحل، كما أن فرقاً موسيقية وغنائية أخرى كانت موجودة بالفعل استعانت بهذه الألحان وتلك الأغاني لتأديتها في حفلاتها العامة. ومن ضمن هذه الفرق"اسكندريلا"و"بهية"و"الأولة بلدي"و"فرح- مصياف"وغيرها.
ولكن ما أبقى التراث الفني الثري للشيخ إمام عيسى حياً وجاذباً ودفع الكثير من المطربين والفرق الموسيقية والغنائية العربية لإعادة تقديم أعماله لم يكن مجرد رغبة ذات طابع أخلاقي أو أكاديمي في تخليد اسم الفنان الراحل أو تراثه الفني، وكذلك لم تكن مجرد الرغبة في رد الاعتبار له في مماته بعدما لقيه في حياته من معاناة ومنع من أداء وتقديم أعماله الفنية علانية في الكثير من الأحيان وغير ذلك، بل كان السبب الحقيقي لذلك الاستمرار، بل ربما حتى الاتساع في الانتشار، بعد رحيل الشيخ إمام، بسيطاً للغاية، وهو أن الكثير من الموضوعات التي غنى لها الشيخ إمام استمرت تعيش معنا محتفظة بدرجة أهميتها نفسها، بل ربما زادت أهميتها ضمن أولويات القوى الفاعلة والصاعدة في الكثير من المجتمعات العربية، خصوصاً الشباب، كما أن القضايا ذات الطابع القومي التي غنى لها الفنان الراحل لم تجد حلاً حتى الآن، بل نستطيع القول بثقة إن تلك القضايا ساءت حالتها أكثر، وفي المقدمة بالتأكيد القضية الفلسطينية وغياب الوحدة العربية. بل إن المفارقة تكمن في أنه إذا كان الشيخ إمام قد غنى ضد النزعات الفردية لكل دولة عربية داعياً إلى الوحدة العربية الشاملة، فإن الوطن العربي وصل مرحلة أن العديد من دوله وشعوبه وقواه السياسية والمجتمعية تسعى اليوم لمجرد الحفاظ على وحدة وكيان الدولة الوطنية وعدم تفتتها إلى كيانات ودويلات أصغر على أساس انتماءات دون وطنية، سواء كانت مذهبية أو عرقية أو دينية أو طائفية أو غير ذلك.
وربما كانت المحطة الأهم بالنسبة إلى أغنيات الشيخ إمام عيسى بعد رحيله هي ثورات وانتفاضات الربيع العربي بدءاً من تونس في كانون الأول (ديسمبر) 2010، ومروراً بمصر في كانون الثاني (يناير) 2011، ووصولاً إلى دول عربية أخرى لاحقاً. وخلال ما حفلت به السنوات الماضية من موجات ثورية في البلدان التي شهدت تلك الثورات والانتفاضات، انتشرت بشكل غير مسبوق أغنيات الفنان الراحل في صفوف الجماهير المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات، وبخاصة في الحالتين التونسية والمصرية، ربما لأن مصر هي وطنه وتونس هي الدولة العربية الوحيدة التي عاش فيها الشيخ إمام فترة من الوقت وأقام فيها مؤسسة موسيقية لمن تتلمذوا على يديه من مريدين وأتباع. وقد شهدت مرحلة «الربيع العربي"انتقال أغنيات الشيخ إمام على نطاق واسع إلى أغنيات جماهيرية تغنيها في الشوارع والميادين مختلف أطياف الشعوب العربية التي شهدت اندلاع ظاهرة «الربيع العربي»، ولم تعد مقصورة على جلسات للمثقفين وراء الأبواب المغلقة، ولا على فئة بعينها مثل الشباب المتعلم أو الطلاب داخل جامعاتهم كما كان الحال سابقاً، سواء خلال حياة الشيخ إمام أو بعد رحيله. وعلى سبيل المثال وظفت الجموع الشعبية أغنيات للفنان الراحل لحنها وغناها خلال انتفاضة كانون الثاني (يناير) 1977 في مصر لترددها خلال تظاهرات واحتجاجات ثورة 25 كانون/ يناير 2011 في مصر، في إشارة واضحة إلى أن الهموم لم يتم التعامل معها والقضايا لم تتغير والمطالب لم تلبّ والأحلام لم تتحقق.

عن جريدة الحياة