علّمهُ همنغواي أنَّ الإنسان قد يُحطّم لكنهُ لا يُهزم..بسام الوردي: أردت لجمهور السينما ان يكون فاعلا

علّمهُ همنغواي أنَّ الإنسان قد يُحطّم لكنهُ لا يُهزم..بسام الوردي: أردت لجمهور السينما ان يكون فاعلا

في صفحة كتبها ضمن سيرة حياته يقول الفنان بسّام الوردي: «لو أن اكاديمية الفنون الجميلة لم تستحدث في العام الدراسي 1960 – 1961 لكان بسّام الوردي (1943) قد واصل دراسته في فرع علوم الأحياء في كلية التربية في جامعة بغداد، الذي كان قد دخله بعد تخرجه في الفرع العلمي من ثانوية الكاظمية». وأضاف: «إلا أن الإعلان عن افتتاح الاكاديمية أغراه بالدخول إليها والتخرج في فرع السينما ضمن دورته الأولى"ليجد نفسه،

بعد ذلك، يعمل مع أسماء لها حضورها الفني، من بينهم المخرج عمانوئيل رسام، والممثل راسم الجميلي. ثم انتسب إلى الفرقة القومية للتمثيل ليصبح عضواً فيها منذ العام 1968. وابتداءً من العام 1971 اصبح مخرجاً في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، حيث أخرج عدداً كبيراً من البرامج ذات الطابع الثقافي، فضلاً عن قيامه بإخراج عدد من التمثيليات التي فازت إحداها (الامتحان) بجائزة أحسن إخراج في المهرجان الثالث لأفلام وبرامج فلسطين. بعدها أنجز الوردي عدداً من الأفلام الوثائقية عن فنانين تشكيليين عراقيين، من بينهم: عطا صبري، ومحمد غني، وخالد الرحال. أما في مجال الفيلم الروائي فيلم واحد، هو «ليلة سفر"الذي مثّل الأدوار الرئيسة فيه عدد من أبرز الفنانين العراقيين، بينهم الفنان الكبير يوسف العاني. بعده لم تتح له «الظروف العامة» التي مرّ بها العراق، ومنها الحصار، أن يواصل مسيرته التي كان يأمل مواصلتها في إخراج أفلام روائية أُخرى.

* بداية.. هل هناك اليوم إمكانات فعليّة لقيام سينما عراقية؟

- لا لمثل هذه الإمكانات، لسبب بسيط هو أن السينما بصفتها فنّاً، تقوم على ركائز عدّة أهمها: الركيزة التكنولوجية التي هي اليوم في تطور مستمر. ثم الركيزة الاقتصادية، في جانبي التمويل والاستثمار، باعتبار السينما تمثل مشروعاً فنياً – ربحياً. والركيزة الثالثة قائمة على كون السينما فنّاً جماعياً، لكنه يحمل هوية «ذات"واحدة هي «الذات الفنية للمخرج»، أو المخرج – المؤلف. وهذه لا تأتي عفواً، أو بفعل إرادي، وإنما تتشكل من خلال التراكم، وبعملية تدرج: تراكم الخبرة، ورأس المال، وتوالد الأجيال. ونحن لا نمتلك هذا.

* لماذا؟ ما أسباب هذا الغياب لعوامل النجاح؟
- لأن السينما العراقية في خلال أكثر من خمسين عاماً لم تنتج سوى مئة فيلم، أخرجها خمسون مخرجاً - أي أن المعدل الحسابي هو فيلمان لكل مخرج على امتداد هذا المدى الزمني غير القصير. وهذا أبرز سبب من أسباب إعاقة قيام سينما عراقية ذات هوية واضحة، ولها مسار على طريق التطور.

* وأنت شخصياً في أيّ ظروف عملت؟
- بالنسبة إليّ كان الفيلم الروائي، اليتيم هو: «ليلة سفر»، وكنتُ قد تأخرتُ في خوض تجربته لأن العمل السينمائي كان متعثراً ومشتتاً، فضلاً عن أن انتاج فيلم روائي كان حكراً على «مؤسسة الدولة"وعلى مخرجين بذاتهم. أما القطاع الخاص فإنه غامر، إلا أنه فشل كمستثمر في هذا القطاع الانتاجي، وإن كان قد حقق نجاحاً في بعض الأفلام الذي أنتج.
* فيلمك «ليلة سفر"كان، هو الآخر، من انتاج"مؤسسة الدولة»؟

- مع أن الموازنة التي خصصت لهذا الفيلم كانت هزيلة، عملت بجهد سينمائي حرصت فيه على أن تكون «لغة السينما» حاضرة في العمل: في تكوين المشاهد، وفي الطريقة التي اتخذت والأسلوب الفني الذي اعتمدت في الإخراج. استخدمت اللغة السينمائية، كما استوعبتها، للتعبير عن فكرة، كانت جوهرية في الفيلم، وهي: اشراك المتلقي- المشاهد في تكوين انطباع جمالي وفكري عن المضمون الذي يسعى الفيلم الى إيصاله. أي أنني أريد لمشاهد فيلمي هذا أن يكون «فاعلاً» وليس «منفعلاً» به فقط. لذلك حظي هذا الفيلم باهتمام النقاد.

* وما الأسلوب الذي اعتمدته لتحقيق ذلك؟

- إلى جانب ما سبقت الاشارة إليه، عمدتُ إلى أن أبثّ فيه «روحية الشعر»، وليس الشعر نفسه، اعتمدت الإيحاء والتورية، وظلال المعاني... ما وراء الكلمات، وكل ما يتصل بروح الشعر.

* ألا تجد نفسك، في هذا، قدّمت «فيلماً نخبوياً»؟

- حينما قلت إنني أردت لمشاهد الفيلم أن يكون «فاعلاً» لا «منفعلاً» كنتُ أقصد تواصل هذا المشاهد مع الفكرة الاساسية فيه. و»ليلة سفر"لم يكن «فيلماً نخبوياً» على الاطلاق، كل الذي فعلته فيه هو أنني حاولت خلق نوع من الموازنة بين كون الفيلم - شئنا أم أبينا- «سلعة"يجب أن تجد سوقها، وتعود على منتجها بمردود ربحي، وبين كونه «فنّاً» له مستواه. ولكن مع ذلك فان هذا الفيلم لم يعرض على نطاق واسع في العراق، لمحدودية عدد دور العرض السينمائي- وان كان هناك سببان آخران، ظاهري وحقيقي. السبب الظاهري هو إن إحدى الممثلات في الفيلم كانت قد غادرت العراق بعد اتمام العمل، ملتحقة بالمعارضة العراقية في الخارج. أما السبب الحقيقي فهو - بحسب تقديري - أن الفيلم بلغته السينمائية التي اعتمدتها فيه كان أن وضع عديد الأفلام العراقية، المكلفة انتاجاً إلى حدّ البذخ، على المحك... مقارنة بفيلم أُنتج بموازنة هزيلة.

* ولماذا لم تواصل عملك في مثل هذا السياق من العمل؟

- بعد هذا الفيلم لم تنتج «دائرة السينما والمسرح"سوى فيلم واحد هو «الملك غازي» الذي أخرجه الفنان محمد شكري جميل، وكان انتاجه تم بتوجيه من جهات عليا في الدولة. فالتوقف لم يكن فردياً، وإنما كان توقفاً جماعياً بفعل الظروف القاسية التي عشناها.

*وماذا عن أفلامك التسجيلية - التي لك فيها إنتاج كبير نسبياً؟

- انجازي في مستوى الفيلم التسجيلي لا بأس به من حيث الكم، كما أنه انطوى على منجز نوعي، كما أعتقد. ولعلّ أهم أفلامي التسجيلية هو «حكاية للمدى"الذي تناولت فيه حياة وأعمال الفنان العراقي يحيى جواد، بأسلوب وظفت فيه أعماله النحتية لمقولة أشمل، هي مقولة «همنغواي»:"إنك تستطيع أن تحطم الانسان... ولكنك لن تهزمه».

*وهل ترى أن العمل السينمائي في العراق يمكن أن يُستأنف على أسس جديدة، وبوتائر أكبر وأشمل وأوسع؟
- ما نحتاجه، أولاً، هو رأس المال اللازم لمثل هذا الإنتاج، تشجيع رأس المال على التوجه إلى مثل هذا القطاع الاستثماري - والذي لا اعتقده متيسراً الآن بشكلٍ مرضٍ. فإذا ما علمنا أن الاستثمار في هذا المجال بطيء الربح، وجدنا أن «من يملكون» يبحثون اليوم عن الربح السريع، ذلك أن همهم مالي، وليس ثقافياً - أما أن تتبنى الدولة مثل هذا العمل، لأسباب فنية وتربوية وأخلاقية وسياسية وذلك بدعم رأس المال الخاص، فإن ذلك – إذا ما تم - قد يفتح أمام السينمائيين العراقيين باباً - وان كان سيظل موارباً، كما أعتقد.

*والعنصر البشري؟

- إن التوقف الذي حصل في العمل في مجالات السينما في السنوات الأخيرة، وهجرة عديد الفنانين، والتآكل، وعدم توالد أجيال جديدة... كل ذلك أدى إلى افقار الحياة السينمائية العراقية من عنصرها البشري. ولكن، هناك أشخاص درسوا في الخارج واكتسبوا خبرات جديدة، وهم لا يزالون هناك... فإذا ما شاركت الخبرات الموجودة في الداخل، قد تحقق بعض التعويض.

* وما الفيلم الذي تحلم بإخراجه؟

- أجمل القصائد هي تلك التي لم تكتب بعد. وأجمل الأفلام هو ما لم أنتجه بعد. أنا أحلم بفيلم معاصر جداً، فيه كل ما نحلم به، ونفكر، ونعاني. فيلم معقد تكنولوجياً، وبسيط وجدانياً - وقد لا يتحقق!

نشر هذا الحوار عام 2006
قبل رحيل الوردي بعام