بسّام الوردي لملم السنين على عجل وبعثرني في مكانها

بسّام الوردي لملم السنين على عجل وبعثرني في مكانها

يحيى الشيخ
كنت أتكئ على سياج الحديقة مزهواً بوجودي في أيامي الأولى في أكاديمية الفنون جميلة العليا في بغداد، ذلك في تشرين الأول من عام 62. مشمسة وواسعة كانت الحديقة تنحدر صوب النهر، في العيواضية. بجواري كان يقف صديقي وابن مدينتي شاكر حمد، قريب منا كان بعض الطلبة يتحدثون في جملة مواضيع في آن واحد. تقدّم منا طالب وردي اللون ممتلئ الوجه، ناعم،

ينم عن عافية ودلال، بثقة زعزعت استرخائي، مد يده مبتسماً وقال: هل أنت يحيى الشيخ.... ممكن سؤال؟ وتنحى بي جانباً وهمس في أذني: وصل ترحيلك يا يوسف.
بعد أيام وجدتني وبسّام الوردي في كل مكان. كان أكثرها إثارة وإحراجاً زيارتي معه الى أحد بيوت آل الوردي، اعتقده كان في العطيفية. كان يعج بأهله: فتيان وبنات، نساء ورجال تهت بينهم، وكنت أعتقد أن كل العيون كانت ترصدني، فصعب عليّ ابتلاع لقمتي، ويبدو أن بسّام لمس حرجي واضطرابي فأخذني الى بيت قريب لهم، كان مرسم الفنان هاشم الورد ومتحف مقتنياته، وكان أول مرسم خاص أدخله في حياتي. شاهدت هناك عشرات اللوحات والتماثيل والمسابح الثمينة وقطع الأثاث النادرة وبعض المخطوطات. من خلال صحبتنا عرّفني على شعر مظفر النواب، وكنت أول مرة أسمع به، كان يحفظه على ظهر قلب ويرزح تحت سطوته.. وأعتقد بسب ذلك تلكأ بسّام في المضي الى كتابة الشعر الشعبي، فكان ينظمه من وقت الى آخر. من تلك الأيام أخذ بسّام ينغرس في حياتي وفي أكثر المواضع حساسية وخصباً. وقع انقلاب شباط عام 63، حينها كنت في العمارة لقضاء العطلة الشتوية مع أهلي.
عدت الى بغداد في بداية آذار. لم يكن بسّام في الأكاديمية ولا أنور الغساني ولا هاشم سمرجي ولا ودود، كما أن نوفير"الأرمنية"قطعت الدراسة وقررت الهجرة (كل هذه الأسماء غادرت العراق إلا بسّام الوردي الذي اصطفى العيش والموت فيه). ألغيت الأكاديمية وسميت: أكاديمية الفنون الجميلة الملغاة، وتم الابقاء على طلبة الدورة الأولى والثانية حتى التخرج، ونقلت الى بناية معهد الفنون الجميلة. تأكد لي أن غياب بسّام والأخرين يعني إلقاء القبض عليهم. بعد أيام قليلة كنت في قاعة درس التخطيط. أستاذنا البولوني رومان ارتموفسكي ذو القامة الطويلة النحيلة كان يتفقد رسومات الطلبة. طرق زميل لي، من الدورة السابقة، الباب وطلب الاذن بالدخول ليقتادني الى سيارة الحرس القومي عند المدخل الرئيس للمعهد. كنت مستسلماً وخاوياً إلا من قشعريرة كانت تقوضني، تفرد مفاصلي وتطويني على سؤال لاذع: من أبلغ عني؟ لقد خرجت من العمارة سالماً فكل من كان لي صلة بهم اختفوا أو فرّوا الى ايران، ولا يعرفني في بغداد إلا اثنان بسّام الوردي وهاشم!!!
قضيت ثلاثة أيام في موقف السراي وسيق بيّ بعدها الى الموقف العام في باب المعظم. كان صباحاً ربيعياً مشمساً لم يزل ينطوي على بقايا برد الشتاء القاسي الذي حلّ ذلك العام... أدخلني الشرطي القلعة السادسة وأغلق الباب خلفي. حتى يحيط المرء بعينيه بأرجاء القلعة وباحتها المنقسمة نصفين، يستغرق ذلك وقتاً محسوباً، تبدد بفعل صيحة بسّام من وسط الموقوفين في أقصى الساحة، فعند كل موجة ترحيل من والى يتجمهر السجناء لمعرفة منّ القادم أو منّ المغادر! بين ذراعيه عثرت على معنى دافئ للصداقة وعلى مبرر موضوعي لحالتي، وكانت نظراتي كافية ليجيبني أنه لم يبلغ عني وكذلك هاشم الذي تم ترحيله الى الموصل. كي تصل الى روح بسّام الوردي لا تحتاج الى وسائط، فأنت تجده قد وصلك قبلك، وهو يتشكّل بسلاسة الى نظير لك يندمج فيك ويختفي في طيات وجدانك. كنت أعثر عليه مرة في أعماقي ينبش أوجاعي أو أمامي يشير الى ما أنوي إليه. كان يخترقي كالضوء وما كان مني إلا أن أكون أكثر شفافية لأنعم برفقته. غالباً ما كنت أحلق الى خارج القلعة السادسة جناحاي كانا هو وسعدي الحديثي. كان مجلسنا أغاني مبحوحة وقصائد ونوادر وحكايات وكل ما ينفينا الى خارج السجن.... واحد من بغداد والآخر من حديثة والثالث من العمارة... ثلاثة مشاريع لثلاثة مصائر.
بعد أشهر أطلق سراحنا، بعدها بثلاث سنوات تخرجنا من الأكاديمية. رفضت الدولة تشغيلنا، فقررت مجموعة كبيرة من الخريجين السفر للتدريس في السعودية. تناثرنا في الربع الخالي وكان نصيبنا أنا وهاشم سمرجي في مدينة الدمام، أما بسّام الوردي فقد ألقي به في الهفوف، وما أدراك ما الهفوف قبل أربعين عاماً!!! لم يكن لديه غيرنا فكان يقطع مئات الأميال ليقضي بيننا ليلة أو ليلتين يبث فيهما كل عذابات الحب التي كانت تصليه. بسّام طفل ماكر كانت أيامه معنا مفعمة بالضجيج والمشاكسات وبقصائد جديدة وحكايات عن غبار الحياة في الصحراء من حوله.
وها هو يتمفصل في أدق مراحلي وأكثرها غنى. قامت الحرب في حزيران 67 فأغلقت المطارات وقررنا العودة بالسيارات الى البصرة عبر الكويت. كان الحر والغبار ورطوية البحر المحاذي ودخان السكائر والطريق اليباب يثير الأعصاب، غير أن بسّام، كما لو في رحلة مدرسية، كان يركّب الأفكار ويخلطها على هواه بطريقة خرافية، فيسرق الآخرين من أنفسهم وينزع عنهم ركود أرواحهم. بعد أن يتعب من حمل الآخرين على جناح الخيال والسخرية من الواقع، ينشد مقطعه المحبّب من قصيدة المدينة لكافافي :
“ما دمت قد خربت حياتك، في هذا الركن المهجور من العالم
فهي خراب لك أينما حللت»
يغط بعدها عميقاً ثم ينتفض لينتج عبثاً جديداً. كان شاقاً عليّ أن أحتويه لفترة طويلة على حال واحدة. كان يقلقه جريان الأيام من حوله بلا مبالاة، فيقلقني معه. كثيراً ما كنت أقسو عليه وكنت على يقين أنه كان يحبني أكثر مما كنت أحبه، وما كان يعذبني أكثر عجزي عن مجاراة روحه الوثّابة كالنبض في عروق الحياة.
عاش بسّام الوردي بروح أخرى غير الروح التي تكشفت في حياته الاعتيادية. غالباً ما كان يلامسني أثيرها... وهو يبكي حباً، وهو يقرأ الشعر، وهو يقهقه عالياً، وهو يسرح بخياله الى الأقاصي. روح لم يستنفدها بسّام وستبقى طويلاً تحوم بيننا حتى تعثر على من تسكنه يوماً ما لتكمل مشوارها الجميل. عبر ثلاثين عاماً وآلاف الأميال أعود اليها اتعكزعلى ذاكرة تنز مرارة لأقول لها.... سلام الله عليك يا أخي.