القوة تحترم القوة لذا نحن نحتاج القوة لكي نجعل أمتنا تنعم بالسلام

القوة تحترم القوة لذا نحن نحتاج القوة لكي نجعل أمتنا تنعم بالسلام

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
الرئيس الهندي الراحل زين العابدين عبد الكلام العالم ومهندس الصواريخ الذي أعجبت أيّما أعجاب بشخصيته النزيهة ومكانته العلمية في الهند والعالم، ودفعني اعجابي هذا الى قراءة مصادر متعددة عنه، أقدم ترجمة لهذا الحوار معه ليس من باب الرثاء، فالخالدون لا يموتون بل هي تلويحة وداع لهذه الشخصية الفريدة ومواقفها المميزة.

ليس كافياً أن نعرف الكثير عن الأدباء والفنانين والمخرجين بل لا بد أن نعلم المزيد عن رجال عصرنا المرموقين من صنّاع الأمل ورعاة المستقبل، وكم تمنيت أن يكون لدينا قادة من طراز عبد الكلام يديرون أمور البلاد بحنكة وحكمة ويتمتعون بهذا القدر من الثقافة والرفعة والنزاهة والانتماء للوطن وحده دون سواه ويخططون لمستقبل افضل معززاً بالمعرفة والتقدم العلمي والتقني لتحقيق السلام الاجتماعي. وترجمت هذا الحوار لكسر تابو النمط التقليدي لرؤساء دولنا وتقديم النموذج المغاير تماماً: أن يكون الرئيس شاعراً ومهندس فضاء عالمياً وكاتباً وليس سياسياً فحسب.

أبو بكر زين العابدين عبد الكلام: عالم و مهندس صواريخ هندي لعب دوراً رائداً في تطوير برنامجي الهند الصاروخي و النووي كما كان رئيساً للهند للفترة 2002 – 2007 وهو كاتب وشاعر لم ينتم يوماً لحزب سياسي وهو الرئيس المسلم الثالث للهند متعددة الأديان والأعراق، رئيس من اقلية مسلمة في بلد يمثل الهندوس غالبيته العظمى ويليهم السيخ إضافة إلى 1500 من الأعراق والطوائف والاديان والعقائد الأخرى.
ولد عبد الكلام في بلدة راميسوارام الهندية عام 1931 وحصل على شهادة جامعية في الهندسة الفضائية من معهد مدراس التقني، وانضمّ عام 1958 إلى منظّمة الأبحاث و التطوير الدفاعي (DRDO) ثم التحق بمنظمة أبحاث الفضاء الهندية وعمل مديراً للمشروع الخاص بتطوير العربة الحاملة للأقمار الصناعية، ثمّ عاد عبد الكلام عام 1982 إلى منظّمة الأبحاث و التطوير الدفاعي و عمل في تطوير البرنامج الصاروخي البالستي الهندي حتّى استحق لقب"رجل الصواريخ"و للفترة من 1992 – 1997 عمل عبد الكلام مستشاراً علمياً لوزير الدفاع الهندي ثمّ كبير المستشارين للحكومة الهندية للفترة 1999 – 2001. في عام 1998 وضع عبد الكلام برنامجاً تقنياً طموحاً تحت عنوان (رؤية تكنولوجية حتى عام 2020) و يعدّ بمثابة خارطة طريق لجعل الهند مجتمعاً قادراً على المنافسة التقنية العالمية خلال عشرين عاماً بعد 1998 و ركّز البرنامج على الموضوعات الرئيسة التالية: زيادة الإنتاجية الزراعية، و التركيز على التكنولوجيا كوسيلة أساسية للنمو الاقتصادي، و زيادة قدرة المواطنين على الاستفادة من الوسائل و التقنيات الصحية و التعليمية.
رشّح التحالف الوطني الديمقراطي عبد الكلام عام 2002 لمنصب الرئاسة وحاز ترشيحه على قبول جميع الأحزاب بما فيها الأحزاب المعارضة للتحالف الوطني – و بصرف النظر عن كونه مسلماً – بسبب مساهماته العلمية و التقنية في تطوير المجتمع الهندي، حاز عبد الكلام منصب الرئاسة وأدّى القسم باعتباره الرئيس الحادي عشر للهند وغادر المنصب عام 2007 و خلفته (براتيبها باتل) أوّل رئيسة في تاريخ الهند.
حصل عبد الكلام على الكثير من الجوائز المرموقة والشهادات الفخرية، و ألّف العديد من الكتب نذكر منها : سيرته الذاتية (أجنحة النار Wings of Fire) عام 1999، (الهند عام 2020 : رؤية للألفية الجديدة India 2020 : A Vision for the New Millennium) عام 1998 وكتاب (رحلتي : تحويل الأحلام الى أفعال).
فيما يلي ترجمة لبعض الأسئلة التي وجّهها موقع (Knowledge @ Wharton) الالكتروني التابع لجامعة بنسلفانيا الامريكية، وكذلك موقع dna الالكتروني إلى البروفسور عبد الكلام، وينطوي الحواران على الجوانب الرؤيوية الكاشفة التي أجدُنا في أشد الحاجة إليها في مجتمعاتنا التي لا تزال تغيّب المعرفة العلمية و التقنية و تقتصر على سرد بعض المعلومات الجافة دون النظر إلى هذه المعرفة من جهة تّأثيراتها المجتمعية وتعزيز دور الحكومات في توفير الشروط اللازمة للإنجاز العلمي و التقني، ويترافق هذا مع النظرة الخاطئة لدينا إلى المعرفة العلمية على أنّها معرفة غارقة في التخصّص و الفوقية بما يجعلها أقرب إلى الأساطير المغلقة، و ربّما كان في إقصاء العلماء والتقنيين والمخترعين عن مراكز الإدارة و القرار عندنا واستيلاء الحزبيين من متوسطي التعليم ومزوّري الشهادات على مراكز الادارة ما يوضّح جانباً من الجوانب العديدة للتبلّد و الانكفاء الحضاري و الثقافي و العلمي - و قبل كل هذا الانكفاء الاقتصادي- الذي يغرق فيه عراقنا المبتلى بسوء الإدارة المستديمة منذ عقود خلت.
الحـــــــوار:
* في إشارة إلى مفردة (المعرفة) التي يتسمّى بها موقعنا، هل يمكن أن تقول لنا ما الذي تعنيه مفردة المعرفة لك؟
• كتبت مرة قصيدة من أربعة سطور أسميتها (الإبداع)، أقول فيها:
التعلّم يمهّد السبيل للإبداع
الإبداع يقود إلى التفكير
التفكير يخلق المعرفة
المعرفة تجعل منك امرءاً عظيماً........
* دعنا نبدأ الحديث انطلاقاً من ماضيك : فقد ولدت في قرية هندية عام 1931. ما القضايا الكبرى التي حصلت في الهند وتعدّ نفسك شاهداً عليها؟
• عندما كنت يافعاً رأيت إلى أي حال انتهت الحرب العالمية الثانية و الإصابات الخطيرة و التأثيرات المميتة التي نجمت عنها، و رأيت الهند تنال استقلالها في آب 1947، و تتبّعت مسار الارتقاء الاقتصادي الهندي المتصاعد الذي انطلق عام 1991. عملت مع علماء رؤيويين عظام من أمثال البروفسور (فيكرام سارابهاي) ورأيت العديد من الثورات تتحقق أمام ناظري : الثورة الخضراء ومن بعدها الثورة العارمة في الاتصالات البعيدة و نمو تقنيات الاتصالات و المعلومات، وعاصرت نجاحات الهند في برنامجها الفضائي و كفايتها الذاتية في حقل التسلّح الستراتيجي، وأشعر دوماً أننا مطالبون بأن نعمل بكل طاقتنا لجلب الابتسامة إلى وجوه أكثر من مليار هندي.
* نعلم أنك ساهمت بطريقة حاسمة في تطوير برنامج الصواريخ الهندي. ما الدروس المهمة التي تعلّمتها من وراء قيادتك لهذا البرنامج الحيوي؟
• واحد من أهم الدروس التي تعلمتها في برنامج الهند الفضائي والصاروخي هو أن لا نكتفي بالتعامل مع النجاح بل ينبغي أن نتعلّم كيف نتعامل مع الفشل أيضاً وأودّ كثيراً أن يدرك الشباب كيف يتعاملون مع الفشل: فالمشكلات لا ينبغي أن تكون القائدة في أي مشروع حيوي بل ينبغي أن نكون نحن من يسيطر على المشكلات و يهزمها في النهاية.
* يعرف عنك نزوعك الروحاني العميق. هل أحسست يوماً ما بنوع من صراع أو ذنب ما يجتاحك بسبب عملك في تطوير الصواريخ و الأسلحة النووية؟
• أدركت منذ بداية عملي أن السلام مهم للغاية لتطور بلدي، لكن السلام يأتي دوماً مترافقاً مع القوة : القوة تحترم القوة لذا نحن نحتاج القوة لكي نجعل أمتنا تنعم بالسلام.
* كيف أصبحت رئيساً للهند في تموز عام 2002؟ أية مواصفات قيادية يحتاجها المرء ليقود بلداً كبيراً ومعقّداً ومتخماً بالإشكاليات مثل الهند؟
• أية قيادة - في حقل التكنولوجيا أو السياسة – تتطلّب أن يحوز القائد على سمات ست أساسية : الأولى هي أن يمتلك القائد الرؤية vision، والثانية هي أن يكون بمقدوره طرق وسائل غير مجرّبة أو مستكشفة لأن الناس يميلون في الغالب إلى الاندفاع في طرق مطروقة من الآخرين و لا يميلون إلى دفع الاثمان المترتبة على مغامرة تجريب وسائل غير مطروقة، والسمة الثالثة هي أن يعرف القائد كيف يتعامل مع النجاح، و الأهم من ذلك بكثير كيف يتعامل مع الفشل، أما السمة الرابعة فهي أن القائد ينبغي أن يتحلّى بالشجاعة في اتخاذ قرارات مسؤولة، والسمة الخامسة ينبغي على القائد أن يكون شفّافاً ومرئياً من قبل الجميع، و أخيراً يجب على القائد أن يعمل في نزاهة كاملة وسط محيط من المساعدين و المستشارين الذين يناظرونه نزاهة ليتمكّن من تحقيق الأهداف المؤشّرة. كل هذه السمات تسم القائد وبخاصة عندما يكون رئيس دولة، و ينبغي له دوماً أن يكون على صلة يومية وثيقة بشعبه وأرى أن راشتراباتي بافان (السكن الرئاسي في نيودلهي والمناظر للبيت الأبيض الأميركي) يجب أن يكون بيتاً لكل الناس، وعندما كنت رئيساً للهند سافرت إلى كل الولايات و عبرت الكثير من التلال و الصحاري و البحار و كنت على تماس يومي مباشر مع العديد من ملايين الناس.
* في رؤيتك المستقبلية عن الهند تلعب التكنولوجيا دوراً بالغ الأهمية. كيف ستلعب الشبكات الاجتماعية بكل أشكالها: شبكة المعرفة و شبكة الصحة و شبكة الحوكمة دورها في ارتقاء الهند و تطوّرها؟
• تكمن الفكرة وراء أهمية الشبكات الاجتماعية في أن شبكة المعرفة ستوفر لمواطني القرى الهندية المهارة و المعرفة اللازمتين لجعلهم أفراداً منتجين في مجتمعهم، و ستعمل الشبكة الصحية على نقل الخدمات الصحية المتاحة في المراكز الحضرية إلى المواطنين الريفيين وجعلها متاحة لهم في الوقت الذي ستعمل فيه شبكة الحوكمة Governance الأداء الحكومي شفّافاً أمام المواطنين بما يجعلهم مقتنعين بدور المؤسسات الحكومية في خدمتهم فعلاً.
* لو عادت بك السنوات إلى الوراء رئيساً للهند فما الذي ستفعله مما لم يتسنّ لك فعله قبلاً؟
• لطالما أعجبتني فكرة أن يكون"راشتراباتي بافان"هو المنزل الأول في الهند الذي يتم توفير كامل طاقته باستخدام الطاقة الشمسية.
* أنت شاعر موهوب كما نعلم. هل يمكنك أن تسرد لنا شيئاً من قصيدتك الفضلى؟
• أفضل ما كتبت من شعر - كما أظن – هي قصيدة (الرؤية The Vision) و قد قرأتها سابقاً في البرلمان الهندي و سأعيد ذكرها هنا:
تسلّقت و تسلّقت...
أين القمّة، يا ربّي؟
حرثت و حرثت...
أين كنز المعرفة، يا ربّي؟
أبحرت و أبحرت...
أين جزيرة السلام، يا ربّي؟
أيّها العظيم القدرة...
بارك أمّتي بالرؤية و الكدح المفضيين إلى السعادة
* ماهي بعضُ مُتعك الكبرى؟
• الكتب هي أصدقائي المفضّلون، و أعتبرُ بيتي الذي يضمُ مكتبة تحوي بضعة ألوف من الكتب بمثابة كنزي الأعظم. كلّ كتاب جديد مؤسس على فكرة جديدة يلهمني ويمنحني قدرة متجددة على التأمل وأعمال الفكر و القلب و النظر. أحب قراءة الشعر و كتابته، وأحب الموسيقى التي تشفي العقل، وأحب بخاصة الموسيقى الكارتانية Cartanic و الهندوستانية الكلاسيكية. (الموسيقى الكارتانية : لون موسيقي يشيع في المقاطعات الهندية الجنوبية على وجه التحديد، المترجمة).
*ما أفضل ماقرأتَ من الكتب؟
• بعضٌ من أفضل قراءاتي هي : الضوء المنبعث من مصابيح عدّة للكاتبة ليليان إيكلير واتسون، إمبراطوريات العقل للكاتب دينيس ويتلي، عظمة كلّ يوم للكاتب ستيفن كوفي، الطب و التعاطف لكبير الرهبان تشوكي نيما، تيا للكاتب ساماربان.
* ما الذي تعملُ عليه للمستقبل؟
• أواصل الكتابة للتعبير عن أفكاري بشأن ماينبغي أن تكون عليه الهند علمياً وتقنياً و اقتصادياً عام 2020، وكذلك بشأن كيفية قدح عقول الشباب و إلهامهم في ما يخص رؤية المستقبل.
* لطالما كنتَ مصدر إلهامٍ للكثيرين. من كان مُلهِمكَ أنت؟
• مصدر إلهامي كان مدرس العلوم في مدرستي : شري سيفاسوبرامانيا، الذي علّمني مواد دراسية تدرّسُ لتلاميذ في الثالثة عشرة وأنا لمّا أزل في الثامنة من عمري بعدُ!!!.
× هل ثمّة من رسائل محدّدة لك لجيل الشباب؟
• أولاً : كونوا متفرّدين. ثانياً : تذكروا أن الهند ستكون في حاجة لجهودكم خلال القرن الحادي و العشرين لتعملوا بنزاهة و لتنجحوا بنزاهة أيضاً. ثالثاً : ينبغي إحلال الروحية القائمة على مبدأ (ماالذي يمكنني منحه) محلّ الروحية القائمة على (ما الذي يمكنني اقتناصه) - تلك هي الطريقة المثلى لاستئصال الجشع الذي يقود إلى مشاكل خطيرة مثل : الفساد، و التدهور البيئي المستديم، و السلوكيات الأخلاقية الشائنة.