خديجة الحديثي.. والانتصار على التهجّي النحوي

خديجة الحديثي.. والانتصار على التهجّي النحوي

د. هادي حسن حمودي
(1)
قيل للدكتورة خديجة الحديثي:
س : هل صحيح أن الحرية نقيض الخوف؟
س: هل يمكن أن تختصري شخصيتك ببيت من الشعر القديم؟
فكان جوابها الذي يلخص شخصيتها:
ج: كثيرون ممن مُنحوا الحرية خائفون.

ج- قول الشاعر:
وإذا كانت النفوسُ كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ

(2)
أثناء السنة الأولى من دراستي في كلية الآداب اطلعت على بعض محاضرات أستاذة عراقية هي الدكتورة خديجة الحديثي التي كانت تدرّس في كلية التربية، وحينما أصدرت كتابيها: (أبنية الصرف في كتاب سيبويه - 1965) و(أبو حيان النحوي – 1966) وما تلاهما من مؤلفات ارتقت منزلتها في عيون تلامذتها، إذ عمقت في نفوسهم الشغف بالبحث النحوي والصرفي. وأعتقد أن تناولها لموضوعي الكتابين تناولاً نسوياً يخفف من خشونة تعامل النحويين مع مسائل النحو والصرف، كان له تأثير كبير في تعميق رغبة طلاب النحو والصرف في اجتياز تشابك الأزقة النحوية التراثية. مع ملاحظة أن الدراسات النحوية كانت صندوقاً مقفلاً للرجال دون النساء. ولم تظهر في التراث امرأة لها في النحو نصيب. كما إنهن في الزمن الحديث قليلات أيضاً، ربما كانت الحديثي رائدتهن في هذا الضرب من الدرس والتخصص المشترط الجد والصبر العميق.
لم ألتق بها إلّا في سنة 1980م في وهران حين جاءت أستاذة زائرة لمدة شهر واحد، برفقة زوجها الأستاذ الدكتور أحمد مطلوب الذي درّسنا في مرحلة البكالوريوس في كلية الآداب، وأشرف على رسالتي للماجستير (تحقيق مجمل اللغة لابن فارس) في ظرف حرج، بحيث لولا قبوله الإشراف على رسالتي بعد أن أجّل أستاذ آخر تراجعه عن الإشراف عليها إلى آخر يوم لتسجيل الرسائل الجامعية في كلية الآداب، جامعة بغداد، بعد أن كان قد طلب مني تسجيل الرسالة تحت إشرافه وحدّد لي موضوعها... لما كان لي أن أحصل على الماجستير ولا ما بعدها، بخاصة أن الظروف لم تكن مسعفة للدراسة الخاصة خارج العراق.
تابعتُ محاضراتها النحوية في جامعة وهران حيث كان طلبتها ينقلون لي أحاسيسهم وآراءهم التي أوصلتني إلى قناعة أنها استطاعت أن تنقلهم من التهجّي النحوي إلى علم النحو فناً وصنعة، لا تصنّعاً. وظاهرة التهجي ظاهرة متفشية في كثير من ضروب الدرس الجامعي العربي، لذلك تراهم لا يُحسنون من ذلك الدرس إلّا استظهاراً كما يتهجّى طالب الصف الأول الابتدائي حروف الكلمات. وقد لحظت هذه الظاهرة منذ أولى ساعات عملي في جامعة وهران، لأن الطلبة كانوا (شأنهم شأنَ طلاب النحو والصرف وفقه اللغة في عموم عالمنا العربي) يتلقون مسائل النحو بطريقة تقليدية لا تنسجم مع أبناء هذا الزمان. ولقد صارحني الطلاب منذ الساعة الأولى لدخولي مدرج التدريس في بدء عملي في الجامعة، أن المادة ثقيلة عسيرة وأنهم متضايقون منها، تضايقاً وصل ببعضهم إلى الاشمئزاز من دراستها، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ولكني استطعت أن أحبب المادة النحوية لهم وأن أقلب ضيقهم واشمئزازهم إلى انسجام مع قضاياها التي قدّمتها لهم في إطار من مناقشة مقالات الأقدمين ورؤاهم، وواظبت انتهاج ذلك النهج إلى أن تخليت عن تدريس النحو مكتفياً بفقه اللغة ومناهج البحث. وبعدها عادت شكوى الطلاب من المادة نتيجة طريقة التدريس، إلى أن حظيت الجامعة بمجيء الدكتورة خديجة الحديثي لتخرج الطلاب من تلك الشرنقة طيلة فترة وجودها هناك.
وأعني بالتهجي أن يجلس الأستاذ على منصة التدريس ويرمي على رؤوس الطلاب قضايا النحو، قراءة حيناً وإملاءً حيناً آخر. فالفرق كبير بين هذا النهج وأن تمنحهم القدرة على التفكير في تلك القضايا ومناقشتها. وكان من نتيجة الجهود التي بذلتها الدكتورة الحديثي، أن عبّر لي بعض الطلاب والطالبات عن قناعتهم بأن العراق الذي وضع أسس النحو في مدرستي البصرة والكوفة في القرنين الأول والثاني للهجرة بناءً على معارف تلك الأزمنة، ما زال نحويوه روّاداً في منهجة النحو على أسس متلائمة مع مستويات دارسيه في الأزمنة الحديثة.
في ذلك الشهر الذي لم يتكرر كانت اللقاءات مع الدكتور أحمد وزوجه، يومية، مما أتاح لي أن أفهم الجوانب الثلاثة المندمجة في شخصية واحدة متماسكة: الإنسانية، الأسرية، والباحثة في واحد من أكثر جوانب الدراسة العربية صعوبة ووعورة ومدعاة للضيق النفسي، لتشعّب مسائله ومسطرتها القاسية.
وقبل سنتين من كتابة هذه السطور، زرت بغداد زيارة خاطفة وكان من أبرز أهداف الزيارة إضافة إلى رؤية العراق بذاته، والالتقاء بالأهل والأصدقاء، أن ألتقي بالدكتور أحمد وزوجه الدكتورة خديجة. تحقق اللقاء مع الدكتور أحمد مطلوب في المجمع العلمي العراقي، فهو رئيسه، وهناك اتصلت بي الدكتورة خديجة هاتفياً تدعوني لزيارتهم في دارهم في بغداد، غير أن الوقت لم يسمح بذلك. وكم أشعر بالأسف لعدم تلبيتي تلك الدعوة الكريمة، على أمل أن تتاح لي فرصة زيارتهما في أقرب الآجال.
(3)
للباحثة الحديثي عشرة كتب مفردة التأليف، وعشرة أخرى مشتركة، وأما الاشتراك فمع زوجها الدكتور مطلوب. مما يجعلهما ظاهرة فريدة في تاريخ التأليف والتحقيق، الأدبي والنحوي. ومما يلفت النظر أن نصف مؤلفاتها المفردة مخصصة لسيبويه والكتاب المنسوب إليه، نسبة تملك لا نسبة تأليف، على ما أنا مقتنع به.
المؤلفات التي أنجزتها الدكتورة عن هذا الموضوع خمسة تآليف، مما يمكن أن أسميه بالخماسية السيبويهية، وهي:
1 - أبنية الصرف في كتاب سيبويه.
- 2 دراسات في كتاب سيبويه
3 - سيبويه: حياته وكتابه.
- 4 الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه.
5 - كتاب سيبويه وشروحه.
ولها عدد وفير من البحوث والمحاضرات، إضافة إلى مشاركات جمّة في ندوات ومؤتمرات داخل العراق وخارجه. ويمكن متابعة نشاطاتها وسائر مؤلفاتها في مواقع عديدة من الشبكة العنكبوتية (الانترنت).
ولقد تميزت بحوثها بدقة الاستقراء والمتابعة الممنهجة تاريخياً لكل قضية تتابع نشأتها وتطورها. كما اعتمدت المنهج الوصفي حين النظر فيما قرره القدماء، ثم اعتمدت على ذلك وسيلة لبيان رأيها ووجهة نظرها في مسائل النحو المتشعبة. واستطاعت بهذه المنهجية الدقيقة أن تزيل جملة من الأوهام المتعلقة بتطور الدراسات النحوية ومصادرها وأولياتها. ويتجلى ذلك بكل وضوح في متابعتها لمنهج النحاة في الاستشهاد بالحديث النبوي، حيث لفتت أنظار الباحثين إلى أن النحويين الأوائل لم يستشهدوا بالحديث النبوي، وإن استشهد بعضهم به فقد كانوا يرسلونه من غير إشارة إلى كونه حديثاً نبوياً كالذي لاحظته في كتاب سيبويه الذي هو أوسع موسوعة نحوية لغوية بلاغية شاملة.
إن اهتمام السيدة الحديثي بكتاب سيبويه يعطينا فكرة عن الطريق الصعب الذي سارت عليه، إذ إن القدماء أنفسهم كانوا يَعيَون عن تفهمه بدقة، وكانوا يصفون من يروم دراسته بأنه يريد ركوب البحر، لكثرة الأمواج المتلاطمة العاصفة في البحر وفي الكتاب.

(4)
وقبل أسابيع قليلة تلقيت خبر مرضها، وانقطاعها عن التأليف، فكتبت عن ذلك في صفحة التواجه، مما أحدث ردود فعل متعاطفة بشدة، وما زالت تصارع المرض، فلها أطيب الدعاء والأماني والآمال بانتصارها عليه كما انتصرت على التجهيل النحوي في تدريسها وتآليفها، حتى عرفت بمعلمة الأجيال.