هدية يحيى حقّي للفتيات الصغيرات‏!‏

هدية يحيى حقّي للفتيات الصغيرات‏!‏

رجاء النقاش
ناقد راحل
في شهر حزيران سنة ‏1944‏ صدر أول كتاب ليحيي حقي‏،‏ وهو قنديل أم هاشم‏،‏ وقد ظهر هذا الكتاب في سلسلة اقرأ الشهرية المعروفة والتي أصدرتها دار المعارف ابتداءً من شهر يناير/ كانون الثاني سنة ‏1943‏ ومازالت تصدر إلى الآن‏.‏

وكان هذا الكتاب الصغير يضم القصة التي يشير إليها عنوانه‏،‏ وهي قنديل أم هاشم‏،‏ وهي القصة التي أصبحت من أشهر الأعمال الأدبية التي ظهرت في المكتبة العربية في النصف الأول من القرن العشرين‏،‏ وكانت هذه القصة البسيطة الجميلة موضعاً لدراسات كثيرة دارت حولها‏،‏ وقد تعرضنا لها في مقالات سابقة‏،‏ ولكن الكتاب الصغير الذي ضم قصة قنديل أم هاشم قد ضم أيضاً مجموعة من الأناشيد النثرية تحت عنوان"بيني وبينك"وعن هذه الأناشيد قال سيد قطب في كتابه كتب وشخصيات‏..‏ إن هذه الأناشيد هي من أروع ما عرفه الشعر المنثور والمنظوم‏..‏ وفي الحديث الشهير الذي أجراه الناقد الأديب فؤاد دواره ونشره في كتابه عشرة أدباء يتحدثون، قال دواره ليحيى حقي‏:‏ يبدو أن روعة قنديل أم هاشم قد صرفتنا عن الاهتمام بما تضمنه نفس الكتاب من مقطوعات غزلية تحت عنوان"بيني وبينك"مع أن هذه المقطوعات فيها نغمة شاعرية غريبة أكاد أحس معها بروحانية صوفية برغم أن موضوعها مادي وأرضي وقد علّق يحيى حقي على كلام فؤاد دواره فقال ملاحظتك صائبة‏،‏ فقد كنت وأنا أكتبها تحت سيطرة نزعة شديدة للتصوف وإعلاء شأن الروح‏،‏ وقد قرأت في تلك الفترة كثيراً في التصوف العربي والأجنبي‏،‏ وفي هذه الأناشيد دعاء إلى الله غريب جداً في صدقه وحرصه على التسامي‏،‏ وفيها كذلك جانب رمزي يتمثل في أن الكلمات لها إيحاء أبعد مما تدل عليه في الظاهر‏،‏ والمقطوعة الأخيرة من هذه الأناشيد تتحدث عن مسبحة من‏33‏ حبة‏،‏ ويتصادف أن عدد هذه الأناشيد نفسها هو‏33‏ أيضا‏ً!‏
ثم يقول يحيى حقي‏:‏ لقد تمنيت أن أعيد طبع هذه الأناشيد على ورق أنيق مزيّن برسوم صلاح جاهين‏،‏ وأهديها للفتيات الصغيرات‏!‏
هذا ما كان يتمناه يحيى حقي لأناشيده التي جعل عنوانها"بيني وبينك"فما هي قصة هذه الأناشيد التي كان يحيى حقي يريد أن يهديها للفتيات الصغيرات؟‏!‏
إنها قصائد نثرية‏،‏ أو هي مما يسمّيه البعض باسم الشعر المنثور ويسمّيه آخرون باسم قصيدة النثر وقد كتب يحيى حقي نفسه في هامش طبعة سنة ‏1990‏ من قنديل أم هاشم أنه كتب أناشيد بيني وبينك سنة ‏1940،‏ وتم نشرها لأول مرة في الطبعة الأولى سنة‏1944،‏ وهي أقرب للشعر المنثور أو ما أصبح يعرف اليوم بالقصيدة النثرية‏.‏
وقبل أن نتوقف مع بعض النماذج في هذه الأناشيد الجميلة لابد من الاشارة إلى أن يحيى حقي‏،‏ مثله في ذلك مثل نجيب محفوظ‏،‏ كان في أعماقه شاعراً عظيماً صادق الشاعرية‏،‏ صحيح أنه لم يعبّر عن نفسه في أدبه كلّه إلاّ بالنثر‏،‏ ولكن هذا النثر كان على الدوام غارقاً في الشعر‏،‏ ونحن مع يحيى حقي نشعر بأننا نعيش في أجواء شعرية حقيقية‏،‏ حتى لو كانت خالية من الصفات التقليدية الشكلية للقصائد الشعرية‏.‏
وينابيع الشعر عند يحيى حقي كثيرة‏،‏ ومن أهمها على الاطلاق أنه كان حريصاً على أن يعيش وحيداً منذ البداية إلى النهاية‏،‏ ولا أعني بالوحدة هنا أنها انعزال عن الدنيا والناس‏،‏ فيحيى ليس كذلك‏،‏ ولكنني أعني بكلمة الوحدة معنى أقرب مايكون إلى الاستقلال، فيحيى حقي لم يسمح لنفسه أبدا‏ً،‏ ولم تسمح له طبيعته الخاصة به‏،‏ أن يندمج في قوة أكبر منه‏،‏ وأن يصبح جزءاً من هذه القوة أو تابعاً من التابعين لها‏،‏ فلا هو انتمى لحزب سياسي كبير‏،‏ علنياً كان هذا الحزب أم سريا‏ًً،‏ ولا هو ربط نفسه بعقيدة سياسية من العقائد التي شاعت في القرن العشرين‏،‏ وهذا الموقف بالطبع لم يمنعه من أن يعتنق الوطنية والعدالة الاجتماعية والتعاطف مع البسطاء من الناس‏،‏ حتى أصبح في ذلك كلّه من العشاق والمتصوفين‏،‏ كما أن يحيى حقي لم يكن ينتمي لجماعة أدبية حادة الملامح‏،‏ تحارب غيرها من الجماعات‏،‏ وتدعو إلى نظرية تفضلها على غيرها من النظريات‏،‏ ومن ذلك أيضاً أن يحيى حقي كان يرفض ـ أمام دهشة الجميع ـ أن يكون كاتباً في صحيفة كبرى‏،‏ مع أن كل الصحف الكبيرة كانت ترحّب به وتسعى إلى كسبه بين صفوف كتابها‏،‏ إلاّ أنه كان يحرص دائماً على أن ينشر كتاباته في الصحف الصغيرة ذات التوزيع المحدود‏،‏ ولم يكن يحيى حقي يتفلسف كثيراً أو قليلاً في تفسير هذه المواقف من جانبه‏،‏ ولكننا نستطيع نحن الاجتهاد في تفسيرها فنقول إنها كانت نوعاً من حرص يحيى حقي على استقلاله الفكري والروحي‏،‏ وعدم رغبته في أن يكتب كلمة واحدة تحت ضغط من أحد‏،‏ فلابد أن تكون كلماته نابعة من قلبه وروحه وضميره‏،‏ وكان يقول عن نفسه‏:‏ إنني ممن يدخلون معبد الفن من أشد أبوابه ضيقاً وعسراً‏،‏ لهذا كنت من المقلّين أي من أصحاب الانتاج القليل‏،‏ أسمعهم يعيبون هذا عليّ كأنهم يطلبون مني أن أكون من المدلسين يكفيني الصدق‏.‏
والحق أن يحيى حقي كان صادقاً‏،‏ وأن الصدق كان يكفيه كما أراد لكي يبدو للناس معدنه النبيل‏،‏ وهكذا توصل يحيى حقي بوحدته وحبه للاستقلال في قلبه وعقله إلى ينبوع كبير من ينابيع الشعر‏،‏ فالانسان الوحيد في هذه الدنيا‏،‏ إذا كان حساساً وذكياً ومثقفا‏ً،‏ لابد أن يلمس الكثير من أسرار الوجود‏،‏ ولابد أن تكون عدسة الرؤية والملاحظة عنده قادرة على التقاط أصغر التفاصيل‏،‏ ولابد أن تكون الشرايين الشعرية‏،‏ إذا صح التعبير ـ عند هذا الانسان سليمة وقوية‏،‏ بحيث يتدفق فيها ومنها أجمل الشعر وأصدقه‏،‏ وقد كان يحيى حقي وحيداً حتى في أكثر لحظات اختلاطه وامتزاجه بالآخرين‏،‏ وكانت هناك دائماً مسافة محسوبة بينه وبين الناس والأشياء تتيح له أن يرى الأمور ـ في داخل نفسه وخارجها ـ بأحجامها الصحيحة‏،‏ وتتيح له أن يصل إلى أعماق الأشياء ولايكتفي بالوقوف عند السطوح الخارجية‏،‏ وليس هناك من شاعر حقيقي إلاّ وهو وحيد بشكل من الأشكال حتى وهو يعيش بين أقرب الناس إليه‏،‏ فهذا النوع من الشعور بالوحدة هو من أكبر ينابيع الشعر الصادق الجميل‏.‏
ونترك هذا كله‏،‏ فالبحث عن ينابيع الشعر عند يحيى موضوع طويل وجميل ويستحق دراسات عديدة متنوعة‏،‏ ونكتفي الآن بالوقوف أمام بعض أناشيد يحيى حقي التي كان يتمنى أن يهديها للفتيات الصغيرات‏،‏ وهي الأناشيد التي جعل عنوانها بيني وبينك، وسوف نرى أن يحيي حقي في هذه الأناشيد كان شاعراً كامل الأوصاف‏،‏ برغم أنه ترك وراء ظهره كل الصفات الخارجية للشعر‏،‏ فلم يتوقف عند الأوزان والقوافي‏،‏ ولكنه طار في عالم الشعر بجناحين لايعرفان القيود‏.‏
في احد أناشيد يحيي يقول السينما مزدحمة وأنت لاتعبأين بأحد‏.‏ المشهد مؤثر والناس يبكون وأنت ضاحكة‏:‏
ـ أأبكي من خيال؟‏!‏
يا أختاه‏،‏ لابكيت أيضاً من حقيقة ما عشت
ومن يدري‏!‏ لعلك قد انصرفت عني يوم اختفائك عاتبة تقولين‏:‏ أأبكي من خيال؟‏.‏
في أنشودة أخرى يقول يحيى حقي‏:‏ أيتها الفتاة العزيزة‏!‏ كيف لم يقو مكرك على ستر سذاجتك الكامنة في نظرتك؟ أأنت ساذجة قد تعلمت المكر‏،‏ أم ماكرة قد تعلمت السذاجة؟ أكذبي ماشئت وامكري‏،‏ فليس أحب إلى قلبي من سذاجتك ومكرك‏.‏
وفي أنشودة ثالثة يقول يحيى حقي‏:‏ ما أظنك أحببت يوماً أحداً أو شيئاً حبك الثوب الجديد‏،‏ هو حب صادر من قلبك‏،‏ عائد إليه فأنت به قريرة العين سعيدة‏،‏ ناجية من سيطرة الغير‏.‏
على لساني دعاني‏:‏
ألا فاليّ ذلك الحب يوماً‏..‏
ولكن قلبي يهمس‏:‏
خيب الله مناك
وهذا نموذج آخر وأخير من أناشيد يحيى حقي البديعة وفيه يقول‏:‏
كم من مرة قطعت فيها هذا الطريق معك‏،‏ ذراعك في ذراعي‏،‏ فما شعرت أطويل طريقنا أم قصير؟ أفي يومنا المسير أم في غدٍ لم يأت بعد؟ أم هو في ماضٍ من العمر قد ولّى وفات‏،‏ كان الطريق هو الذي يقبل إليّ يأخذ بيدي‏،‏ ويريني اتصاله بالأفق‏،‏ بالسماء‏،‏ بالأفلاك‏..‏ على جانبيه دور هادئة المأوى كصدور الحاضنات‏،‏ ويمر بنا أناس كل منهم شعاع من نور الله‏،‏ أما الآن‏،‏ بعد اختفائك‏،‏ فهذا الطريق بعينه أقطعه وحدي فلا ينتهي‏،‏ المسير سخرة‏،‏ والأفق قيد‏،‏ والسماء غطاء‏،‏ والنجوم ترمق الأرض شزرا‏ً.‏ الدور سجون‏،‏ والناس أطياف ذاهلة لاتدري ما القدر‏،‏ وإن شكت كفرت‏!‏
ألست معي في أن هذا الكلام هو من أجمل كلام الشعراء‏،‏ وأن يحيى حقي كان على حق عندما كان يريد أن يهديه إلى الفتيات الصغيرات‏،‏ بشرط أن تكون هذه الفتيات قادرات على تذوق اللغة العربية الجميلة؟

جريدة الاهرام المصرية 2005

ذات صلة