خطاب الحكاية عند جيرار جينيت

خطاب الحكاية عند جيرار جينيت

زياد أبولبن *
كما يدرس جينيت مستوى الخطاب، وينطلق من خلال اقتراح تزفيتان تودوروف، الذي قسّم الحكاية إلى ثلاث مقولات، هي: مقولة الزمن"التي يُعبّر فيها عن العلاقة بين زمن القصة وزمن الخطاب"، ومقولة الجهة"أو الكيفية التي يدرك بها السارد القصة"، ومقولة الصيغة، أي"نمط الخطاب الذي يستعمله السارد"، ويتبنّى جينيت المقولة الأولى"الزمن"التي كان تودوروف يوضّحها بملاحظات عن الـ"تشويهات الزمنية"(أي عدم الإخلاص للترتيب الزمني للأحداث)

وعن علاقات التسلسل أو التناوب أو"التضمين"بين مختلف خطوط العمل المشكًّلة للقصة، وكان تودوروف يضيف إليها اعتباراً عن"زمن النطق"، وزمن الـ"إدراك"السرديين (اللذين يماثلهما مع زمن الكتابة، وزمن القراءة)، في حين أن مقولة الجهة تطلق أساساً على قضايا"وجهة النظر"السردية: بينما كانت مقولة الصيغة تضمّ مسائل"المسافة"التي يتناولها النقد الأمريكي ذو التقاليد الجيمسيّة عموماً بلغة التعارض بين"التمثيل"بلغة تودوروف (السرد) وهو انبعاث لمقولة جينيت"الحكاية"(أي تقليد مطلق)، و"القصة"(أي حكاية خالصة).
يقف جينيت على مفهوم الحكاية، باعتبارها المنطوق السردي، أي الخطاب الشفوي أو المكتوب، الذي يضطلع برواية حدث أو سلسلة من الأحداث، وفي معنى ثانْ أنّ الحكاية كلمة تدل على سلسة الأحداث، وفي معنى ثانْ إن الحكاية تدلّ على سلسلة الأحداث الحقيقية أو التخييلية، ويصل جينيت إلى معنى تحليل الحكاية، باعتبارها دراسة مجموعة من الأعمال أو الأوضاع المتناولة في حدّ ذاتها، وفي معنى ثالث تدلّ كلمة الحكاية على حدث أيضاً، غير أنه ليس البتة الحدث الذي يُروى، بل هو الحدث الذي يقوم على أن شخصاً ما يروي شيئاً ما: إنّه فعل السرد متناولاً في حدّ ذاته.
ويرى جينيت أنّ"الحكاية مقطوعة زمنية مرتين، فهناك زمن الشيء المروي، وزمن الحكاية (زمن المدلول وزمن الدال)، وهذه الثنائية لا تجعل الالتواءات الزمنية كلّها -التي من المتذَل بيانُها في الحكايات- ممكنة فحسب (ثلاث سنوات من حياة البطل ملخّصه في جملتين من الرواية، أو في بضع لقطات من صور مركّبة سينمائية"تواترية"، إلخ)، بل الأهم أنها تدعونا إلى ملاحظة أن إحدى وظائف الحكاية هي إدغام زمن في زمن آخر. ومن هذا الفهم يستدّل جينيت على أن زمنية الحكاية المكتوبة شرطية أو أداتية نوعاً ما، وما دامت الحكاية المكتوبة حادثة -ككل شيء أخر- في الزمن، فإنها توجد في الفضاء، وبصفتها فضاءً، ويكون الزمن اللازم لـ"استهلاكها"، هو الزمن اللازم لعبورها أو اجتيازها، كما تُعتبر طريقاً أو يُجتاز حقل، إنّ النص السردي، ككل نص آخر، ليست له من زمنية أخرى غير تلك التي يستعيرها كنائياً من قراءته الخاصة، ولهذا نجد أن زمن الحكاية، هذا الزمن الزائف الذي يقوم مقام زمن حقيقي بصفة زمن كاذب، فمن هذا الباب يدرس جينيت العلاقة بين زمن القصة، وزمن الحاية (الكاذب) طبقاً لما يبدو له تحديدات أساسية ثلاثة، هي: الصّلات بين الترتيب الزمني لتتابع الأحداث في القصة، والترتيب الزمني الكاذب لتنظيمها في الحكاية، وهي الصّلات موضوع الفصل الأول من الكتاب، صلات بين المدة المتغيّرة لهذه الأحداث أو المقاطع القصصية، زالمدة الكاذبة (في الواقع، طول النص) لروايتها في الحكاية، ويعنى صًلات السّرعة، وهي موضوع الفصل الثاني من الكتاب، ثم الفصل الثالث صًلات التواتر، أي العلاقات بين قدرات تكرار القصة، وقدرات تكرار الحكاية. ويرى جينيت في"زمن النطق"من الضروري تفكيك هذه السلسلة الأخيرة من المسائل، بوصفها تطرح فعل السرد ومحرًّكيه للنقاش، ويصل جنيت إلى مفهوم الزمن والصيغة، وكلاهما على مستوى العلاقة بين السرد والحكاية، وبين السرد والقصة.
أقام جينيت فصلاً تطبيقياً على رواية"البحث عن الزمن الضائع"من حيث المفارقة الزمنية، التي تذهب في الماضي أو في المستقبل (الاسترجاعات والاستباقات) بعيداً كثيراً أو قليلاً عن اللحظة الحاضرة (أي عن لحظة القصة التي تتوقف فيها الحكاية لتخلي المكان للمفارقة الزمنية). ويسمّي جينيت المسافة الزمنية مدى المفارقة الزمنية. ويمكن المفارًقة الزمنية نفسها أن تشمل أيضاً مدة قصصية طويلة كثيراً أو قليلاً -وهذا ما نسميه سعتها. وهكذا فعندما يذكر هوميروس، في النشيد من ملحمة"الأوديسة"، الظروف التي كان قد أصيب فيها عوليس، وهـــــو بعدُ فتىْ، بالجرح الذي لا يزال يحمل أثره في اللحظة التي تستعد فيها أوريكليا لغســـــــل قدميه، فإنه يكون الاسترجاع (الذي يشغل الأبيات 394 -466) مدىْ من عدة عقود وسعة من بضعة أيام. ويبدو أن وضع المغارقات الزمنية، المحدد هكذا، ليس إلا مسألة كثرة أو قلة، قضيةَ قياس خاص بكل مناسبة على حدة، عمل مؤقّت لا أهمية نظرية له. غير أنه من الممكن توزيع مميّزات المدى والسعة -بكيفية عارضة- بالقياس إلى بعض اللحظات الملائمة من الحكاية.
يرى جينيت إنّ كل استرجاع، بالقياس إلى الحكاية التي يندرج فيها -التي ينضاف إليها- حكاية ثانية زمنياً، تابعة للأولى في ذلك النوع من التركيب السردي الذي صادفناه منذ التحليل، الذي جربناه، لمقتطف قصير جداً من كتاب"جان سانتوي". ونطلق، من الآن، تسمية"الحكاية الأولى، على المستوى الزمني للحكاية الذي بالقياس إليه تتحدّد مفارًقة زمنية بصفتها كذلك. وبالطبع، يمكن الاندماجات أن تكون أشد تعقيداً: وبذلك يُمكن مفرًقة زمنية ما أن تظهر بمظهر حكاية أولى بالقياس إلى مفارًقة زمنية أخرى تحملها: وفي الأعم، يمكن اعتبار مجموع السياق حكاية أولى بالقياس إلى مفارًقة زمنية ما. ويرى إنّ حكاية جرح عوليس تتناول حادثة أسبق طبعاً من المنطلق الزمني للـ"حكاية الأولى"في ملحمة"الأوديسة"، مع أننا -طبقاً لهذا المبدأ- نشمل في هذا المفهوم (مفهوم"الحكاية الأولى"الحكاية الاستعادية لعوليس عند الفاسيين، التي ترقى حتى سقوط طروادة).
ومن ثم يمكننا أن ننعت بالخارجي ذلك الاسترجاع الذي تظل سعتُه كلها خارج سعة الحكاية الأولى. سنقول ذلك -مثلاً- عن الفصل الثاني من رواية"سيزار بيروتو"الذي تسبق قصته، كما يبيّن العنوان بوضوح"أسلاف سيزار بيروتو"، المأساة التي يستلها المشهد الليلي من الفصل الأول. وبالعكس، سننعت بالاسترجاع الداخلي الفصل السادس من رواية"مدام بوفاري"، المخصص لسنوات ترهُّب إيمَّا، اللاحقة طبعاً لولوج شارل الثانوية، الذي هو منطلق الرواية. واضح أن الاستشراف، أو الاستباق الزمني، أقل توتراً من المحسًّن النقيض، وذلك في التقاليد السردّي الغربية على الأقل: هذا مع أن الملاحمَ الثلاث الكبرى القديمة، وهي"الإلياذة"و"الأوديسة"و"الإنياذة"، تبتدئ كلها بنوع من المُجمل الاستشرافي الذي يؤيّد إلى حدّ ما القاعدة التي يطبّقها تزفيتان تودوروف على السرد الهوميريّ، ألا وهي:"حبكة القدَر". إنّ الاهتمام بالتشويق السردي الخاص بتصور الرواية"الكلاسي"بمعناه العام، والذي يوجد مركز ثقله في القرن التاسع عشر أساساً لا ينسجم كثيراً مع مثل هذه الممارسة، كما لا ينسجم من جهة أخرى مع المتخيَّل التقليدي لسار عليه أن يبدو أنه يكتشف كثيراً أو قليلاً القصة في الوقت نفسه الذي يحكيها فيه. لذلك سنجد استباقات قليلة جداً عند بلزاك أو تولستوي. والحكاية"بضمير المتكلم"أحسن ملاءمة للاستشراف من أيّ حكاية أخرى، وذلك بسبب طابعها الاستعادي المصرح به بالذات، والذي يرخّص للسارد في تلميحات إلى المستقبل، ولا سيّما إلى وضعه الراهن، لأن هذه التلميحات تشكّل جزءاً من دوره نوعاً ما.
إنّ رواية"البحث عن الزمن الضائع"تستعمل الاستباق استعمالاً ربما لا مثيل له في مجموعة تاريخ الحكاية، بما في ذلك الحكاية ذات الشكل السيري الذاتي، وإنها بالتالي ميدان مفضّل لدراسة هذا النمط من المفارقات الزمنية السردية. هنا أيضاً، سنميّز من غير مشقّة بين استباقات داخلية وأخرى خارجية. فحدود الحقل الزمني للحكاية الأولى يُعيًّنُها بوضوح المشهد الأخير غير الاستباقي، أي في رواية"البحث عن الزمن الضائع". إنّ المدة هي التي يُحسّ في شأنها بهذه الصعوبات أيما إحساس، لأن وقائع الترتيب، أو التوتر، يسهل نقلها دونما ضرر من الصعيد الزمني للقصة إلى الصعيد المكاني للنص. وهذا يستوقفنا الإيقاع -كما يرى جينيت- ثم الحذف، ولذلك يتبيّن جينيت أن الحكاية البروستية -مثلاً- لا تدع أي حركة من الحركات السردية التقليدية سليمة، وأن مجموع النسق الإيقاعي للسرد الروائي يبدو عميق التأثر بذلك. لكن يبقى لنا أن نعرف تعديلاً أخيراً، لا شك في أنه الأكثر حسماً، سيمنح انبثاقُه وتعميمه للزمنية السردية الخاصة برواية"البحث عن الزمن الضائع"نغمة جديدة تماماً - إيقاعاً لم يُسمع قط.
لم يدرس نقاد الرواية ومنظّروها - ما أسماه جينيت كما يقول - تواتراً سردياً، أي علاقات التواتر (أو بعبارة أكثر بساطة علاقات التكرار) بين الحكاية والقصة، لم يدرسوه إلا قليلاً. ومع ذلك، فهو مظهر من المظاهر الأساسية للزمنية السردية، وهو- من ناحية أخرى- أمر مشهور لدى النحاة، على مستوى اللغة الشائعة، تحت مقولة الجهة بالضبط. يأتي هذا التواتر أو التكرار لدى جينيت من خلال التحديد والتخصيص والاستغراق، باعتبار كل حكاية ترددية فهي سرد تركيبي للأحداث التي وقعت ووقعت مرة أخرى في مجرى سلسلة ترددية مكوّنة من عدد معين من الوحدات المفردة. ويمكن الاشارة إلى الحدود التزامنية لسلسلة ما أن تظل ضمنية، خصوصاً عندما نكون بصدد اجترار يمكن اعتباره في التطبيق غير محدود: فإذا قلت"تشرق الشمس كل صباح"، فلن تكون الرغبة في تعيين بداية الشرق ونهايته إلا رغبة مضحكة. فالأحداث التي يهتم بها السرد الروائي النمط أقل استقراراً طبعاً، ولذلك تُحدَّد فيه تلك السلسلات عموماً بالإشارة إلى بدايتها ونهايتها. لكن هذا التحديد يمكنه جيداً أن يظل غير محدَّد، كما هو الشأن عندما يكتب بروست. والتخصيص يمكنه هو أيضاً أن يكون غير محدَّد، أي مشاراً إليه بظرف زمان من نمط: أحياناً، بعض الأيام، غالباً، إلخ. ويمكنه على العكس من ذلك أن يكون محدَّداً، إما بكيفية مطلقة (وهذا هو التواتر بمعناه الحصري: كل الأيام، كل أيام الأحد، إلخ) وإما بكيفية أكثر نسبية وأقل اطراداً، ولو أنه يعبّر عن قانون تزامُن دقيق جداً. والاستغراق يمكن وحدةً تردّديّة أن تكون ذات مدة ضعيفة ضُعفاً يجعلها لا تتعرّض لأيّ تمطيط سردي. وهناك التزامن الداخلي والتزامن الخارجي، ويتحدّث جينت عن صيغ الحكاية، فهناك حكاية الأحداث، وحكاية الأقوال، ثم يصل للحديث عن المنظور السردي في الرواية، والتبئيرات وينتقل للحديث عن الصوت من خلال المقام السردي، وزمن السرد، والمستويات السردية، والبطل ـ السارد، ووظائف السرد، والمسرود له.
إنّ ما توصل إليه جيرار جينيت في هذا الكتاب ينطوي على خصوصية السرد البروستي، منظوراً إليه في مجموعه غير قابلة للاختزال، حيث ينطلق من الخاص إلى العام، هو في صميم الخاص، فقد بحث جينيت عن الخصوصي كي يصل إلى الكوني. واللافت للنظر أن الكتاب وقع في خمسمائة صفحة من القطع الكبير، فجاء التطبيق على طروحاته في ثلاثمائة إلا قليلاً، وباقي الصفحات ملاحق، منها ثبت بالمصطلحات، وثبت الأعلام، وثبت الأعمال الأدبية والفنية والنقدية، وثبت الشخصيات. كلّ هذه الصفحات تثقل على القارئ بتتبع ما ورد في متن الكتاب، لكن تبقى فائدة الكتاب جمّة، وهو مرجع لا غنى للباحثين والدارسين عنه.
* ناقد وقاص أردني

عن جريدة الغد الاردنية