جيمس جويس والتجريب

جيمس جويس والتجريب

عبد الجبار داود البصري
ولد جيمس جويس في شباط من عام 1882 في مدينة دبلن الايرلندية، ترافق تصويره الصريح والدقيق بالالفاظ والكلمات لطبيعة البشر مع براعته اللغوية التي جعلته واحداً من أبرز الروائيين المؤثرين في القرن العشرين. اشتهر جويس باستخدامه التجريبي للغة واكتشافه للمناهج الادبية الجديدة،

واستخدامه للاسلوب الادبي "تيار الوعي" الذي كشف عن مسار الانطباعات، وانصاف الافكار، وتداعيات المعاني، والشكوك، والدوافع، اضافة الى الافكار العقلانية لدى شخصياته. ترجمة فضيلة يزل: ان نقاط القوة في عمله الرئيس البارز يوليسس" 1922 يقع في عمق الشخصية التي رسمها باستخدام اسلوبه الخاص. وكان عمله الرئيس الآخر"الدبلنيون Dubliners" او مواطنو دبلن مجموعة متكونة من قصص قصيرة تصور مسقط رأسه "مدينة دبلن" ورواية اخرى عبارة عن شبه سيرة ذاتية اسماها "بورتريت لفنان شاب -1916" ومن ثم " يقظة فينغانس- 1939" ورواية تجريبية ظهرت اول مرة بشكل اجزاء في عام 1928 واستمرت الى 1937 .
واجه جويس مشاكل صحية ومالية مروعة بينما كان يعمل في كتابة يوليسس وقد تحمل ألم 25 عملية جراحية اجريت له جراء اصابته بمرض في العين. وعلى الرغم من هذه الصعاب استمر جويس في الكتابة وقد ساعدته منحة قدمتها له ايدث روكفيلر ماككورمك، وسلسلة من المنح المالية من هاريت شاو ويفر، وكان هذا الدعم نابعاً من اعجاب هاتين المؤسستين بأعماله وتعاطفهما معه.ومن مؤلفات جويس:مواطنو دبلن، وبورتريت لفنان شاب، ويوليسس، ويقظة فينغانس.لقد قال جيمس جويس لأحد اصدقائه مرة: ان احد الاشياء التي لم اعتد عليها ابداً في شبابي كان الاختلاف الذي وجدته بين الحياة والادب. وقد ادرك جميع القراء الشباب الجادين هذا الاختلاف. اوقف جويس عمله على محو هذه الفكرة من خلال عملية تثوير العمل الادبي في القرن العشرين. الحياة التي كان جويس يعبر عنها في ادبه كانت بشكل رئيس حياته الخاصة، كان جيمس اوغسطين يولبوس الابن البكر من بين عشرة اطفال رزق بهما جون وماري جين جويس. كان والده رجلاً سريع الغضب، شديد المراس، وكان سكيراً مسرفاً بشكل مدمر، اما والدته فكانت امرأة ورعة من الكاثوليك الرومان، كانت ترى زوجها وعائلتها ينحدران الى الفقر، الا انها كانت ترجو لهما السعادة في المستقبل. جاء التعليم االعام لجويس على يد احد اليسوعيين، الذي بذل جهداً كبيراً معه، ليتخرج جويس في كلية دبلن الجامعة في 1902، عندها قرر بشكل جازم بأنه تعلم ما فيه الكفاية وحان الوقت ليبدي رفضه للمناهج الدينية السابقة والتزاماته لعائلته ووطنه والبريطانيين الذين يحكمون فيه، كان الادب شغله الشاغل ورهانه للوصول الى الخلود، غادر ايرلندا فارضاً على نفسه نفياً طوعياً في اواخر 1904 وفي بدايات هذا العام كان قد التقى بنورا بارناسل Nora Barnacel شابة من غيلوي حيث كانت تعمل في فندق دبلن والتي رافقته في رحلته هذه، عندما سمعت والدته بأن ابنها سافر مع بارناسل، صرحت معتمدة على اسم عائلتها بأنها لن تسمح له بذلك ولن تتركه ابداً، وهي لا تصدق الاشاعات بشأنه. غادر جويس دبلن مع كل ما ادخره وكتبه من قصص وروايات كان يخزنها في ذاكرته، وما كان عليه سوى تحويل هذه الذخيرة الى فن يليق بآماله وتطلعاته. عندما كان جويس ينتقل مع نورا وطفليهما بين وحول المدن الاوروبية ومنها: بولا، تريست، زيورخ، روما، وباريس استطاع ان يحصل على وظائف عدة بين التعليم والتوظيف الحكومي مكنته من توفير الدعم المادي لعائلته والكتابة، فجاء الاصدار اول لكتابه الروائي الدبلنيون Dubliners او مواطنو دبلن- 1914 اذ تضمن خمس عشرة قصة قصيرة ذات حكايا وحبكات تلقليدية لكنها متماشية مع استحضار البيئة واللغة الدبلنية، بعدها بورتريت لفنان شاب- 1916 الرواية التي قدمت موضوعاً متميزاً ومقالاً معقداً لغوياً عن ستيفن ديدالواس، وهي شبه سيرة ذاتية بينت بأن جويس منذ ولد وحتى قرر مغادرة دبلن كان منشغلاً في صناعة فنه. رواية "بورتريت" التي ترجمت الى العربية بعنوان "صورة الفنان في شبابه" لم تحقق مبيعاً جيداً ليخفف من عبء الهموم المالية المزمنة لجويس، لكن اعماله اللاحقة جذبت انتباه عدد من رواد الفن المؤثرين، فمعظمهم اخذ بعين الاعتبار دعوة الشاعر الاميركي عيزرا باوند، وايمانه بأن القرن الجديد يتطلب فناً وشعراً ورواية وموسيقى جديدة ويتطلب التجديد في كل شيء، وقد اجتمع مثل هؤلاء المؤيدين على الاهتمام بجويس وكتاباته الاولى والفريدة من نوعها ولم يخب املهم في ذلك.بدأ بكتابة يوليسس 1914 ، وقد ظهرت اجزاؤه بالتتابع في مجلة غويست في انكلترا ولتل ريفيو في الولايات المتحدة حتى صادرت دائرة البريد ثلاثة اعداد من هذه المجلات تضمنت مقتطفات من اعمال جويس على اساس انها اباحية وغرمت المحررين 100 دولار. وعزز عمل رقابة المطبوعات هذا حب الاستطلاع لدى الناس لمعرفة العمل القادم لجويس حتى قبل ان يصدر كتاب يوليسس، اذا كان النقاد يقارنون الافكار المتطلعة لجويس بأفكار انشتين وفرويد.ماذا تبقى من اساليب الكتابة عند التخلي عن العديد من المناهج التقليدية في السرد؟ ربما يكون الوصف الواضح والموجز جداً لاسلوب جويس متأتياً من نقد ادموند ولسون اذ قال"لقد حاول جويس في يوليسس ان يوضح بشكل مستفيض ودقيق ومباشر وبكلمات بسيطة، ماهية مشاركتنا في الحياة، فهي تشبه او بالاحرى تبدو لنا بأنها تشبه، انا نحيا هذه الحياة او نعيشها من لحظة لأخرى. ان قراءة اولية ليوليسس يمكن ان تكون محاولة محبطة، على الرغم من انه الكتاب الوحيد الذي حصل على الصبر والمثابرة بسخاء، فاعادة تقديم شخصية ستيفن ديدالواس، الذي مازال يعيش في دبلن، حالماً بالابتعاد عنها، بعدها نصادف شخصية ليوبولد بلوم، او بالاحرى نصادف افكاره وهو يجهز الفطور لزوجته مولي "نعرف افكارها وهي في طريقها الى النوم في نهاية الكتاب". يوليسس كمقال نشر يوماً ما في مجلة دبلن 1904، مقالة قدمها جويس لنورا كهدية خاصة تعبر عن اعجابه بها منذ لقائهما الاول، وفي الكتاب يتتبع ليس تحركات ستيفن وبلوم فقط بل ايضاً المئات من سكان دبلن، وهم يسيرون في الشوارع، يلتقون ببعضهم، يتعارفون ويتحدثون في المطاعم والحانات، كل هذه التحركات والنشاطات تبدو عشوائية، فهي سجل يومي لأحداث المدينة، لكن في الحقيقة لا يوجد هناك شيء عشوائي في احداث يوليسس اذ نجد تحت السطح واقعية الرواية، انها وصف لمجريات الحياة، تواري خلفها خطة او حبكة معقدة ومتشابكة. لقد ناقش اصدقاء جويس المطلعون على اسرار يوليسس الرواية وابدوا رأيهم فيها فطلبوا منه ان يجعل الاحداث تبدو ايسر للقارئ، لكنه اصر في البداية على ان تبقى كذلك فقال: لقد وضعت فيها الكثير من الالغاز والاحاجي وذلك لتشغل تفكير الاساتذة لقرون بمناقشة ما كانت تقصده او تعنيه، وان تلك فقط هي الطريقة التي تؤمن لها الخلود. اخيراً، اقتنع جويس، وذلك ليعرف بأن يوليسس كانت من بين الاشياء العديدة الاخرى، التي تعيد اوديسا هوميروس بطريقة السرد او الاخبار الحديثة من خلال شخصية بلوم Bloom كونه بطلاً متجولاً وستيفن كونه تليماج ومولي كونها penelope وهي بشكل جازم اقل صدقاً من الاصل، ان . تي. اس. اليوت الذي وضع اسس الرواية الجديدة كتب يقول "ان استخدام جويس للاسطورة الكلاسيكية في تنظيم التجربة الحديثة كان لها الاثر الكبير في الاكتشاف العلمي". ان رواية يوليسس صنعت شهرة جويس، مع انها لا تتفق دائماً مع الاسلوب الذي يرغب به، عندما اقترب احد المعجبين منه وقال له"هل اقبل اليد التي كتبت يوليسس؟" قال جويس:" لا انها ارتكبت اشياء اخرى كثيرة ايضاً" لكن ما هو مهم جداً هو ان يوليسس اصبحت كتاباً مرجعياً لأدب القرن العشرين، ووسعت مجال المواضيع المباحة في الرواية، متتبعة لتحركات بلوم ليس في نزواته الغرامية السرية فقط بل وفضح اسراره ايضاً. ان اصواتها الروائية المتعددة واللعب على الالفاظ المبالغ بها جعل يوليسس معجماً حقيقياً في اساليب الكتابة لكثير من الكتاب الذين يغالبون مشكلة تفسير الحياة المعاصرة، ان جوانب مأثرة جويس في يوليسس يمكن ان تلاحظ في اعمال وليم فوكنز، البرت كاموس، صاموئيل بكت، صول بيلو، غابرييل غارسيا ماركزي وتوني موريسون. لكن المؤلف الوحيد الذي حاول تخطي المدى الموسوعي ليوليسس هو جويس نفسه، فقد قضى 17 سنة في العمل في"يقظة فينغانس Finnegans Wake " الكتاب كان يهدف الى رسم صورة لحياة الخمول والرقود في دبلن، بينما كشفت رواية يوليسس مدينة اليقظة الكبيرة بشكل تام، لقد بين جويس بأن هذه المهمة تتطلب ابداع لغة جديدة تحاكي تجربة الحلم، اذ جاءت مقتطفات من العمل الجديد، مفعمة بالتوريات اللغوية الكثيرة والاسهاب الذي يشبه الثرثرة التي بدأت تظهر بشكل دقيق على لسان ابطال وشخصيات جويس الذين يعبرون عن شكوكهم. وقد أدرك الكثير من القراء هذا الغموض، وكان باوند واحداً ممن لاحظوا ذلك فرد جويس قائلاً"ان الحدث في عملي الجديد يحدث في الليل ومجرياته الطبيعية ينبغي ألا تكون واضحة جداً في الليل، ألا تجري الامور على هذا النحو الآن؟"كانت اعمال جويس تعمد في ذلك الوقت الى استحضار اليقظة بشكل منتظم، وقد يدرك قراؤه ذلك بعد قرن من الآن.

هذا المقال للكاتب الراحل نشر في كتاب مطالعات في الكتب نشر في 1978