لماذا وضعت خاتمة مبكرة للحياة وتركت روايتك الأخيرة بلا نهاية ؟

لماذا وضعت خاتمة مبكرة للحياة وتركت روايتك الأخيرة بلا نهاية ؟

كاظم الواسطي
كان اللقاء الأول من فصول صداقتنا الحميمة في مكتبة "مؤيد سامي" ببعقوبة في ربيع العام 1998. وقد ترك مؤيد، الراحلُ غدراً، الكثيرَ من ظلال قلبه الطيبة في روح صداقتنا، وكان طيفهُ دائمَ الحضور معنا في لقاءاتنا المتواصلة منذ اغتياله المروّع في العام 2004. مثلما ترك تأثيره المميز في ثقافة أبناء تلك المدينة يومذاك، حيث كان يتابع حركة الكتب المتداولة، سرّاً، في شارع المتنبي،

ويأتي بالبعض منها ويقوم باستنساخه في جهازه القديم بعد أن يغلق باب المكتبة عليه بعيداً عن عيون الوشاة والمخبرين المنتشرة في زوايا المدينة.

وكنا ثلّةً من المهتمين بالقراءة والكتابة نتردّد على تلك المكتبة القابعة في زاوية السوق الشعبي بمركز بعقوبة، ليشتري القليلُ منّا بعضَ النسّخ وكثرٌ يستعيرونها و يُعيدونها إلى المكتبة لتستمر عملية تداولها، وانتشارها على مساحة أوسع من القرّاء. وخلال أيام قصيرة بعد ذلك اللقاء، توطدّت علاقتي بالراحل، على غفلةٍ منا ومن حكاياته الجميلة، سعد محمد رحيم، ومما ساعد على ذلك، مغادرتُنا المكتبة معاً، حيث كنّا نسكن في حيّين متجاورين ونصعد في ذات الباص بعد مغادرة المكتبة. وفي أحيانٍ كثيرة كنا نقوم، قبل الذهاب إلى البيت، بالتسّكع على نهر خريسان أو نجلس في"مقهى الزهاوي"أو نقصد استديو"الأمل"حيث كان يعمل صديقنا المسرحي صباح الأنباري، أو نتوقف في محل تصليح الكهربائيات لصديقنا القاص حسين اليعقوبي. وكانت لنا لقاءات متفرّقة مع الأصدقاء محيي الدين زنكنه، وابراهيم البهرزي، وابراهيم الخيّاط، وصلاح زنكنه، وآخرين من الأصدقاء، أعتذرعن عدم ذكر أسمائهم حيث القصد الأول لهذا الكلام هو : إحياء معاني الصداقة ويومياتِها مع سعد محمد رحيم كإنسان ظل قريباً من روحي التي فُجعت برحيله المفاجئ، وتهشّم في موضعٍ منها ما لايُمكن ترميمه بسهولة. واترك للأصدقاء المهتمين بالنقد والمشتغلين في عولم السرد إحياءَ عوالم منجزه الكتابي.
هل تعرف يا صديقي، الذي لم يُغادرني في هذا الرحيل الذي لا تُصدّقه روحي، بأن الكاتب محيي الدين زنكنه الذي كانت تربطني به علاقةٌ متينة قبل معرفتي بك، كان يسألني دائما حين أزوره في بيته، وهو الذي لا يدلّل أحداً"ها كاظم شلونه سعودي؟". كان ذلك التشيخوفي المهتم بنوازع البشر ومُرَكّب شخصياتهم في رواياته ومسرحياته، يعرف براءةَ الطفل الكامن في أعماقك، ونقاوة روحك التي وَسَمت يومياتِك مع الآخرين بصفحاتٍ بيضاءَ من التهذيب، ودماثةِ الخلق، والحياء النادر في زمنٍ شحّ فيه الحياء.
وهل تعرف بأن صديقنا مؤيد سامي المعروف بعمق ورصانة ثقافته، وهو الخجول جداً، ولكن من كان لا يُجامل حينما يتعلق الأمرُ بموقف أو رأي، قال لي مرة قبل أن تغدر به رصاصاتُ القتلة"سعد مشروع ثقافي جيد، وسيكتب روايات مهة بعد غسق الكراكي". وشخّص ذلك، من اندفاعاتك المحمومة لقراءة كتب الفكر الجديدة، وولعِك بعوالم الرواية الكلاسيكية والحديثة، وكيف كنتَ تروي لنا بشغفٍ حكايات طفولتك ومراهقتك في مدينتك الصغيرة، السعدية، تلك المدينة الغافية على ضفة البحيرة، والمستيقظة في أعوام طفولتك على صوت القطارات القديمة. وكم حدثتنا عن حبك للقطار، ومحطاته، وسكك الحديد. وكتبت ذلك قصصاً قصيرة مفعمة بالوجد، والحب المؤجل، والخيال المحلّق بأجنحة القصّ الجميل.
من يوميات صداقتنا المتنقّلة بين بعقوبة وبغداد وأربيل وبيروت، تأكدتُ من أنك لم تخرج من ثنائية"سعودي"الوديع بعين الراحل، إهمالاً من ذوي السلطة والجاه، محيي الدين زنكنه، وسعد محمد رحيم كمشروع ثقافي أراد أن يخرج من"أنطقة المحرّم"بالبحث عن"استعادة ماركس". وكتب"غسق الكراكي"وعيناه تنظران من بعيد إلى"مقتل بائع الكتب"كما كانت الصورة في ذهن، قتيل الزمن الأغبر، راجح العقل وصافي الضمير صديقنا مؤيد سامي.
كنتّ لا ترّد طلباً لحوارٍ صحفي في موقعٍ الكتروني أو صحيفة ورقية، ولا تتأخر عن موعد لقاءٍ في تلفاز، بالرغم من وهن قلبك بعد جراحتة الكبرى، وترميم شرايينه المعطوبة. وحين كنتُ ألحّ عليك بأن تهتم بوضعك الصحي من بعض هذه المشاوير المتعبة، أكتشفُ من صمتك وحيرتك بأن"سعّودي"الطيب القلب والمهذّب الروح يستحّوذ عليك، ويمنعك من الدفاع عن سلامة قلبك.
وحيث لم تتوقف مثابرتك أو حتى تبطئ في قراءة الروايات التي اقتنيتّ الكثير منها بعد جراحة القلب، وحدثتني قبل أيام من سفرتك الأخيرة إلى السليمانية عن رواية جديدة تكتب في فصولها الأخيرة، وقلتَ لي بأنك تعوّل عليها كثيراً. كان شغفك المتنامي هذا، لا يتيح لك فرصةً تلتقط بها أنفاسَك المتعبة.
الم يكن بطلُ روايتك"ترنيمة امرأة.. شفق البحر"مثالاً قريباً منك وهو يحاول إكمال روايته على الساحل الشمالي للبحر المتوسط حيث يرد على لسان السارد"أكان بالمقدور أن نستمر أو أن نكون، أن نحيا ونرحل ونأمل ونحلم من غير أن نحكي، ثم مالمعنى إن لم تكن لدينا حكايات". ولكي تُبقي لهذا المعنى حيزاً في داخلك، كنتَ تحثُ الروح وتستقطر القلبَ الواهن لتكون لك حكاياتٌ حلمتَ بها كثيراً، وعشت من أجلها.
لقد كانت الرواية في تفكيرك معادلاً للحياة أو هي الحياة التي كنت تريد الهروب إليها بعيداُ من مرارات الواقع، وكوابيس نفوسنا المتراكمة. وأنت من كتب بهذا المعنى"أن تحضر الرواية، وأن أتوارى أنا". وهكذا رحلت بعينين مفتوحتين على رواية جديدة لم تكتمل فصولها، مثلما رحل ضحيةُ الإستبداد ومؤسساته القمعية"حكو"في روايتك"فسحة للجنون"، حيث أبقى قصة حبه ناقصةً على حافة الساقية التي توارى في مياهها، ومثلما فعلتَ أنت حيث وضعت لوحدك خاتمةً لصداقتنا التي كتبنا وعشنا فصول يومياتها بأحاسيس وأفكار مشتركة.
ولكن يبقى ما تركته يا صديقي من صفحاتٍ مضيئة، ونقاوة قلبٍ قلّ نظيرها، يُشغل الأجملَ في ذاكراتنا، وفي فسحة عقولنا.
ومثلما قال الشاعر أنسي الحاج : الموتى أصدقاءٌ يبتسمون
فأنا أرى الآن الصديق سعد محمد رحيم يبتسم لنا، ويلوّح بالمحبة.