ثقافة الاحتجاج

ثقافة الاحتجاج

كاظم الواسطي
مثلما للتعصب ثقافته التي تعتمد سلطة النص وأحادية الرأي في التعامل مع متغيرات الحياة والمجتمع، واعتبار ما يخالفهما خروجاً عن الحقيقة وصواب الفكرة التي تحتكر الانتماء إليها هذه الجماعة أو تلك المجموعة، فإن للاحتجاج الشعبي ثقافته التي تعتمد المتغيرات الاجتماعية، وطبيعة الواقع الذي

يعيشه الشعب نقطة انطلاقٍ لها في طرح مطالبها العامة التي هي الحاصل المشترك لتطلعات المواطنين في بناء وطنٍ يصلح لأن يعيش فيه الجميع باختلاف هوياتهم وأفكارهم على مبادئ تضمن حقوقهم وحرياتهم دون تمايز أو تمييز، لتكون عليهم واجبات يسعون، بجدّية وإخلاص، الى تقديمها لوطن يشملهم برعايته، ويمكنّهم من بناء حاضرهم ومستقبلهم على أسس العدالة والحرية. إن أنظمة التعصب والاستبداد تبدأ حكمها بمصادرة هذه الحقوق والحريات، وتُرهق المواطن بواجبات وإملاءات قسرية ترغمه على الإخلال بها، وفقدان الرغبة في التفاعل معها، مما يؤثر سلباً على الأداء الوظيفي والاجتماعي وجعلهما أشكالا ظاهرية يزيدان في نخر الخدمة العامة، ويُبطآن من سير عملية البناء والتطوير. ولنا في دول المنطقة العربية والإسلامية مثال واضح على حالة التردي والتخلف التي وصلتها مجتمعات هذه الدول بسبب سياساتها المستبدة التي حولّت المواطن إلى مجرّد رهينة تعيش وفق شروطٍ فوقية لا تراعي أو تكترث بما ستؤول أليها حياتها في ظلال قسوتها. إضافة إلى أن القوى التي تبنّت مشاريع الدفاع عن حقوق المواطن المحروم من أبسط الحقوق المادية والمعنوية الناشئة من شروط وجوده اللاإنسانية، تباطأت كثيرا في متابعة تسارع المتغيرات التي أنتجها واقع مختلف، يستدعي حضوراً فاعلاً ومؤثراً في التعاطي مع الحدث، والوقائع المستجدة. وهذا ما رسّخ في أذهان المواطنين نوعاً من الانتظار (الغودوي)، وحوّل قسماً كبيراً منهم إلى مجرّد فرسانٍ لـ « طواحين هواء» يخبَرونها في أحلام اليقظة. ووسط هذا الركام الثلاثي الأبعاد – أنظمة مستبدة مصادِرة لحقوق وحريات المواطنين، وشروط عيش لا إنسانية، ضعفت وعجزت القوى المدافعة عن توفير الشرط الإنساني الذي يستحقه المواطن كحقٍ له في الوجود – تنمو عناصر الاحتجاج الشعبي وتتسع دائرة تأثيرها ليكون لها ملمحها الممّيز في تخطي العثرات السابق، معتمدة على إرادة جماعية في التغيير والإصلاح اللذين صارا هدفين يتطلبان الانتقال من مرحلة السعي إلى العمل الحقيقي على الأرض لمجابهة وتحدي من يريد للأمور أن تبقى على حالها، وهم كثر في واقعنا السياسي الملتبس، وغير المكترث. ومما شاهدناه وخبرناه في حركات الاحتجاج في العراق وفي البلدان العربية التي تجاوزت مرحلة الاحتجاج إلى الانتفاضة الشعبية وتغيير أنظمة الحكم في بعض هذه البلدان – تونس و مصر – واستمرار تحشيدها في بلدان أخرى برغم كل عمليات التصفية العسكرية التي تمارسها أنظمة الحكم المستبدة فيها – يُبّين لنا بوضوح بأن فجراً جديدا يطلع على هذه المنطقة سيغّير الكثير من المعادلات السياسية والاجتماعية، ويؤسس لثقافة أفقية تنشر الوعي على مساحةٍ أوسع وأكثر عمقاً، وخصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار واقع الإعلام الجديد، وحركة التواصل الاجتماعي على الانترنيت، وسرعة انتقال « كاتلوك « الاحتجاج من مكانٍ إلى آخر دون إمكانية احتجازه في حدود الأنظمة، مهما بلغت درجة المراقبة فيها. وسوف لن يكون لميراث خيبات الأمس، ولا لمخادعات البعض في الحاضر، أن يوقفا حركة الاحتجاج على دربٍ اختارته لنفسها بدون وصاية من أحد، ولا إملاءٍ تحاول بعض القوى فرضه بأسبقيات شبه ميتة. حركة عليها أن تتمسك بقوة ثقافة الاحتجاج الشعبية النابذة لكل ثقافات التعصب والاستبداد، وأن تصهر رموزهما في شعاع فجرها الجديد.