فالح عبد الجبار في ذمّة الخلود...

فالح عبد الجبار في ذمّة الخلود...

د. لاهاي عبد الحسين
تذكّر الهبّة التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي عند سماع خبر رحيل عالم الاجتماع العراقي المميّز والأكثر حضوراً على المستوى العراقي والعربي والدولي نهار السادس والعشرين من شباط الماضي، فالح عبد الجبار بما حدث عشية وفاة المهندسة العراقية الموصلية زها حديد من حيث التعبير عن موجات الحزن والأسى لنوعية الفقد.

قامتان عراقيتان كافحتا في الزمن المعاصر لتقدّما مثلاً ملموساً على مقدار وآفاق الألق العراقي في مجالات معرفية وفنية وعلمية صعبة صعدت بهما إلى سقوف المجد العالية فكان أنْ ذاع صيتهما وعمّ وانتشر.
حكاية تحكي عن حال مجتمع يتعلق بالحياة ويضع الثقة بقامات يرى نفسه من خلالها، لا فرق في هذا بين أنْ تكون القامة ذكورية أو أنثوية إنّما المهم أنْ تكون عراقية الأصل والصبغة والتوقيع.

مجتمع أخذ بحكم خلفيته الحضارية والتأريخية على مقاييس عالية لا تهبط إلى ما دون أمثلة ساطعة وإنتاجية مثمرة من نوع التي قدّمها كل من حديد وعبد الجبار. عبّر كلاهما ومن خلال ردة الفعل التي صنعاها في موتهما المبكر كما في حياتيهما المفعمة بالعمل والإنجاز عن حقيقة اجتماعية مهمة لما يزل العراقيون يتطلعون إليها ويتوقون. كلاهما مات في عزّه وفي زحمة انشغالاته المعلقة مما يعطي مبررات لموجة الحزن والأسى التي رافقت أفولهما وانعكست في طقوس الوداع والتشييع الواسعة على الصعيد الشعبي. بالنسبة لعبد الجبار، فقد قضى وهو يتكلم عن العراق وماضي العراق وحاضره على الهواء مباشرة. نسمع بين فترة وأخرى عن أساتذة أجلاء ومربّين فضلاء قضوا في قاعات الدرس والمحاضرة وعلى مرأى من طلبتهم، وكذلك فعل عبد الجبار الذي اختار أنْ يكون حاضراً في القنوات الإعلامية استجابة لضغط الطلبات على إسهاماته العلمية المحترمة.
عُرف فالح عبد الجبار بإنجاز معرفي واسع بشقيّه التأليفي والترجمي، وحضور شخصي مؤثر لإلقاء المحاضرات وعقد اللقاءات التلفزيونية إلى جانب المشاركة الفاعلة على مستوى أكاديميات ومؤسسات دولية مرموقة. ولأنّه مرتبط عضوياً وفكرياً بالهمّ العراقي، فقد شارك في مبادرات سياسية لعل من بينها اختياره ليكون عضواً رئيساً ضمن اللجنة التي شكّلها التيار الصدري لتشكيل حكومة التكنوقراط. ولأنّه يعرف المهمة ويتقنها فقد تحرك على أشخاص يثق بهم وقدّم أسماء لا يرقى الشك إلى كفاءتها وحياديتها وتميّزها لم يجد معظمها الطريق إلى القبول لأسباب خارجة عن إرادته. فقد أنجز مهمته واكتفى. وبرغم الاهتمام والثقة والاحترام الذي حظي به من قبل جهات رسمية وحكومية مهمة، إلا إنّه لم يفكر يوماً في التقاط الفرصة لنفسه أو من يراه قريباً منه، بل كان حريصاً على أداء المهمة بالحيادية والأمانة التي عرف بها دون حسابات شخصية ضيّقة يضع من خلالها قدماً هنا وقدماً هناك.
يذكر أنّ الغياب الذي تركه عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي، أدى بالكثيرين إلى التساؤل عمن يخلفه ويواصل مسيرة البحث الاجتماعي بعده في العراق. وجاءت الفرصة بعد 2003 ليحضر عبد الجبار ويلقي المحاضرات على أوساط واسعة نسبياً حتى تعرف على إنجازه الطلبة والمختصون وقرأوا له فكان أنْ تابعوه وتلقفوا أعماله الكثيرة والمتنوعة. لم يكن عبد الجبار امتداداً لعلي الوردي بل كان مختلفاً عنه. يمكن أنْ يوصف الوردي بعالم الاجتماع التنويري التحرري الديموقراطي المدني ممن بنى على أعمال ابن خلدون وزاوجها بوجهات نظر سوسيولوجية حديثة مختارة وبخاصة في مجال علم النفس الاجتماعي وعلم اجتماع المعرفة كما تجلى أحد أهمها في مفهوم الأيديولوجيا كنظام فكري لدى كارل مانهايم. بالمقابل، قدّم عبد الجبار نفسه كعالم اجتماع ماركسي بامتياز مسلطاً الضوء على عملية التحول نحو الديموقراطية وما رافقها من عقبات والمجتمع المدني الذي رأى أنّه لم يتبلور بعد في العراق وقراءات نقدية تحليلية للإرث الماركسي ظهرت في أحدث كتبه"ما بعد ماركس». إلا إنّ ماركسية عبد الجبار منزوعة من الجانب السياسي والالتزام الأيديولوجي لأنّها"ماركسية أكاديمية».
تجدر الإشارة إلى أنّ يقظة حصلت على مستوى المؤسسات الأكاديمية في العالم المتقدم على وجه التعيين منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، للعودة إلى الإرث الماركسي. حصل هذا بسبب الإحباط الذي لحق بالدارسين والمهتمين بالشؤون الاجتماعية نتيجة فشل النظريات والتوجهات الفكرية الوصفية والوضعية التقليدية في تقصّي وتعقب الظواهر الطارئة والمستحدثة غير المسبوقة في المجتمع. ظواهر بدت وكأنّها نسيت تماماً من قبل أصحاب المرجعيات النظرية التقليدية المحافظة كما في التفاوت الطبقي والتفاوت الجندري والعنصرية والتمييز والتعصب والفقر وانتشار أعمال الشغب واندلاع الاضطرابات الشعبية الواسعة إلى جانب الحروب والنزاعات المسلحة على أسس عرقية أو دينية ومذهبية وما إليها. وهذا ما يسبغ أهمية استثنائية على إنجاز فالح عبد الجبار كونه خاض علمياً ومنهجياً في مجالات لم تكن قد طرقت بعد على مستوى البحوث والدراسات العلمية الرصينة في العراق. فقد غلبت التوجهات النظرية الوظيفية المحافظة على أعمال العديد من الطلبة والدارسين ممن نالوا شهادات عليا كما في الموضوعات التي تهتم بالتنشئة الاجتماعية أو حقوق المرأة في الدين أو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في آراء المبحوثين،.. إلخ.
قد تكون أعمال فالح عبد الجبار الصرخة التي تلهم الباحثين المهتمين لسبر غور مسارات جديدة غير مطروقة يمكن أنْ تسهم في تعرية الحقيقة وكشفها وتدعيمها بالحجة والدليل القابل للجدل والنقاش.
من جانب آخر تعطي أعمال فالح عبد الجبار المترجمة والمؤلفة، صورة لعالم مهتم بمنهجية البحث العلمي. يستشهد على هذا من خلال قوله في مقدمة كتاب"ما بعد ماركس»، أنّه أضاف نصيّن حول الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم عام 2009، ويصفهما بأنّهما أقرب إلى المقالتين الصحافيتين منهما إلى الدراسة العلمية الأكاديمية الموثّقة على الرغم من مصداقيتهما في توصيف واقع الحال. وهذا ما يجعل من فالح عبد الجبار شبيهاً بعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم بقدر تعلق الأمر باهتمامه بالمنهج والتأسيس لتقليد أكاديمي مهم يتجلّى بالنشر في المجلات العلمية المحكمة ومواكبة المؤتمرات العلمية ومتابعة الورش التدريبية التي تقام على هامشها. نزعة طوّرها وعرض لها دوركهايم في كتابه الأثير"قواعد المنهج في علم الاجتماع»، واستفاض عليها بدراساته الرائدة في مجال تقسيم العمل والدين والانتحار مما أهلّه ليعتبر المؤسس الأكاديمي لعلم الاجتماع الحديث كفرع من فروع المعرفة الأكاديمية. وتقدم دوركهايم من خلالها على مواطنه أوكست كومت المؤسّس الرسمي تاريخياً لعلم الاجتماع الحديث. وكذلك فعل عبد الجبار وهو يحث الخطى بعد الوردي ليسجّل إضافة نوعية على طريق الإنجاز العلمي الذي حققه ممن ما زالت أجيال متعاقبة من العراقيين تقرأ بشغف له دون أنْ تبخل بالاهتمام على من يأتي بعده بجديد.
ولعل آخر ما وصلنا من فالح عبد الجبار، الورقة التي أرسلها للمشاركة في مؤتمر النخب الوطنية التمهيدي لمؤتمر بغداد للمصالحة الوطنية الذي عقد للفترة من 11-12 كانون أول من عام 2017 والذي دعت إليه ونظمته وزارة الخارجية العراقية بالتعاون مع مكتب المصالحة الوطنية التابع لمجلس رئاسة الوزراء. وجاء تسلسل إسم عبد الجبار أولاً في قائمة ضمّت أكثر من ستين شخصية عراقية أكاديمية ودينية وثقافية متنوعة. لم يتمكن عبد الجبار من الحضور لسبب فني يتعلق بإجراءات حجز بطاقات السفر من بيروت حيث يقيم إلى بغداد، ولكنّ ورقته دلّت عليه من عنوانها الموسوم"دولة بلا أمة – أمة بلا دولة: مقترحات للخروج من الأزمة الدائرية نحو المصالحة الشاملة». كتبت الورقة بطريقة تقريرية اختتمها بست نقاط أساسية وضعها تحت عنوان"شروط بناء الأمة المتصالحة مع نفسها"وهي: السيادة الداخلية على أساس الشرعية الدستورية؛ احتكار وسائل العنف المشروع من قبل الدولة حصراً؛ بناء جهاز إداري منفتح على كل المواطنين؛ إعادة تنظيم الجهاز العسكري؛ بناء اقتصاد السوق الحر المنفتح لخلق روابط عضوية وشبكة مصالح مترابطة ومتداخلة فيما بين المواطنين؛ تخفيف الآثار السلبية للاقتصاد الريعي، وأخيراً تغليب المصلحة المشتركة ونسيان ضغائن الماضي.
ستفتقدك الدوائر العراقية بمختلف توجهاتها واهتماماتها وتخصصاتها وستتوق إليك يا فالح أرض العراق وأهل العراق.