في ذكرى رحيلهِ في 10 نيسان 1956 من أخبار رفائيل بطي وطرائفه

في ذكرى رحيلهِ في 10 نيسان 1956 من أخبار رفائيل بطي وطرائفه

إعداد : رفعة عبد الرزاق محمد
يُعد الأستاذ المرحوم رفائيل بطي من أبرز رجال الصحافة العراقية، بل هو من القلّة القليلة من رجالها الذين مهروا في الصحافة صناعةً وفكراً، فقد نذر نفسه ووقته في خدمتها والإشادة برجال الأدب والفكر في العراق الحديث، فقد ترجم للنابهين منهم وأخذ بضبع الناشئين والشداة يتعهدهم بعنايته ورعايته،

فيترضى نتاجهم ويقوّم اعوجاجهم ويتيح لهم فرص النشر في الصحف التي نشرها أو تلك التي تولى الإشراف عليها وبخاصة جريدة (البلاد). وقد برز منهم الكثيرون في حقلي الصحافة والأدب. وبمناسبة ذكرى رحيله في العاشر من نيسان 1956، انقل لكم بعض طرائف حياته الصحفية والأدبية.

خالق المعارك الأدبيّة ومؤجّجها
نشر المرحوم رفائيل بطي سنة 1923، وكان يُعد من أنصار الزهاوي آنذاك، مقالة في مجلة”الناشئة الجديدة”التي كان ينشرها الكاتب الناقد المرحوم ابراهيم صالح شكر، يمتدح بها الرصافي ويعتبره أول من نظّم الشعر القصصي. فما كان من الزهاوي إلاّ أن هاج وماج ودفع بأحد تلامذته للرد على مقالة رفائيل بطي بمقال مسهب في”الناشئة الجديدة”ذاتها، وفي هذا المقال، قال كاتبه إن الزهاوي لم يكن هو السبّاق الى نظم الشعر القصصي في العراق وحده فحسب، وإنما كان قد سبق الشعراء العرب كلهم الى ذلك اللون من الشعر، على أن التعليق الذي أوردته”الناشئة الجديدة”على هذا المقال، هو الذي زاد من حدّة هذه الخصومة.
فقد ذكرت المجلة، أن هذا المقال هو من قلم الزهاوي نفسه، ثم أضافت متهكمةً تقول:”إن الزهاوي دعا الفيلسوف الألماني اينشتاين الى المبارزة.. وإن قواعد هذه المبارزة دفع وجذب ورباعيات.. ولا نخال اينشتاين بتهور، فيقدم على هذه المبارزة، لأن تلاوة رباعية واحدة كافية لصرعه في حلبة البراز”وقالت المجلة أيضاً في ذات التعليق:”إن لجنة الطب الأدبي قررت تلقيح الجرائد والمجلات بلقاح يقيها جرائم الرباعيات.. وإن جامعة أكسفورد، قررت ترجمة قصيدة الزهاوي الفلكية ليستظهرها الأساتذة المختصون”والذي نستطيع أن نؤكده أن رفائيل بطي نفسه، هو الذي كتب هذا التعليق الساخر. وفي الوقت ذاته، انبرى القاص العراقي الكبير المرحوم محمود احمد السيد، فأخذ يهاجم رباعيات الزهاوي ويردّها الى الأصول التي سرقها الزهاوي منها، وهي آراء ورد بعضها في القرآن الكريم، وبعضها الآخر قال به كثيرون من الفلاسفة والحكماء والشعراء العرب وغيرهم.

بطي وعالم المكتبات
كان رفائيل بطي من محبّي مكتبة المثنى الناشئة ومشجعيها، وكان لا يمر يوم إلا وزارها، واقترح عليَّ يوماً أن يحجز لي حقلاً صغيراً في جريدته (البلاد) ليقرض بعض الكتب التي تصل إليَّ ولم أكن يومئذ اهتم بمثل هذا، ولكن ترغيبه وإلحاحه عليَّ باستمرار حملاني على قبول الاقتراح، فهيأت بعض الكتب وأعددتها للتقريض بناءً على رغبته، وكان أول اعلان كتبه لي ونشره في جريدته إعلاناَ عن كتاب صغير هو (النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم) لتقي الدين المقريزي، بعد أن كان قد أعيد طبعه في القاهرة عن طبعة ليدن، ولم أكن اتصور أن يكون لمثل هذا الاعلان البسيط كل هذه الأهمية وهذا الأثر، فقد جئت –كعادتي- صباح يوم الى المكتبة، وإذا بي أرى جمعاً من الناس ينتظروني لافتح المكتبة وكلهم يبتغون شراء هذا الكتاب فبعت لهم وبقيت ابيع منه طول النهار حتى نفدت نسخه.. ورفائيل بطي أديب المعي وصحافي قدير، وهو ممن يمتلك مكتبة صحفية فيها كل طريف، وقل من يهتم من الصحافيين بهذه الناحية، إلا أنني رأيت كلاً من كامل الجادرجي السياسي والصحافي لا يصل كتاب إلا اقتناه، وتوفيق السمعاني الذي فاقت مكتبته جميع المكتبات بما فيها من مختلف الكتب والمراجع بالعربية والسريانية وهو ممن يرتاد المكتبة العصرية ويجلس فيها ثم يقصد مكتبة المثنى وهو صديق الجميع.

طريقته للاستغناء عن محرريه..
يذكر الأستاذ سليم البصون، الصحافي العراقي الرائد، وقد عمل سنوات مع رفائيل بطي، طرائف من حياة بطي، ومن ذلك طريقته عندما يريد أن يستغني عن أحد محرري جريدته”البلاد”فيقول:
كانت للمرحوم رفائيل بطي، طريقة غريبة في الاستغناء عن المحرر الذي لا يرغب استمراره في العمل، فعندما يعتزم الاستغناء عنه، يبدأ بتقريبه منه وأزجاله النصائح له في حياته الصحفية، وحين تزف لحظة الاستغناء يدعوه إلى مكتبه ويطلب إليه”الشاي”إن كان الوقت شتاءً”والبارد”إن كان الوقت صيفاً، ثم يحدثه عن الصحافة وهي مهنة البحث عن المتاعب ويتوجه إليه بما يرسم خطوط واضحة في قابل أيامه ثم يحدثه عن جريدته ووضعها المالي، وإن له أن يعمل في أي صحيفة تبرز مواهبه، ثم يبلغ الأستاذ”محرره”النبأ الخطير، نبأ الاستغناء عنه!. فحين كان المرحوم يستدعي أحد المحررين إلى غرفته ويرفق الاستدعاء بالنداء على”الشاي”أو”البارد”له، كان بقية المحررين يعرفون أن المحرر المذكور سيترك مكتب صاحب الجريدة ليودعهم!..على أن من الضرورة بمكان أن أذكر، أن المرحوم رفائيل بطي، ما كان يستغني عن المحرر أو المخبر الذي يستفيد منه بهذه السهولة، وإنما يكون استغناؤه عن القاصر أو الذي تنتفي الحاجة إليه أو يأتي عملاً يراه هو مبرراً للاستغناء عنه، على أن المرحوم كثيراً ما احتفظ بمحررين ومخبرين ظلوا يعملون معه سنيناً طويلة، لم تفرق بينهم أسباب العمل، وإنما حوادث الأيام!.
مع الرصافي
وكتب الأستاذ رفائيل بطي عن ذكرياته مع الشاعر الكبير الرصافي فقال: عرفت الرصافي بشعره أولاً، ثم قابلته لأوّل مرة سنة 1920، كما وصفت هذه المقابلة في مقال كتبته على طلب لصحيفة عراقية في عدد خاص أرصدته لذكراه. وكما أشار صديقي الأديب الضليع الأستاذ مصطفى علي في كتابه عن الرصافي. وامتدت معرفتي بالشاعر النابغ طوال السنين، حتى وافى حمامه. وفي فكري عنه شيء كثير، كما أن حياته بأطوارها ومعالمها تستوقف المتأمل في مراحل كثيرة. واعني أن يسعفني الزمن لأؤدي الواجب للأدب والتأريخ في تدوين مشاهد وآراء في هذا الصدد.
ويحضرني الساعة موقف ومشهد لشاعر الشعب والأديب الحر. أما الموقف فعندما انشد الرصافي لاميته في احتفال أدباء الشعراء بأمين الريحاني، فكانت قصيدته هذه معلّقة عصرية ضمّت ما يجيش في صدر الأمة من احساس قوي بالكرامة العراقية وبألم كظيم من كابوس الاستعمار وأثر السياسة الغشوم في النفوس. ويكفي أن أذكر أن جماعة من الشباب الوطني كانوا قد أعدّوا نسباً كثيرة من هذه القصيدة الخالدة مكتوبة (بالتابيرايتر) صاروا يوزعونها على شهود الحفلة ومعظمهم قد خرجوا سكارى مفتونين بما عبّر شاعرهم عما تهجس به خواطرهم وتفيض صدورهم، وستبقى هذه القصيدة مأثورة للرصافي تغني عن مجلد ضخم في وصف الحالة النفسية للشعب يومئذ، إزاء السياسة المفروضة عليهم. ويكفي أن تكون القصيدة قد غطّت على كل ما قيل في تلك الحفلة بما فيها رائعة الريحاني نفسه من شعره المنشور في وصف الحرية ورسالتها الى الشرق. ولكن معاني هذه الرائعة كانت أعلى من المستوى العام لجمهرة السامعين، فضلاً عن أنهم كانوا يسمعون الريحاني يخاطبهم بلهجته اللبنانية الناعمة وسحره الخطابي، بينما قلوبهم تئن من آلام الجراح بين عيش هذا الأديب المفكّر الذي جابت قصائده الآفاق العربية ولهج رواتها بنبوغ القريحة العراقية المعاصرة واستنهض الهمم وحرّك النفوس الراكدة في ليل الاستبداد، حتى إذا ما كتب القدر وتعاونت ضحايا الحرية مع الأوضاع الدولية فولدت دولة العراق ثارت فيه سياسة الحكم وتقلبات المجتمع، بحيث بلغ بعض الأمعات مبالغ من الجاه والثروة عاشوا فيها منعّمين، وظل طريد الطغيان في كوخ بؤسه، يعيش في مغنى متوهج من مغاني الخيال بفكره النيّر وفؤاده الصلد.