صفحة مطويّة من تأريخ مدحت باشا في العراق..شركة محلية للنقل النهري تنافس بيت لنج

صفحة مطويّة من تأريخ مدحت باشا في العراق..شركة محلية للنقل النهري تنافس بيت لنج

علي مدلول الوائلي
أدركت السلطات العثمانية أهمية وخطورة الملاحة البريطانية في أنهار العراق وأرادت أن تسبق البريطانيين في استخدام البواخر في نهري دجلة والفرات، إلا أن العثمانيين لم تكن لديهم شركات لبناء البواخر أو فنيين متخصصين في هذا المجال، كما رفضت شركة”بومباي”لبناء السفن، طلب السلطات العثمانية في بغداد بيعها عدداً من البواخر.

جرت أول محاولة للوقوف بوجه النشاط الملاحي البريطاني في انهار العراق عندما حاول والي بغداد محمد نجيب باشا، الحصول على سفينة بخارية عام 1843 وعرض محمد نجيب باشا مشروعه على القنصل البريطاني في بغداد”روبرت تايلر”الذي سانده وكتب إلى رؤسائه داعياً إلى تأييد مشروع نجيب باشا، وعندما علم التجّار البريطانيون بمساندة تايلر لمشروع محمد نجيب باشا، بعثوا بشكواهم إلى السلطات البريطانية ضدّ تايلر واتهموه بأنه يعمل لصالح العثمانيين، فتم ابعاد تايلر واسندت قنصلية بغداد إلى”هنري رولنسون”ولعب”بيت لنج”دوراً كبيراً في إفشال مشروع محمد نجيب باشا.
في عام 1847 أوفدت السلطات العثمانية نجيب باشا وهو أحد رجال البحرية العثمانية إلى البصرة لدراسة الإمكانات المتوافرة محلياً لإنشاء قوة نهرية وبحرية بعد أن فقدت اميرالية الفرات اهميتها وتأسيس ترسانة بحرية في البصرة لخدمة البواخر التي تريد الحكومة العثمانية شراءها سواء للنقل النهري الداخلي أو للنقل البحري الخارجي. ففي عام 1850 صدرت ارادة من السلطان العثماني لشراء أربع بواخر من فرنسا، خصّصت اثنتان منها للنقل والتجارة بين بغداد والبصرة، ولكنَّ الباخرتين لم تصلا إلى العراق ويبدو انهما خصّصتا للعمل في أماكن أخرى من الدولة العثمانية.
وبعد تولّي رشيد باشا الكوزلكي 1853-1857 منصب الولاية في بغداد، أدرك اهمية السفن البخارية ومنافعها في نقل المسافرين والبضائع بين البصرة وبغداد، فدعا جماعة من التجّار لاجتماع عرض فيه عليهم تأسيس شركة بواخر مساهمة في نهر دجلة يكون نصف رأسمالها من الحكومة والنصف الأخر يشترك فيه التجّار. وتعاقد”الكوزلكي”مع احد مصانع بناء السفن في مدينة انتويرب (Antwerp) البلجيكية لبناء باخرتين سمّيتا بعد وصولهما إلى العراق / بغداد والتي تولّى قيادتها النقيب هولاند والبصرة.
كما أقام رشيد باشا لهذا الغرض معملاً لتصليح البواخر في جانب الكرخ، فقد وصلت الباخرة الأولى وركبت بعد وفاة الكوزلكي، ثم وصلت الثانية بعد ذلك وبالرغم من اهتمام الأهالي والتجّار بهاتين الباخرتين، رفض الواليان التاليان لبغداد عمر باشا السردار 1858-1859 ومصطفى نوري باشا 1860-1861، استخدامهما في نقل بضائع التجّار ومن المحتمل أن استخدام الباخرتين في أمور عسكرية تتعلق بتجهيز حملات على بعض العشائر في الفترة الممتدة بين عام 1859 وعام 1867 قد حال دون الاستفادة منها في النقل التجاري.
كانت الباخرتان بغداد والبصرة، تُداران من قبل الإدارة النهرية التي تأسست بعد أن وافق الباب العالي على اقتراح الوالي محمد نامق باشا بتأسيس دائرة حكومية للنقل المائي في بغداد، وباشر محمد نامق باشا باستخدام الباخرتين بغداد والبصرة في نقل الجنود والموظفين، وكانت آخر اعماله قبل عزله أنه أوصى المصانع البلجيكية في”انتويرب”ببناء خمس بواخر لتشغيلها في نهر دجلة، وكان هدفه منافسة شركة”لنج”التي كانت تحتكر الملاحة في نهر دجلة.
في عام 1869 تولّى مدحت باشا الذي كان يعدّ من ألد أعداء بريطانيا
بسبب نواياها الاستعمارية في الدولة العثمانية ولاية بغداد، في وقت كانت فيه شركة”لنج”تحتكر الملاحة في نهر دجلة، لذا حاول مدحت باشا منع شركة”لنج”من مواصلة نشاطها وإجبارها على الخروج من انهار العراق من خلال شراء بواخر جديدة وتأهيل البواخر القديمة لترتقي إلى منافسه بواخر شركة”لنج” وغدت قضية المواصلات النهرية من القضايا الأساسية التي شغلت اهتمام الوالي مدحت باشا، فقد اعاد تشكيل الادارة النهرية التي اتخذت من أحد اجنحة المدرسة المستنصرية المطلّة على نهر دجلة مقراً لها والتي تتولى ادارة المراكب النهرية في دجلة والفرات، وعيّن مديراً لها يتمتع بالكفاءة، وأخذت البواخر التي اوصى بها الوالي محمد نامق باشا بالوصول إلى العراق وهي موصل وفرات ورصافة، كما أخذت بعض هذه البواخر تسحب وراءها مقطورات لزيادة قدرتها على شحن البضائع ومن هذه المقطورات الدغارة والخابور ومعتمد والحلة والعمارة، في حين لم تكن شركة”لنج”تتمتع بهذا الحق.
حاول مدحت باشا انشاء اتصال منتظم بواسطة البواخر بين بغداد وحلب عن طريق نهر الفرات، وتوجه مدحت باشا بنفسه إلى أعلى الفرات مبتدئاً من رأس قناة الصقلاوية إلى مسكنه على ظهر الباخرة فرات، وعند عودته إلى بغداد أمر بتشكيل لجنة برئاسة”شاكربك”متصرف سنجق بغداد، تألفت من عدد من المهندسين وكان الغرض من هذه اللجنة القيام بمسح شامل لنهر الفرات من الفلوجة حتى مسكنه بالقرب من حلب، للتعرف على أوضاع النهر ومدى صلاحيته للملاحة التجارية، وخصّصت لهذه اللجنة الباخرة بصرة والباخرة شهباء، التي كانت تقوم بمهمة الدليل، وفي تقريره الأول وصف شاكر بك نهر الفرات بين التقاء قناة الكنعانية به إلى الشمال من الفلوجة، وأكد أنه من حيث عمق النهر فإنه كافٍ لسير البواخر. وفي تقرير آخر اشار إلى قوة جريان النهر في بعض مناطق النهر، وأكد أن البواخر النهرية العثمانية لاتستطيع مقاومة التيار المائي في هذه المناطق، وأوصى ببناء باخرة ذات أربعة دواليب، وتمت صناعة هذه الباخرة في النمسا وهي قادرة على مقاومة التيارات المائية القوية، وقد وصلت هذه الباخرة إلى البصرة في بداية شهر أيار 1872 بعيد انتهاء ولاية مدحت باشا، وأطلق على الباخرة الجديدة اسم مسكنه والتي بدأت العمل في نهر الفرات بين البصرة ومسكنه، وهي تحمل البضائع والمسافرين ثم العودة من مسكنه إلى دير الزور فالصقلاوية القريبة من بغداد، ثم تواصل الباخرة رحلتها إلى البصرة، كما حاول مدحت باشا توسيع الملاحة صعوداً في نهر دجلة حتى الموصل ومحاولة التغلب على صعوبات الملاحة المتمثلة في وجود الصخور في مجراه في بعض المناطق وارتفاع وانخفاض قاع النهر في مناطق أخرى، فشرع مدحت باشا بالقيام بأعمال تطهير النهر في مناطق عديدة بين تكريت والموصل وكانت تلك العمليات تتضمن شق جدول بطول 1600 ذراع إلى جانب نهر دجلة في منطقة سد النمرود، الذي كان يعيق الملاحة، وخصّصت الباخرتان بغداد والحدباء لأغراض الكشف والتطهير، إلا أن اجراءات تطهير نهر دجلة والحلول التي وضعت لتجاوز معوقات الملاحة فيه لم تتم لا في عهد مدحت باشا ولا في عهود الولاة الذين أعقبوه، وظلت بواخر الإدارة النهرية تصل إلى سامراء.
اشتهرت بواخر الإدارة النهرية في عهد مدحت باشا بانتظام أوقات سيرها، إذ اعتادت الإدارة على الاعلان في جريدة الزوراء عن مواعيد سفرات بواخرها واسعار نقل المسافرين والبضائع، كما أخذت تقوم بنقل البريد العثماني بين بغداد والبصرة، وخصّصت لهذا الغرض الباخرتين موصل ومسكنه. كما فتحت وكالات لها في البصرة والعمارة وكوت الإمارة ودائرة للشحن وتنظيم الملاحة في الناصرية، أما محطات البواخر العثمانية في طريقها من البصرة إلى بغداد، فهي القرنة وشطرة العمارة ثم العمارة نفسها وعلي الشرقي وعلي الغربي وكوت الإمارة.
وأخيراً فقد عانت الإدارة النهرية من الإهمال والتدهور بعد رحيل مدحت باشا فقد فشلت في منافسة شركة”لنج”ومُنيت بخسائر فادحة.

عن رسالة (شركة لنج للملاحة 1861-1914)