بافيزي بين الكتابة والحياة

بافيزي بين الكتابة والحياة

بقلم: جون تايلور
ترجمة: عباس المفرجي
لن أكتب بعد الآن .. بهذه الكلمات، أنهى الروائي والقاص والشاعر الايطالي تشيزاري بافيزي (1908 – 1950) يومياته، وأنهى بعدها بتسعة أيام حياته بتناوله جرعة زائدة من حبوب منوّمة في غرفة فندق في تورينو. قبل ذلك بزمن قصير، كان قد نشر روايته"القمر والنيران"(1950)،

التي فازت بواحدة من أرقى التشريفات الأدبية الايطالية (جائزة ستريغا للرواية)، لكنه أيضاً واجه نهاية علاقته مع الممثلة الاميركية كونستانس داولينغ.
إلامَ يرمز انتحار كاتب؟ الى عجز الكتابة عن إنقاذ حياة؟ قد يجد العشّاق المتحمسون للأدب أمراً عسيراً على التصديق، أن موهبة كموهبة بافيزي لا يمكنها بطريقة ما أن تواصل العطاء، منغمسةً في شراك التأليف كوسيلة لحل المشكلات الثانوية السطحية (أو على الأقل تجنبها) التي تتعلق بالحب غير المكافئ والحياة اليومية. لكنني، بالطبع، ساخر كبير. إنه أمر لافت للنظر، و، كما أحسب، مثقِّف على نحو مروِّع أن تكون يوميات بافيزي الشفافة، المتشائمة تحمل عنوان Il mestiere di vivere (1952)2، كتاب تُرجِم مرتين الى الانكليزية بعنوان"الجمرة الحارقة"و"مهنة العيش هذه"، وكلاهما يشدّدان على أن العيش هو مهنة أو حرفة!

اليوميات المُكتشفة بين أوراق الكاتب بعد موته، هي واحدة من أكثر اليوميات فتنةً على نحو فكري كتبها كاتب في الأدب الاوربي الحديث، واكثرها صراحة على نحو موجع. إنها تُظهِر نفاذ بصيرة، لا فقط في شخصية بافيزي، بل أيضاً في ذكائه الحرفي والأدبي العالي. صفحات تعجّ بأفكاره النقدية الحادة حول شعره ورواياته الخاصة به، حول الكتب التي كان يقرأها أو يترجمها، أو حول الأدب على العموم. لكن الشاعر والكاتب حدّد أهدافاً ليومياته حتى أكثر طموحاً، فكان عملاً يُقارَن بشعره:
قد تكون فائدة هذه اليوميات في الوفرة غير المتوقعة من الأفكار، في فترات الإلهام التي، من تلقاء نفسها وبطريقة ميكانيكية، تعلن عن الاتجاهات الرئيسة لحياتك الروحية. من وقت لآخر، تحاول أن تفهم ما تفكّر به، وبعد فوات الأوان فقط تسعى الى اكتشاف رابط بين أفكارك الحالية وتلك الماضية. أصالة هذه الصفحات هي أنك تترك البنية تستنبط نفسها، وتضع روحك امامك، على نحو موضوعي. ثمة شيء ميتافيزيقي في ايمانك بأن هذا التعاقب السايكولوجي لأفكارك سوف يصيغ نفسه في عمل حسن البنيان22) شباط 1940(.
إن كان بافيزي فَشِل في حرفة الحياة، فهو حلل الفشل بنجاح – ليحاكي ولعه الشخصي بالسخريات المرّة – في"مهنة العيش"، التي بدأ يكتبها في عام 1935، وثابر على كتابتها منذ ذلك الحين، مع فقرات عديدة مدوّنة في كل سنة حتى 18 آب 1950. لهذا السبب فإن التحدّي المطروح في العنوان يجب أن يظل في الأذهان عند قراءة أعماله المبدعة، وبخاصة قصصه القصيرة الأخاذّة، المفعمة بالحياة، وكذلك أربع من رواياته المهمة –"الشاطئ"(1942)،"البيت فوق التل"(1949)،"بين النساء وحدهن"(1949)،"الشيطان فوق التلال"(1949) – صدرت معاً قبل سنوات قليلة عن نيويورك ريفيو بوكس، في كتاب"الأعمال المختارة لتشيزاري بافيزي"، بترجمة آر دبليو فلينت. كما تكشف اليوميات بوضوح، أن قلّة من المؤلفين عملوا لزمن طويل بمثل هذا الوعي العميق بالفجوة الخطرة بين الحياة والكتابة – وهذا الجهد يمكن أن يبان في الرواية. وكُتّاب قليلون وقفوا بشجاعة كبيرة منفرجي الساقين على الهوّة، مراقبين كيف تتوسّع على نحو لا يلين، مترقبين أبداً – أثناء الكتابة – اللحظة المقدَّرة عندما يقعوا فيها.
مع هذا، لو أن رواية بافيزي هي شخصية بهذا المعنى الجوهري، فإن توجهاتها السيرية العميقة الأمد لا تكون ظاهرة مباشرة على السطح. في حين أن صراعه المستمر مدى الحياة، مع توقع موت موجع، مطروح على نحو مباشر في يومياته، وهو منقول بشكل متخيّل في قصص آسرة، مثل"حفلة زفاف"أو"انتحارات"(بالإشارة فقط الى هاتين القصتين)، أو في رواية، مثل"بين النساء وحدهن". في زمن مبكّر، في 10 نيسان 1936، دوَّنَ في"مهنة العيش". (أعرف أنني محكوم الى الأبد بالتفكير بالإنتحار حين أواجه كرب ومصاعب أيّاً كانت... مبدأي الأساسي هو انتحار، لم يُرتكَب أبداً، لن يُرتكب أبداً، لكن التفكير فيه يداعب حواسّي. بعد أربعة عشرة يوماً، كان يتأمل فيما إذا كان انتحار تفاؤلي سيعود الى العالم ثانية. في 23 آذار 1938، أعلن أن لا أحد أبداً يفتقر الى سبب معقول للانتحار، مضيفاً أنه سوف لن تكون لك أبداً الشجاعة لقتل نفسك (في ما يخصّ الاستشهاد الأخير، في الأصل الايطالي هو مكتوب، على نحو مشوّق، بصيغة الجمع). بوح وعبارات توبيخ للذات كهذه هي لا تُحصى. تماسك مجموع أعماله هو بالتالي ذلك الذي لقطعة نقد: وجهان مختلفان ظاهرياً في الصورة المطروحة للعالم، مع ذلك هما مرتبطان بشكل وثيق، وربما حتى أنهما متماثلان جوهرياً.
حسب الصراحة التي تتسم بها يومياته، يلمّح بافيزي الى العلاقة المضطربة بين الحياة والكتابة بواسطة عنوان فرعي،"Secretum professionale"“(سرّية مهنية)، غطّى فترة أربعة أشهر خلال السنتين، الأولى (1935 – 1936) التي سجّلها فيها. مصوَّرة بطريقة نابضة بالحياة أيضاً في قصص مثل"بلاد المنفى"و"طيور السجن"، شهدت هذه الفترة نفسها اعتقاله لمدة عشرة شهور في برانكاليوني (كالابريا) بسبب افتتاحية في المجلة المعادية للفاشية لاكولتورا. لكن بلا شك يعيد العنوان الفرعي الى الذهن عنوان بتراركا الواعي بذاته الى حد بعيد Secretum (المؤلَّف باللاتينية نحو 1347)، حوار اعترافي متخيَّل مع مرشده الفكري، سانت اوغسطين. يدور حوارهما حول الوساوس الشعرية، الروحية، والغرامية لبتراركا.
بينما هو يحلّل في يومياته (في 1 كانون الثاني 1940، ما يدعوه حالات مؤسلبة (واحدة من المفاهيم النقدية التي صاغها)، ينتقد بافيزي، في الواقع، بتراركا على خلطه بين الحياة والفن؛ هو يقف الى جانب دانتي، ستاندال، وبودلير لأنهما انطلقا من حياة حقيقية في بنائهما حالات عقلية مستقلة، تحكمها قوانين باطنية. هذا الفرق المحدد (ومهما تفاجأ المرء بوجود إسم ستاندال هنا)، صراع بافيزي الخاص به بين الحياة والفن، يبقى عسيراً على الفهم في كل تعقيده. هو نفسه اعترف بالشيء نفسه؛ الباب الأول في يومياته يركّز، في الواقع، على هذا السؤال. تجاربه تدعم بجلاء تام أدبه الروائي، مع ذلك، فهو يهدف، اسلوبياً، الى تغييرها – وبطريقة ليست مبسّطة. (كان ستاندال، في آخر الأمر، هو الذي اقترح أن الرواية، حين وُلِدت على الطريق، قدّمت مرآة للواقع).
بالعودة الى هذا المقارنة مع بتراركا، كاتب السيرة الذاتية المتفوّق من قبل، ومؤلف"Canzoniere" و"Secretum"، بافيزي هو شكاك أبدي ينقّب باستمرار – في يومياته ورواياته على حد سواء – في المسائل المسيحية مثل الإثم، الإحسان، نكران الذات، والعزلة الضرورية ؛ وفي الدرجة الثانية، يتوق بنفس المستوى الى الجوانب الأكثر حسّية في الحب، مطوِّراً في الوقت ذاته، رؤية مبدعة يكون فيها الأدب وسيطاً par excellence، تكون الحياة خلاله مقرّبة أو على نحو متبادل، مصدودة. بشكل متناقض ظاهريا، لأحاسيس مثل إحساس بافيزي (أو بتراركا)، الكتابة وحدها هي التي يمكنها أن تقرّب المرء من الحياة، أو من الآخر المحبوب. الحياة التي يحياها المرء يومياً تبقى في الواقع – في وعي المرء، في لا وعي المرء – على مسافة غريبة، وقاصية. هذا التوحّد الوجودي الجوهري والحياة الروحية الناتجة عنه هما زمن محلل، ومرة أخرى، من قبل بافيزي في يومياته. نستشهد بحكمة معبّرة: ما يهم الفنان هو ليس التجربة، بل التجربة الباطنية(17 أيلول 1938). من هنا، ثانية، العلاقة الحميمة بين اليوميات ومجموع الأعمال المبدعة.
برغم أن اللغة المنمّقة لبتراركا في شعره الغزلي الايطالي (نثره اللاتيني هو شيء آخر) لايمكنها أن تكون أكثر بعداً عن نثر بافيزي الواقعي على نحو مضلِّل، ينسب الكاتبان على حد سواء صفات مثالية الى النساء، مع هذا، فهما في نفس الوقت، يدققان فيهنّ بصرامة. محاذياً لكره النساء (كما اعترف هو نفسه في يومياته)، ربط بافيزي الحب على نحو مهلك بالمَرَضية. مجموعته الشعرية المتجهمة الأخيرة، التي عُثِر عليها على مكتبه بعد انتحاره، معنونة على نحو مميز بـ"Verrà la morte e avrà i tuoi occhi"(1951)، المعنى حرفياً:"سيأتي الموت وسيكون له عيناك". الموت هو إسم مؤنث في اللغة الايطالية، ويرمز هنا الى داولينغ التي كانت هجرته منذ فترة قريبة. القصائد منظومة في أبيات قصيرة، وثمة توكيد على القصّ. في واحدة من الحكايات التي يضمها كتاب أي إي مورش"تشيزاري بافيزي: قصص"(ايكو بريس)، يتخيل الراوي بصيغة ضمير المتكلم رغبات انتحارية كخطوة حادثة في وقت سابق. إنه يسلّم ببرود بأنه في كل مرة يعشق فيها يفكّر في قتل نفسه. يبدو وكأن بافيزي كان مقاداً برومانتكية مراهقة على نحو أبدي مع احترام للنساء، وكذلك، في المقابل، بفلسفة مفطورة على الحب بشكل تشاؤمي عنيد، بحيث أن أيّ مشاركة طويلة الأناة كان مآلها الصدّ مقدماً. هذه الثيمة، أيضاً، موجودة بوفرة في اليوميات. في 18 تشرين الثاني 1945، على سبيل المثال، أنا خليلك، لهذا أنا عدوّك. وثيمة المراهقة، في كل مظاهرها، هي همّ آخر مستمر لكاتب اليوميات وبصورة خاصة في 16 آب 1950: لماذا أموت؟ لم أكن مفعماً بالحياة كما أنا الآن، شاباً كما أنا الآن. (تعبير بافيزي لشاب هنا يعني (adolescente)..
من المشوّق، أن مَشاهد في روايات بافيزي لا تشمل، في معظم الأحوال، رجلاً وحيداً وامرأة وحيدة يتفاعلان، بل بالأحرى مجموعة شخصيات. تُنشئ الإحاديث المطوّلة تدريجياً بين هذه الشخصيات شدَّاً وأصالةً؛ كلمات المؤلف المكتوبة، التي من المفترض أن تسجّل كلمات منطوقة سابقاً، هي، على نحو وجودي، أقرب لما حدث فعلاً"بمعنى، ما كان معبّراً عنه"أكثر مما هي أوصاف. حين تبرز الى الواجهة مصاعب الصداقة الدائمة، قوى الإنجذاب الجنسي، مآزق الحب، فإن العديد من المقاطع الروائية تكون مسرحية في البناء السردي على نحو جلي. تتغير الحبكات بشكل حاسم أثناء الحفلات، الرقص أو السهرات. مثال رئيس هو الـ ménage à trios المجرّب في"الشاطئ"، رواية مختلفة تصوّر حشداً صغيراً من أصدقاء، تجمعوا في منتجع صيفي. على نحو غير مفاجئ، يقع انقسام الفرد أو الجماعة خلال اليوميات أيضاً، كما في ملاحظته المذهلة ليوم 5 حزيران 1940، عند بداية الحرب العالمية الثانية: واقعية الحرب توحي بهذه الأفكار البسيطة: ليس أمراً محزناً أن تموت بينما يموت العديد من اصدقائك. تمنحك الحرب إحساساً بأنك واحد من جماعة. أهلا بكِ! تفضلي!.
كان لا بد أن يكون واضحاً مسبقاً أن الأبعاد الاجتماعية لكتابة الرواية عند بافيزي، تجعل من الوعي بوحدة الفرد المقنطة أكثر كآبة. دليلاً على هذا الانفصال المزدوج يمكن اكتشافه مرّة أخرى في يومياته، عندما يسدي بافيزي نصائحَ بشكل ساخر، في 9 شباط 1938، بأن كل شخص مقتنع بعزلة بشرية مطلقة يجب أن يستغرق في تعقيدات اجتماعية لا تُعَّد، لأن لها جاذبية أقل بالنسبة له. أكّد هو أيضاً، في 31 كانون الأول 1937، على أن الكُتّاب مثّلوا شخصياتهم؛ في الجوهر، كان هو الأمر نفسه إن استخدم أيّ روائي شخصية أو عدة شخصيات، قدري هو أن أعانق الظلال، كما باح في رسالة مؤرخة في 6 حزيران 1950، مشيراً لا فقط الى داولينغ، بل أيضاً – كما افترض – الى عادته بتقسيم نفسه في شخصياته. بقدر ما تبدو لنا هذه الشخصيات حيّة ومقرّبة بالكامل، فهي كانت، على نحو يائس، أشبه بالأشباح بالنسبة لبافيزي.
رغم شبهها بالواقعية الأميركية في بدايات القرن العشرين من نواحٍ معينة، فإن قصص بافيزي ورواياته مبنيةٌ بعمق أكثر على سلسلة من المعارضات الآسرة. كتب مرّة أنه يعيش وسط تناقضات، التي بدأ بتسجيلها كالتالي: مبهجة – مأساوية، جبانة – بطولية، حسّية – مثالية3) كانون الثاني 1938). في أدبه الروائي، تناقضات مثل هذه تضيف التباساً لا يُسبر غوره الى خطوط الحبكة البسيطة نسبياً؛ هي أيضاً تُمكِّنه من التجريب مع نفسه، حتى في روايات تقدّم في الظاهر بانورامات اجتماعية. كان يقطع بشكل متخيَّل مسافات لم يكن يستطيع قطعها في حياة واقعية. هو أيضاً يستخدم امرأة راوية بصيغة المتكلم في"بين النساء وحدهن"، رواية فاتنة تستكشف العزلة والبحث عن الحب حتى عندما تهجو الأوساط الغنية مابعد الحرب في تورينو، مسقط رأس الكاتب.
بعض القصص تختبر على نحو مشابه الفرضيات الظنيّة حول كيف كان يمكنه أن يتصرف في هذه أو تلك من الحالات الغزلية. في واحدة من أكثر حكاياته إمتاعاً،"العائلة"، يلتقي دينو كورادينو بحبيبته السابقة في حفلة رقص، ويبدآن ثانيةً بالخروج معاً، ليعلم عندئذ أنه أب محتمل لإبنها غير الشرعي – وليس مصادفة أن إسمه دينو أيضاً وعمره ست سنوات ونصف. بمعاناته هو نفسه من الموت المبكر لوالده (عندما كان في السادسة من العمر) ووالدته (في الثانية والعشرين)، يبدو أن بافيزي يلهو هنا مع مايمكن تسميته تأسيس عائلة – حتى في ظروف مثل هذه. في"بين النساء وحدهن"، مومينا، موريللي، والراوية كليليا يناقشن بطريقة مماثلة فائدة قبول الحياة وإنجاب أطفال. شخصيات بافيزي والأنوات الثانية، غالباً ما تجرّب السعادة المحتملة لاسلوب حياة لم يمتلكها هو أبداً".
في"العائلة"، علاوة على ذلك، يتوق كورادينو الى شيء ما... لتغيير حياته دون أن يسلبه... عاداته القديمة. كان يتمنى أن يصبح رجلاً مختلفاً من دون أن يكون واعياً بذلك. هذه المطامح المبهمة للتغيير – تغيّرات من غير جهد، هروبات من غير حركة – تقوّي قصص بافيزي، لأن التغيرات لا تحدث أبداً. على السطح، قصصه بذلك تروي أوهاماً طويلة كما يعبّر هو نفسه عن ذلك في"البيت فوق التل"، رواية تدور أحداثها اثناء المرحلة النهائية من الحرب العالمية الثانية، وتُظهِر محاولات مدرّس توريني، مرتبط بحركة المقاومة السرية الايطالية، للتخفي في التلال المحيطة بالمدينة، نفس مكان طفولته المضاعة. أثناء عزلته، تمس ذكريات صباه، على نحو شديد الأثر، بديله رفيقه، زميله، إبنه، مع هذا، خلف تصرفاته تكمن حقيقة كئيبة في أنه لا يمكن للماضي أن يُستعاد، لا يمكن لتحوّل قلب بشري أن يحدث. يوميات بافيزي (التي هي، بالمصادفة، شحيحة جداً في التعليق على الحرب العالمية الثانية) تكشف كيف أن مثل هذه البديهيات الرهيبة بلا هوادة لم تتآكله. في الأدب الاوربي، مارسيل بروست هو الكاتب الوحيد على الإطلاق الذي يسبر النتائج الوجودية والفلسفية للاضطرار أو الحاجة الى التذكّر.
على نحو متوقع، بيّن بافيزي، لنفسه وبشكل عام أكثر كناقد، عناصر أساسية ثابتة للرواية، حين تتحقق في بطل يبقى هو نفسه من البداية الى النهاية. في"استحضار"، وهو نص نثري مشتّت على نحو غريب منحرف عن شكل القصة القصيرة الكلاسيكية الذي مارسه بافيزي بشكل عادي، ييأس الراوي لأن لا شيء يحدث. جالس في زاوية فارغة من بار، يحاول أن يملأ الصمت بصوت ترام بعيد. في آخر الأمر، يجلس قريباً منه شخص غريب، يريح مرفقه على الطاولة وفكّه على قبضة يده. يغدو الراوي مأخوذاً بمفاصل اصابعه – مَثَلٌ واحد فقط من الأمثلة التي لا تُحصى، في كل مكان من أعمال بافيزي، حيث كل تفصيل صغير جداً يكون مضخماً بشكل استحواذي ومتوقد. في قصائده، بالمثل، صوت أجش لامرأة بلا إسم، يبلور على نحو متواتر اللهفة والإستياء. حدّد الباحثون منذئذ، أن المرأة ذات الـ voce rauca هي الخطيبة التي قطعت علاقتها مع بافيزي بعد وقت قصير من خروجه من السجن. مهما تكن الأفكار المستوحاة من السيرة الذاتية التي يرتكز عليها هؤلاء، فإن تفاصيل مثل هذه هي تَرْبيت، كما ينصح بها فلاديمير نابوكوف مريديه، ولأسباب معينة تتعدّى مجرد براعة.
بالطبع، تعلّم بافيزي الكثير من التجريبية المتأصلة في الكتابة باللغة الانكليزية – ميزة بارزة لأدبنا، مع ذلك هو الأدب الذي يلجأ الى التحديدات الفلسفية المحتملة. كشخص ملمّ بالأدب والثقافة الاميركيين (كتب مقالة عن والت ويتمان)، كان قد ترجم مسبقاً رواية سنكلير لويس"صاحبنا مستر رن"، رواية هرمان ملفيل"موبي ديك"، رواية شروود اندرسون"ضحك كالبكاء"، رواية جون دوس باسوس"النظير الثاني والأربعين"، كذلك رواية جيمس جويس"صورة الفنان في شبابه"، نحو الزمن الذي صدرت فيه مجموعته الشعرية الأولى"Lavorare stanca""شغل شاق"أو"عمل منهِك"، المكرّسة لحياة قرية ونفيه عنها، كانت نُشِرت عام 1936. حوالي العام 1943، حين صدرت طبعة ثانية، منقّحة وموسّعة أكثر، لهذه المجموعة الرائدة، أنتج نسخا من رواية دانييل ديفو"مول فلاندرز"، تشارلز ديكنز"ديفيد كوبرفيلد"، غرترود شتاين"ثلاث حيوات"، وليم فوكنر"الهاملت"، وملفيل"بنيتو تشيرينو". لكن ماتعلمه من الأدب الانكلو – أميركي هو ربما لا ما نعتقده بالضبط نحن الانكلو – اميركيون.

عن مقدمة كتاب (مهنة العيش)
إصدار دار المدى