صفحة مطويّة من تأريخ التعليم في العراق.. عندما أصبح حكمت سليمان مديراً  للمعارف

صفحة مطويّة من تأريخ التعليم في العراق.. عندما أصبح حكمت سليمان مديراً للمعارف

د. عكاب يوسف الركابي
جاءت النقلة النوعية في حياة حكمت سليمان العملية، عندما تقلّد ثلاثة مناصب مهمة في آن واحد، ففي اواخر 1914، عيّن وكيلاً لمدير معارف بغداد، ثم أصبح، أصيلاً في السنة التي أعقبتها، ولا شك في أن اختياره لهذا المنصب المهم، في الأقل آنذاك، كان تقديراً لإمكاناته، فهو، ثالث مدير عراقي يُعيّن، بمنصب مدير معارف، كما أسندت إليه، وفي الوقت نفسه، مسؤولية رئاسة مجلس معارف بغداد، فضلاً عن إدارته لمدرسة الحقوق التي سبق الكلام عنها.

كانت مهمة مجلس المعارف في ولاية بغداد كبيرة، إذ كان عليه، واجب الإشراف على مدارس الولاية، وإدارة ومتابعة شؤونها، وكذلك، مناقشة أمور التعليم والخطط التي تكفّل حسن أدائه وتقدّمه، وإيجاد الحلول لمشاكله ومعوقاته، وعقد الاختبارات الخاصة لمن يتقدّم لإشغال وظائف التدريس بين الوظائف الرسمية، وكان المجلس يضم في عضويته، ستة أفراد، ثلاثة موظفين، والثلاثة الآخرين من، الشخصيات المحلية المرموقة تحت إشراف (رئيس).
لقد أبدى، حكمت سليمان، نشاطاً ملحوظاً في مهمته تلك، على أساس ما يتمتع به من نظرات في التعليم، وكذلك باستثمار خبرته المتراكمة، وعبّر عنها بقوله: ((… تبتعد المعارف عن الأهواء والأغراض السياسية ولا تتأثر بتأثراتها المتقلبة أو النزعات الضارة))، وكان جلّ اهتمامه، ينصبّ على، إنشاء المدارس، إلاّ أن التعليم - في ذلك الوقت – كان يفتقر الى أسس العمل الناجح، فالميزانية الخاصة بالتعليم كانت خاوية، ومؤسساته كانت، على درجة من ضعف التنظيم، اذ اقتصرت على شخص، مدير المعارف يعاونه باشكاتب (رئيس الكتاب)، واثنان من الكتّاب، فضلاً عن (فرّاش) لخدمتهم، اما عدد المدارس فكان محدوداً، وهو ما دفعه الى توفير مبلغ لم يتجاوز المئة ليرة، لغرض انشاء مدرسة ابتدائية في حي الفضل، احدى مناطق بغداد، برغم بعض العراقيل التي وضعت في طريق تنفيذ هذا المشروع.
وقد نجح حكمت، بجهوده الشخصية في تأمين الموارد المالية لتمشية أمور المعارف. ثمة قصة رواها حكمت سليمان بنفسه عن رشى رفضها الوالي جاويد باشا، وقدرها 4 آلاف ليرة ذهبية، إلاّ أن حكمت اقنعهُ بقبولها وتحويلها الى المعارف لبناء المدارس، وقد صرف هذا المبلغ في انشاء بنايات لبعض المدارس منها، مدرسة الاتحاد والترقي (المأمونية فيما بعد) ومدرسة الفضل ومدرسة تطبيقات دار المعلمين، إذ أن الحكومة، لم ترصد للمعارف خلال عام 1914، أية مبالغ مالية بسبب، ظروف الحرب العالمية الأولى، ودخول الدولة العثمانية فيها في 29 تشرين الأول 1914، فأخذ يوفّر الأموال للموازنة بين الفصول لتجميع المبالغ اللازمة للبناء والشراء، واستملاك الأراضي المخصّصة للمدارس، وقد أسفرت هذه الجهود – كما سبقت الإشارة – عن بناء مدرسة الفضل، وتشييد مدرسة ابتدائية أخرى، بالقرب من جامع الخاتون، وبناء مدرسة دار المعلمين الابتدائية، التي، فتحت بحضور الوالي، جاويد باشا، عام 1914، وبناء مدرسة المأمونية في ساحة الميدان في بغداد، بعد استحصال الموافقة على استملاك الأراضي اللازمة لها، لتصبح مدرسة كبيرة، فضلاً عن انشاء مدرسة الاتحاد والترقي في بغداد، التي فتحت في عام 1914، بحضور الوالي، جاويد باشا، ايضاً. إيماناً منه، بأهمية الترجمة في رفد المعرفة، بنى مقراً، للجنة التأليف والترجمة في بغداد.
واجهت، حكمت سليمان، الكثير من المصاعب والمشكلات في إدارته للمعارف، كما في مهمته في بناء المدارس، إلاّ أن كفاءته الإدارية وخبرته الشخصية جعلتاه، يتخطى الكثير منها. فحين شرع ببناء مدرسة الفضل، وجد أن نقل الطابوق من محلة الكاظمية الى مكان المدرسة عن طريق النهر، أمر غير ممكن، إذ أن رجال الجيش العثماني، كانوا يضعون أيديهم على الطابوق حتى ولو كان لأغراض حكومية، الأمر الذي استوجب إقناع والي بغداد، نور الدين بك، بأن الطابوق المقترح نقله، هو لبناء معهد يحمل اسمه، وبهذه الطريقة، صدرت أوامر الوالي، بعدم مصادرة الطابوق، إلاّ أن نقل الوالي نور الدين بك الى خارج العراق، جعل الجنود العثمانيين يعاودون، إجراءاتهم السابقة، مرة أخرى، في مصادرة الطابوق، الأمر الذي هدّد بالخطر إكمال بناء المدرسة الذي أوشك على الانتهاء. ولهذا فاتح، حكمت سليمان، القائد الألماني فون درغولنج، الذي تولّى القيادة العسكرية العثمانية في العراق، بصدد الأمر وعرض عليه، إطلاق اسمه على ذلك المشروع، الأمر الذي ازعج نائب الوالي العثماني، شفيق بك، فوجّه اللوم بشدة الى، حكمت سليمان، متسائلاً: ((هل يصح إيراد مثل هذا الأسلوب في المعاملات الرسمية))، وبأسلوب لا يخلو من الشجاعة، رد ّ عليه، حكمت سليمان، قائلاً: ((وهل مصادرة”الطابوق”من قبل رجال الجيش، تدخ، ضمن الأعمال الرسمية أيضاً؟!)).
اهتم، حكمت، بتعليم البنات، وفتح المدارس لهذا الغرض، إيماناً منه، بحق المرأة في التعليم، على الرغم من أن مشروعه هذا، واجهته بعض المصاعب في استملاك الأراضي المخصّصة للبناء، وعن تلك المصاعب، روى هو نفسه، أنه في أحد الأيام، استغل فرصة زيارة نائب والي بغداد، شفيق بك، الى إحدى المدارس وعندما أبدى الأخير، إعجابه بالأسلوب المتبع في التعليم، وشكر ادارة المعارف على هذا العمل، استغل هو هذا الموقف في لفت أنظار نائب الوالي، الى حرمان المدرسة من ساحات تستفيد منها الطلبة في تمضية أوقات فراغهم، الأمر الذي يتطلب استملاك بعض الأراضي المجاورة، فحصلت موافقة نائب الوالي على الاستملاك، وأضاف بأن هذا الأمر لم يرق، لأعضاء مجلس ولاية بغداد، الذين اتهموه بوضع اليد على أراض ٍ عائدة ٍ الى الدولة، وطالبوا بإحالته، الى المحاكم، لكن، تفهّم نائب الوالي للأمر وحصول موافقته المسبقة، أحبط الشكوى.
وعلّل، حكمت، موقف هؤلاء، بأنه ناجمٌ عن خشيتهم من أن تلك الأعمال، تثقل خزينة الولاية، فلا يبقى فيها ما يسدّ رواتبهم.
وبأسلوب لا يخلو من النكتة، ذكرت، صبيحة الشيخ داود، نقلاً عنه، ما نصّه: ((روى لي فخامة، حكمت سليمان، عندما تولّى إدارة معارف بغداد، أنه كان، في العراق، نظام متبع في المدارس الدينية، يقضي بأن يكون لكل أستاذٍ، عدد من المريدين، والتلاميذ، وأرادت إدارة المعارف، في ولاية بغداد، أن تخرج بأسلوب الحياة الخاصة للتلامذة من طور الجمود، الى دور آخر أكثر تناسقاً وانسجاماً مع مظاهر التعليم والعيش الكريم، فمنحت كل طالب، سريراً، وفراشاً، يغطيه قماشٌ أبيض نظيف الى جانب ما هيّأته لهم من وسائل، الراحة والنظافة، وحدث إن قام مفتي بغداد يومذاك، بزيارة الى المدرسة الدينية، فما كاد يرى ذلك، حتى اهتاج وقطع زيارته فجأةً، وتوعد إدارة المعارف بالويل والثبور، بدعوى أن تحصيل العلم، لا يتأتى في (الشراشف) البيض ولا في تمشيط الرؤوس، وإنما يجب أن يتم بالجلوس على الحجارة والإصغاء الى الدروس))، وأضافت في روايتها، بأن النكتة، حبكت لدى، حكمت سليمان، لهذه الثورة، فخاطب الوالي قائلاً: ((والي بك؟! افتى المفتي. فقم بإجراءاتك…!!)).
ولم يقتصر اهتمام، حكمت سليمان، على المدارس الحكومية التي كانت تعود الى إدارة المعارف، بل شمل نشاطه وزياراته، المدارس الأهلية والخصوصية، ففي احدى زياراته الى، مدرسة الاليانس اليهودية، الخاصة بتعليم الفتيات وإعدادهن روحياً وعقلياً، أعجب بها واندفع – فيما بعد – الى انشاء، مدرسة الخاتونية في بغداد، وهي أوّل مدرسة إعدادية للبنات فُتحت في ذلك الوقت.
ثمة قصة أخرى رواها، ميربصري، عن حكمت سليمان، إذ ذكر أنه ((حدثت لحكمت سليمان عندما كان وزيراً لمعارف بغداد قصة، حيث وسّطه بعض الوجهاء في أمر ٍ، وعرضوا عليه مبلغ (500) خمسمئة ليرة ذهب، فقضى حاجتهم وقال لهم: أنا لا اقبل المبلغ لنفسي، فهل ترضون بالتبرع به للمدارس، قالوا: أجل. فأخذ حكمت المبلغ الى الوالي وقال إن هؤلاء يتبرعون بمبلغ (500) ليرة ذهب للمعارف. فشكره الوالي وأثنى على صنيعته)). ظل حكمت سليمان حريصاً على نشاطه هذا بشكل طبيعي حتى 11 آذار 1917، حين احتلّ البريطانيون بغداد.

عن رسالة (حكمت سليمان ودوره...)