حميد المطبعي وجيل ردّ الكلمة

حميد المطبعي وجيل ردّ الكلمة

شجاع العاني
حميد المطبعي، رجل عصامي الثقافة حصل على ثقافته بنفسه وعن طريق بيئته، من دون أن يحصل على شهادات عليا من جامعة أو كلية وربما كان عمله في الطباعة أحد العوامل الكبيرة في تحصيله المعرفي. وقد أصدر المطبعي ما دعي فيما بعد بمجلة الكلمة، برغم أنها منشور دوري كان يصدر في حلقات. وبرغم أن الرجل لم يكن من ذوي المال يساعده ولا النفوذ السياسي،

فإنه شقّ طريقه وكذلك مجلته وسط صعاب عدّة بفعل اصراره على المضي في مشروعه الثقافي. لقد كانت مجلات وزارة الاعلام آنذاك، حكراً على الأقلام التقليدية وبعيدة كل البعد عن الأدب الحديث، ومن هنا جاءت الكلمة في مرحلة كان الادباء الشباب أحوج ما يكونون الى مطبوع يعنى بإبداعهم الادبي والنقدي، فوجد هؤلاء الأدباء في الكلمة ما يلبي طموحهم الى النشر والتعريف بنتاجاتهم، وقد ساعد المجلة على الانتشار وحرص صاحبها حميد المطبعي، على ايصالها الى اماكن بعيدة عن العراق، فقد كانت تصل لندن وموسكو والقاهرة، وكان الذين يكتبون فيها أعضاء اتصال مع القرّاء. بسبب حرصهم على نجاحها وتطورها، وما زلت اذكر كيف كنت أوصل المجلة الى جيل الستينيات من الأدباء المصريين، وأنا على ثقة أن مجلة (كاليري 68) التي أصدرها الأديب المصري ابراهيم منصور، والتف حولها معظم الكتاب والشعراء الشبّان، مثل ابراهيم أصلان وجميل عطية ويحيى الطاهر عبد الله وابراهيم بوسنة وغيرهم، صدرت بتأثير من مجلة الكلمة العراقية. وما زلت اذكر كيف احمل الى صديقي صبري حافظ اعداد المجلة وأطلب منه كتابة نقود على قصص بعض هذه الأعداد، وما زلت أذكر ايضاً أن المستشرق الانكليزي الذي ترجم قصة يحيى الطاهر عبد الله (جبل الشاي الأخضر) الى الانكليزية، جاء يطلب مني ايصال اعداد مجلة الكلمة إليه.
والى جانب الظروف المالية الصعبة التي عانتها المجلة، فإنها كانت ملاحقة من دوائر الأمن التي وضعتها نصب عينيها برغم الحرية النسبية التي نستشعرها في ظل حكم المرحوم عبد الرحمن عارف، الذي ساعد المجلة مالياً حين قصده المطبعي. وما زلت أذكر كيف اوقفت الشرطة أو دوائر الأمن المجلة عندما نشر برهان الخطيب، فيها قصة تصور ضابط شرطة مرتشٍ يعتاش على دماء مومس بأن يتلقى منها الرشى ليسمح بممارسة عملها.
وبي رغبة شديدة أن أروي واقعة جرت لنا أنا وحميد المطبعي والمرحوم عبد الأمير معلة، فلقد دخل المطبعي علينا في مقهى البرلمان مقابل جامع الحيدر خانة، وهو يحمل دورة كاملة من المجلة كان قد جلدها، وراح يجلدنا بسياطه، قائلاً إن الشرطة اوقفت المجلة وإنكم لا تساعدوني وأنا أعمل وحدي.. إلخ، فقمنا نحن الثلاثة وأجرّنا"تاكسي"وحين سألنا الى أين، قلنا له إلى القصر الجمهوري. وبعد دقائق دخلنا القصر الجمهوري وتوقف التاكسي على مقربة من مكتب الرئيس عبد الرحمن عارف، ودخلنا نحن الثلاثة على رجل عسكري يحمل رتبة لواء كما أذكر وطلبنا مقابلة الرئيس، وحاول أن يبعدنا عن المقابلة قائلاً إن المسألة الأمنية ليست من اختصاصات الرئيس، فقدّم له المطبعي دورة كاملة من المجلة كتب عليها إهداءً له مصرّاً ونحن معه على مقابلة الرئيس، فأخذ السكرتير عنوان إقامتنا وأرقام هواتفنا ووعدنا بالاتصال بنا لغرض المقابلة. كان هذا في حزيران من عام 1968. وقد وقع انقلاب عسكري أطاح بعارف بعد أيام من طلبنا للمقابلة. ولست ادري لماذا انساق الى تذكّر أن رئيس الوزراء في زمن عارف المرحوم عبد الرحمن البزاز، العميد الأسبق لكلية الحقوق، شرّع قانوناً لمنع الضوضاء يمنع استخدام مكبّرات الصوت وزمور السيارة بعد التاسعة مساءً، كأني اترحم على زمن للسعادة والبراءة لن يعود ابداً.
كتب ونشر في مجلة الكلمة معظم جيل الستينيات من شعراء وقصاصين ونقّاد، بل إن المجلة بلورت وساعدت في نشوء هذا الجيل وتطوره بحيث يمكن أن يدعى (جيل الكلمة) وما ان رأى ابناء الاجيال السابقة من الأدباء نجاح المجلة واستمرارها حتى اقدموا على النشر فيها. وهكذا فإن اسماء شعراء وكتاب كبار كالبياتي ونجيب المانع وآخرين، راحوا ينشرون في الكلمة لتصبح مجلة كل الأدباء العراقيين وليست خاصة بجيل واحد.
لقد دعيت هذه الموجة من الادباء أو ما احدثه الجيل بالموجة الصاخبة تارةً وبالروح الحيّة تارةً أخرى، لكن من المؤكد أن ثمة مولداً كبيراً أوجده الستينيون شعراء وقصاصون ونقّاد، وكانت مجلة الكلمة اكثر من سلك في هذا المولد الكبير، الذي وضع لبنات أساسية في حركة الأدب الحديث ونقده، بعد جيل الرواد من الشعراء الذين كتبوا القصيدة الحرة أو الجيدة، وربما كانت اكثر هذه اللبنات اهمية هي ظهور مجموعة من النقّاد المتخصصين في الشعر والقصة، بعد أن كان النقد في الخمسينيات مجرد محاولات بسيطة غالباً ما تجود بها أقلام الأدباء أنفسهم.
لم يقتصر جهد المطبعي على اصدار مجلة الكلمة، بل أسهم هو أيضاً في حركة الأدب والنقد، فأصدر مجموعة من السير الأدبية لأدباء عراقيين مالئاً بذلك فراغاً معرفياً لا يُستهان به.
وإذ نستذكر مجلة الكلمة وجيل الكلمة، فإننا نحيّي المطبعي الذي أصدر هذه المجلة، ونتمنى له الشفاء العاجل والعمر المديد والعطاء المزدهر، كما نحيّي كل اولئك الأدباء الذين كان لهم الدور في دعم هذه المجلة والمساهمة في ازدهارها وتطورها.