عندما توفي كامل الجادرجي

عندما توفي كامل الجادرجي

بلقيس شرارة
توالت نوبات القلب على أبي رفعة بعد أن أكمل العقد السابع من عمره، كانت تقعده في بعض الأحيان عن العمل لمدة طويلة. كنت أزوره أحياناً في غرفة نومه قبل الظهر، أو كان يبعث عليّ، فأجلس بجانب سريره، أصغي إلى أحاديثه، أشاركه أحياناً الحديث إن كان متعباً لا طاقة له حتى على الحديث.

كان معجباً بالكاتب الأمريكي همنغواي، و أعتبر انتحاره جرأة و شجاعة، فلم يترك المرض يهيمن عليه ليصبح مقعداً و عالةً على الآخرين، و كان في أعماقه خائفاً من الإصابة بنوبة قلبية تقعده عن العمل، و يصبح متكلاً في حياته اليومية على الآخرين، و هو الرجل النشط الذي لا يمكن أن يطيق العيش على هامش الحياة.
لم يمض وقت طويل على تلك النوبات المتسارعة، حتى قضى نحبه. كنت مساء ذلك اليوم في دار والدتي، تساعدني على خياطة فستان، للسهرة التي كانت ستقام تلك الليلة في الجمعية البغدادية.
فوجئت بالسائق حسين عندما طرق باب الدار، قائلا: « رفعة يكول لازم تجين للبيت (يقول رفعة يجب أن تعودي للدار)! كان حسين قلقاً، و لكنه ظل يردد عندما ركبت السيارة و جلست بجانبه، «ألبيك يبين مو زين/ يظهر أن صحة البيك غير جيدة». حاولت أن أحصل على إجابة صريحة منه و لكنه كان يتهرب دائماً.
وصلت الدار، فوجدت رفعة في المجاز، بيده سماعة التلفون، أصابعه تدير الأرقام، و أم رفعة في غرفة الضيوف و الدموع تنساب من عينيها. كانت الحركة غير طبيعية في الدار، عندما اتجهت نحو غرفة نوم أبو رفعة، فاجأني رفعة قائلا: «بابا مات»! كان خبر وفاته كالصاعقة، ظلت تطن في أذني «بابا مات، مات!».
ذهبت إلى غرفة نومه و رجع أصداء كلمات رفعة تطن في أذني! كان مغطى بغطاء فراشه السماوي اللون من رأسه إلى أخمص قدميه. وقفت وقفة حزن و أسى على فقدانه، كانت الغرفة فارغة، إلا من ضوء خافت باهت. ذابت كلمات رفعة و تلاشت عندما تقربت من فراشه، ثم عادت تطن في أذني « بابا مات! مات!» رجعت إلى الخلف و ترددت في أن أرفع الغطاء و أرى وجهه الجامد بلا حياة أو حركة. تركت الغرفة حالاً، لا أريد أن تبقى صورته ميتاً راسخة في ذهني، بل كنت أود أن تبقى صورته و هو حي أمامي، صورة النشاط و الحيوية التي اعتدت عليها منذ لقائي به لأول مرة قبل أربعة عشر عاماً في غرفته قرب المدفأة.
بدأ الأصدقاء و الأقرباء يصلون، الوجوه مكفهرة، متجهمة و عابسة. وقف الرجال في شرفة الدار، و داخل المجاز، و اتجهت النسوة إلى غرفة أم رفعة. تتكرر الأسئلة عما حدث؟
أصابته النوبة القلبية أثناء اجتماعه مع بعض أعضاء الحزب، و لم يستطع أن ينقذ نفسه كما كان ينقذها في السابق في مثل هذه الحالات.
وضع جثمانه في النعش الخشبي، و نقل إلى غرفة الطعام بعد أن أفرغت من أثاثها. وضع النعش على السجادة الإيرانية التي تغطي الغرفة، و جلسنا حوله، نودعه بدموعنا.
مرت الساعات و نحن جالسون حول النعش، تفرق الأهل و الأصدقاء و الجيران، و ذهبوا إلى دورهم، و بقيتُ جالسة مع أم رفعة و أبنته أمينة حول التابوت معظم الليل. ظلت تنساب دموع أم رفعة من عينيها، تخرج الكلمات الحزينة كآهات من أعماقها تارة، و تخبط ركبتيها أحياناً. فاحترامها لزوجها كان يصل إلى درجة التقديس. كانت هنالك طقوساً معينة بينها و بينه. لا تناديه بأبي رفعة و لم أسمعها تلفظ اسمه، فهو «بابا» إن تكلمت مع أولادها، و «عمو» إن تكلمت معي، و «البيك» إن تكلمت مع الطباخ أو المعينين في الدار. و لكن تختفي الطقوس و تزول الرسمانية المهيمنة في الدار، عندما يخاطبها أبو رفعة، فيناديها «منيبة».
جلستْ بجانبي أمينة، تنساب دموعها بصمت. نظرت إلى نعشه المغطى بغطاء الموت الذي جلب من الحضرة الكيلانية، و سرى صوته بأذني، أحاديثه المتنوعة، ضحكاته، سخريته، نقده اللاذع، و ألمه العميق مما وصل إليه الوضع من التردي في العراق!
حدقت بنعشه المغطى بستارة الموت، و تراءت صورته أمامي في الحديقة و الكاميرا بيده، يلتقط الصور، غرفة التحميض التي يقضي فيها ساعات العصر يوم السبت غالباً، و القطط السائبة التي كانت تلتف حول عشائه في الحديقة في أيام قيض بغداد، وغرفته التي لم تخلو من الناس، بآرائهم و معتقداتهم المختلفة، من جميع شرائح المجتمع العراقي. أكوام من الصور عششت في ذهني، و بدأت تطفو فوق بعضها عندما كنت جالسة أمام نعشه.
ارتدت أم رفعة لون الحداد، و ارتدى الجميع اللون الأسود، و تجمعت حشود الناس من جميع فئات المجتمع في صباح ذلك اليوم المصادف1 شباط 1968. امتلأت الدار و الحديقة و الشارع بالمعزين، تركنا الدار للرجال، و انتقلنا لدار ابنه نصير. فرشت الأرض بالسجاد و المساند و الفرش، و امتلأت دار نصير صباحاً بالنساء من الأقارب و الجيران و الأصدقاء.
و علت الأصوات فجأة و خرجت أم رفعة إلى الشارع تجهش بالبكاء، و خرجنا معها، محاولين تهدئتها، عندما رفع النعش و وضع على ظهر سيارة مفتوحة « تنتة»، و سار في الصف الأول خلف الجنازة أولاده و الأصدقاء و أعضاء لجان الحزب الوطني الديمقراطي.
كان يود رفعة أن يصور موكب الجنازة، عندما نقل النعش إلى الحضرة الكيلانية، و لكن امتنع عن القيام بذلك، لأن المجتمع لا ينظر للتصوير الفوتغرافي بأنه توثيق، بل هو مخصص لمناسبات الفرح فقط.
ظلت عيوني تتابع موكب الجنازة حتى اختفت من شارع طه و غابت عن ناظري، الشارع الذي قضى أبو رفعة فيه ثلث عمره.
ارتفعت الأصوات بالبكاء و النحيب في مأتم النساء في دار نصير، و طبقت جميع شعائر الحزن في وفاته، و شملت شعائر الشيعة الغريبة عن عائلة الجادرجي. لأن الجادرجي كإنسان علماني كان رمزاً لكثير من الناس. يحبه و يعتز به بعض شرائح الشعب العراقي، بقومياته المختلفة و طوائفه المتعددة.
جلبتْ بعض النسوة بصحبتهن «الُملاية» لقراءة القرآن و الأدعية. تقف و المصحف بيدها تقرأ بأعلى صوتها و تخبطه بيديها بإيقاع حزين، ثم تقف بجانبها بعض النسوة على شكل دائري، و يطلبن من أم رفعة أن تشاركهن، فتقف معهن و دموعها تنساب من عينيها، يبدأن باللطم على الوجوه و الصدور، مرددات خلف الملايّة أصوات مبحوحة « أحا، أحا». كانت من جهة أم رفعة حزينة على زوجها، و من جهة أخرى مضطرة أن تجاري التقاليد الغريبة عن ممارستها و محيطها.

عاد قارئ القرآن إلى التلاوة بعد فاصل المُلاية، توقف الهمس و ساد الصمت، عيون دامعة و عيون منكسة، و عيون محدقة بالوجوه التي تتغير أثناء قراءة القرآن. يتوقف القارئ و تقدم القهوة العربية المرة و الماء و السجائر. ترتفع الهمسات و وشوشة الحديث، و يعود البكاء و النحيب كلما دخلت امرأة لمواساة أم رفعة.
كانت «المُلاية» تترك الدار مع النسوة التي جاءت بصحبتهن، ثم يأتي فوج جديد مع «مُلاية» جديدة، و يعاد الفصل ثانية، كما تعاد التراجيديا كل ليلة على خشبة المسرح.
سبعة أيام، امتزج الصباح بالمساء، و نحن في دوامة من النواح و النحيب و البكاء المتواصل. زرافات من النسوة، متلفعات بالعباءات أو مرتديات ملابس الحداد من الجيران و الأقارب و الأصدقاء و المعارف، اللون الأسود بأشكاله و أنواعه المختلفة، صوف و حرير و جلد بلمعة و بلا لمعة، ساد أجوائنا.
* * *

لم تهدأ الدار أو يخيم عليها الصمت بعد تشييع الجنازة، و لكن علت أصوات الرجال و هم يتولون تنظيف و إعادة فرش غرفه، لكي يستقبل أكبر عدد ممكن من الناس القادمين من سائر أنحاء العراق خلال إقامة الفاتحة لمدة ثلاثة أيام.
المطبخ في حركة دائمة، نقلت المواد الغذائية بأنواعها و كمياتها الهائلة، و سلمت للطباخ”فرج”الذي جلب معه طباخين ماهرين هما رشيد و جعفر. ارتفعت أصواتهم بالتعليمات لمساعديهم في فتح علب الدهن و أكياس الرز و الطحين و تقشير البصل و الخضروات و رق العجين لعمل الفطائر، و امتزجت أصوات القدور و الملاعق بالبخار المتصاعد بنكهة الطعام. لم تكفِ ساحة المطبخ لتحضير الطعام فيه، فاستعملت الحديقة الخاصة بالمطبخ لشوي الخراف التي ذبحت منذ الصباح، و طبخ الرز، و انتشرت القدور الكبيرة و غطت مساحة حديقة المطبخ.
أقيم طعام الغداء لمدة ثلاثة أيام فاتحة الرجال، و للنساء في اليوم السابع، معلنا انتهاء الأسبوع الأول من فراق أبو رفعة لنا. فخف البكاء، و جفت الدموع تدريجياً، إلا دموع أم رفعة التي ظلت تنساب من عينيها المحمرتين لمدة طويلة من الزمن.
و استمرت النسوة في زيارة أم رفعة عصر الاثنين و الخميس، فكان القارئ يبدأ بقراءة القرآن و لا ينتهي قبل صلاة العشاء، و انتهى مأتم الأربعين كما انتهى مأتم الأسبوع. فمدت سُفرة فخمة، أنيقة على خوان في أرض غرفة الاستقبال، و هي المرة الأولى التي يمارس فيها هذا الطقس، و شملت جميع المآكل المتوفرة في الشتاء آنذاك، و أثبت الطباخ فرج و مساعده جعفر مهارتهما ثانية، في دقة الطبخ.

عن كتاب ( هكذا مرت الايام)