سانحة أمين زكي..  ولو كان النِّساء كمن فقدنا !

سانحة أمين زكي.. ولو كان النِّساء كمن فقدنا !

رشيد الخيُّون
عاصرت الطَّبيبة والمثقفة الموصلية سانحة أمين زكي(1920-2017) عهود الدَّولة العراقية الحديثة كافة؛ ولدت بولادتها وشبت بفتوتها، وساهمت ببعث روح المدنية في نسائها، وعاشت لتشهد احتضارها. نقول احتضارها، فالموصل، حيث رات سانحة النُّور، لم تبق منها بقية يعتشى بها، وبغداد التي تعلمت في ثانويتها وكلية الطب وعَلمت الطَّب، أطلال خاوية، كلُّ جماعة تريد الانفصال والطَّلاق مِنها، وكأنها اغتصب الجميع. جردت الطَّوائف السّيوف، ضد بعضها بعضاً، والنِّبال موجهة إلى الصُّدور.

فما بين موصل سانحة أمين زكي وموصل داعش دهر سحيق، فبين إصرار ذلك الجيل على عراقية الموصل وخرابها اليوم تحطمت العزائم وخابت الأحلام.
معنى أن تتخرج طبيبتان شقيقتان، سانحة ولمعان، مِن بيت واحد، وفي أربعينيات القرن العشرين، أن الزَّمن كان ينطلق إلى الأمام، وأن بدن العِراق أخذ بالمعافاة. لم تكتفِ سانحة بالطب وعِلم الأدوية، إنما كانت قضيتها انتشال بنات جنسها مما هنَّ فيه مِن بقايا العصور الظَّلامية، فدخلت جمعيات وبادرت مبادرات تنويرية، بلا حاجة للانتظام في أحزاب سياسية. لم تفقد سانحة، بين ارتدائها العباءة وخلعها، التزامها الاجتماعي، ولم تحقق للمتزمتين آنذاك غايتهم، لتأكيد أن الحجاب هو الصَّائن الوحيد للمرأة.
دخلت كلية الطّب، محققة رغبة والدها، لتكون أول طالبة مسلمة فيها، وتلك لحظة فاصلة، ليس في حياتها إنما في حياة العراقيات المسلمات جميعاً، أن تكون فتاة، وبهذا الجمال والكمال والرِّقة والعفة، بين الشّبان، في زمن ليس للفتاة إلا الدار وستر زوجها لها. لنَّا أن نصف إقدامها واضطرابها كحالة أول فتاة سوداء تحدت التفرقة العنصرية الرَّهيبة، ودخلت الجامعة أسوة بالبيض، ربَّما كان هذا الإحساس في داخلها، لكن لم يكن شباب العراق آنذاك بهمجية التفرقة العنصرية الأمريكية، غير أن هيبة الفتاة من مجتمع الذُّكور، ووفق ثقافة القرون الخوالي، قد يساوى بين شعور سانحة وشعور دورثي كاونتس، ففضل الشجاعة في الإقدام والاقتحام، على حد عبارة نُصيب الأكبر(ت108هـ):"ولكنْ بكت قبلي فهيَّج لي البُكا/بُكاها فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمِ»(الجاحظ، كتاب الحيوان). هذا، وكان الزَّمن يسير لصالح سانحة العراق.
كم حجم الفاجعة عندما تتوجه عِراقيات، ما بعد (2003)، وفق توجهات الأحزاب الدِّينية في احتجاجهنَّ على قانون"الأحوال الشَّخصية(1959)، وينقضنَّ ما فعلته تلك الطبيبة وزميلاتها مِن أجل النِّساء، وتكون المفارقة أكثر فجيعة عندما تهب نائبة برلمان عراقية وتطالب، بلا وجل، بتشريع تعدد الزَّوجات، ومنح المتزوجين حوافز لتشجع الخيبة، أن تخرج وزير المرأة على شاشة التلفزيون وتنصح بطاعة الزوج، وأنها لا تخرج من الدار إلى الدوام الرسمي، وهي وزيرة، إلا بإذن زوجها، فهذا الحق الشرعي عليها، ولا ندري بماذا ستجيب الوزيرة إذا سُئلت: وماذا لو تعرضت البلاد لطارئ، وحتم عقد جلسة لمجلس الوزراء، ورفض زوجك الخروج؟! كلما تحدث نائبة من نائبات مجلس النواب، ومنهنَّ النوائب لا النائبات، تُفقد وجوه وأرواح كوجه وروح سانحة أمين زكي.
لا ندري، هل العيب في النَّاس أم في الأزمنة؟! أن تنطلق المرأة العراقية، لتكون أول طبيبة وأول وزيرة وأول قاضية وأول محامية، في مجتمع كان التخلف يكاد يطبق عليه، بينما تهبط مطالبات نساء البرلمان إلى مستوى إلغاء قانون"الأحوال الشَّخصية»، وصرف حوافز للمتزوجين بأكثر مِن امرأة؟ هل الزَّمن بريء، والمشكلة في النَّاس، لكن مَن يُشكل ويُحدد طابع الزَّمن؟ يُنسب للإمام الشَّافعي(ت204هـ):"نُعيب زماننا والعَيبُ فيَّنا/وما لزماننا عيبُ سوانا/ونهجو ذا الزَّمان بغير ذَنبٍ/ولو نطق الزَّمان لنَّا هجانا»(الدِّيوان).
نشأت الطبيبتان سانحة ولمعان أمين زكي، في أسرة متنورة، نظر ربَّها النُّور مِن دياجير السيطرة العثمانية؛ ليسمح لبناته في الدراسة، ويدفعهما ليكونا طبيبتان، ومِن الطفولة يحضرا المسرح، حسب مواصفات تلك الأيام، وأن يتغربا للدراسة، ليبدأ التَّحرر من براثن الماضي تدريجياً، وتتشكل عائلة مهابة برُقيّها وتحضرها، من بنين وبنات، خدم أفرادها العِراق، ولم تخل مِن التأثر بأفكار اليسار، فكان آنذاك فكراً طموحاً في الساحة العراقية.
فكان الشَّقيق خلوق أمين زكي، ما أن يخرج مِن سجن ليدخل آخر، ذلك الشَّاب الوسيم المهيب القامة، نأت به الأيام وبشقتيه ليكونوا خارج العراق، حظيت بلقائه أكثر مِن مرة، ولكن بعد أن خفتت الثَّورة في جوارحه، محاولاً ما فاته مِن الإطلاع على أدب وفكر الأولين، فكان يحدثني عن المعتزلة، حاملاً ما أكتبه، في وسط التسعينات في جريدة"الحياة»، لناقشني به، وقد سمعتُ منه: أن الأيام مضت، ولم يسعفه للإطلاع على هذا الركام مِن التُّراث. كان اسماً على مسمى خلوقاً، أما الشقيقة لمعان أمين زكي وزوجها الطبيب المتمرس وابن الطبيب سالم الدملوجي فأُبعدا كطبيبين وأستاذين مِن مدينة الطب، في الحملة ضد أبرز الأطباء العراقيين(19 تشرين الثَّاني 1979) آنذاك، بعد تنحي أحمد حسن البكر(ت1982)، وتولي صدام حسين الرئاسة، والتي عُرفت بمجزرة مدينة الطِّب(انظر: فرحان باقر، حكيم الحُكام من قاسم إلى صدام).
عاشت سانحة بلقيس (وهذا اسمها المركب) سبعة وتسعين عاماً، لكن ما قدمته لصحة أبدان العراقيين يُعادل مئات السنين، فكانت الطَّبيبة والأستاذة في كلية الطّب، يوم كانت شهادة كلية طب بغداد ثقة جامعات العالم. درست علم الأدوية، وكم مِن طبيب تعلم وبرز مِن تحت يدها.
أكدت سانحة بعلمها وحضورها، مع زميلات عصرها، أن العراقية كاملة العقل، وقد فعلت حسناً، ولم تقعدها الشَّيخوخة، عن كتابة مذكراتها"مذكرات طبيبة»، فهي شاهدة على عصر مثمرٍ بنسائه ورجاله. ليتني عرفت بشعور الطبيبة سانحة وهي تشاهد خيبات برلمانيات هذا الزمان، اللواتي لم يلدنَّ بعد، يوم كانت أستاذة في كلية الطَّب، والعذر أن الزَّمان خذلهنَّ. لم يخطأ المتنبي(اغتيل354هـ)، في حالة جيل سانحة ولمعان مِن العراقيات، قياساً مِن بخيبة رجال تولوا أمر العِراق، وأخذوا يهدون ما بنته سانحة وجيلها، حين قال:"ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا/لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ»(الدِّيوان/ نعد المشرفية والعوالي).