البحث عن رشيد  القندرجي وتسجيلاته..

البحث عن رشيد القندرجي وتسجيلاته..

حسين الاعظمي
هناك مصدران مهمان لمعرفة زمن و مكان ولادة القندرجي , الاول لجلال الحنفي في كتابه المغنون البغداديون المنشور مضمونه في الثلاثينات والمطـبوع في كتاب عام 1964 , والثاني للحاج هاشم محمد الرجب في كتابه المقام العراقي الصادرعام 1961 وكلا المصدرين مهمان فعلا , ويحتاج الامر الى البحث عن ايهما ادق في ذكر المـعلومة ,

فالاول يذكر ان رشيد قد ولد في بغداد محلة سبع ابكار سنة 1312 هـ في حين ان المصدر الثــاني يذكر انه ولد في بغداد محلة العوينة سنة 1304 هـ وبما ان المصادر الاخرى بكثرتها متفقة تقريبا على ان رشيد ولد عام 1886 م، فاذا صح هذا القول، فهذا يعني ان ولادة رشيد بالتقويم الهجري على ما جاء في كتاب الرجب 1304 هـ اما بالنسبة لمكان المحلة التي ولد فيها فيحتاج الامر الى تأكيد الاصح منهما..
على كل حال.. ولد رشيد بن حبيب بن حسن القندرجي من ابوين فقيرين، وبسبب الفقر لم يدخل الى المدرسة ليتعلم فبقي اميَّاً، وانصرف منذ صغره الى الاعمال الحرة، فتعلَّم صناعة الاحذية في احد المعامل البغدادية وسار لقبه من هذه المهنة.. نشأ وهو يحب الغناء حتى جالس كبار المغنين يسمع منهم، فتُلمذَ على يد المطرب الكبير احمد الزيدان مؤسس الطريقة الزيدانية، ولازمه حتى وفاته واخذ عنه الغناء حتى قال له يوما (انت خليفتي من بعدي) فكان له ذلك.. لقد وهبت له الطبيعة نفْساً طروبا تميل الى السرور والمرح غير انه اصيب في بادىء نشأته بما عكَّر صفاء تلك النفس، اذ كان يرى امامه امَّاً حزينة اثقلها الدهر بنكباته فتستسلم يوميا للبكاء امام الفاقة والعوز اللذين احاطا بهما.. وكان رشيد طيب القلب شديد الحب لها وبذلك حرم من سعادة الطفولة.. ومع ذلك فقد قضى الشطر الاول من حياته وهو ينتقي درر الانغام، ونتيجة لظروفه لم يفكر بالزواج وبقي اعزبا طيلة حياته..
كان رشيد القندرجي سريع الطرب لا يقل طربه اثناء حضوره على المسرح عن طرب السامع، وهو اول مغن عراقي بعد استاذه احمد الزيدان تنبه الى واجبات الايماء وحركات الغناء بالاشارات، وعلى هذا بقي يرفل في ثياب الانس والفرح ليلهِ كنهارهِ ونهارهِ كليلهِ يشنف آذان السامعين بلآليء غنائه الى ان دعته الحكومة ليكون خبيرا فنيا في دار الاذاعة اللاسلكية العراقية فقام بواجبه الفني خير قيام حتى وافاه الاجل في الثامن من اذار عام 1945م الموافق 8/ صفر 1362هـ.

التسجيلات الصوتية لرشيد القندرجي
كان من الممكن الاستفادة بصورة كبيرة من تسجيلات رشيد القندرجي الصوتية التي غنَّى فيها الكثير من المقامات العراقية من الناحية الجمالية التي اضفى عليها القندرجي ذوقا رفيعا في صياغتها، إلا أن هذه التسجيلات كما مرَّ بنا , كانت قد سجلت في فترة كان رشيد على غير ما يرام.. ان موضوعاتها الجمالية والذوقية عموما غير معقدة حتى تتكشف وتتضح من خلال
الاسلوب والتركيب واداء الاصول التـــقليدية المتبعة توارثا، ومن ثم انماء العمل الادائي كعمل فني موحد..
فرشيد يمتلك القدرة على تهيئة صوته لغناء اصعب المقامات مثل قدرته على عرضها، وهكذا نستمع الى مقاماته بشغف لأنها تجسيدا لحبكة ادائية ناجحة جمع فيها القندرجي كل مواد عمله وصياغتها بصورة فنية مثيرة ولنستمع اليه في مقام العجم عشيران بقصيدة أبي نؤاس..
دع عنك لومي فإن اللوم اغـــــراء
وداوني بالتي كانت هي الـــــداء
ورغم ان حالة الغموض في بعض تسجيلاته موجودة لاسباب سبق ان تحدثنا عنها، إلا أننا ندرك بأن هناك صورا محسوسة استطاع القندرجي ان يعبِّر عنها كمطرب معاصر لحقبته الزمنية.. ومثال على ذلك مقام الابراهيمي ومقام النوى ومقامي العريبــون ومقام السيكاه.. الخ هذه المقامات التي توصف بالقوة في هذه النواحي.. ان نجاح هذه المقامات المسجلة بصوت رشيد القندرجي تبدو اول كل شيء في صياغتها الاحترافية المتناهية الدقة في ضبط اصول هذه المقامات في عناصرها التقليدية..
ان المقامات التي يغنيها رشيد القندرجي والاسلوب الذي يعبِّر به، فيه الكثير من الاشارة الى المسؤولية التي تحملها رشيد القندرجي في توصيل هذا التراث الغناسيقي العريق الى اللاحقين، فهذا التراث قبل كل شيء، حصيلة محيط بيئي.. وتاريخ شعب باكمله.. كذلك فإن نتاج فنان فرد كرشيد القندرجي او غيره مهما كانت قيمة هذا النتاج الفني، ليس الى درجة كبيرة ناتجا عن امكانية ذلك الفنان الفرد او ثقافته بمقدار ما هو ناتج عن امكانية وثقافة المجتمع ككل، لأن الفرد نتاج المجتمع، وهو جزء منه ويعبِّر عنه، فالنتاجات الفنية عموما وخاصة التراثية منها، باعتبارها تعبير حقيقي عن المجموع، او أي جانب آخر في الحياة، هي اشبه بتقرير يكشف عن امكانيات المجتمع من شتى هذه المجالات ومنها الموسيقى والغناء.. ان اهمية مثل هذا القول بالنسبة لنا، هو ان رشيد القندرجي كان يرى الحياة بسيطة جدا كما يبدو.. لذلك فإنه طبعا، يرى قلَّة الحاجة الى الابداعات الفنية التي يمكن الافادة منها كثقافة جديدة من خارج حدود الوطن، وظل معتمدا في ابداعاته الادائية على الخزائن اللحنية الموجودة في كيان المقام العراقي عبر تاريخه الطويل، والامر يبقى شبه طبيعي، لكون تطور اجهزة الاتصال والنشر والحفظ لازالت في بداياتها زمنذاك، فعموم البيئات شبه مغلقة على نفسها وداخل محيطها، ترافقها ثقافة تماثلها.. لذا فإن اساليب وتعابير رشيد القندرجي كانت بمعنى حقيقي جدا..
فاستمع عزيزي القارئ الى هذه القــصيدة التي غناها القندرجي بمقام الطاهر لأبي فراس الحمداني..
أراك عصي الدمع شيمتـك iiالصبـر أمـا للهوى نهـي عليـك ولا أمـر
تمتع رشيد القندرجي كما تمتع احمد الزيدان من قبل , بفترة نجاح محترمة منذ السنوات الاولى لهذا القرن، باعتباره رمز عصرها، مما ساعد ذلك على ارساء دعائم روح جديدة وديناميكية منوعة للطرق القديمة التي جسدها في غنائه بصورة جديدة.. وقد مهَّدَ ذلك السبيل ايضا لنجاحات طيبة لمغنين ذوي مواهب صوتية ساروا على طريقتة التي صاغها بدقة ورسوخ تفوق فيها فنيا على مغني عصره، مما لا ريب فيه ان هذا المستوى الغنائي، هو الذي اوصله كمغني للمقامات الى قمة العطاء والنجاح.
عن كتاب (الطريقة القندرجية)