معنى عبد الملك نوري في القصة العراقية

معنى عبد الملك نوري في القصة العراقية

د.علي جواد الطاهر
اول معنى لعبد الملك نوري،يتبادر الى الذهن ، مكانته في الريادة الفنية للقصة العراقية وقد صارت له تلك المكانة حقاً مكتسباً لا يناقش فيه اثنان. فقد كان يذكره معاصروه بالخير والتقدير وكأنه العلم البارز، وظلوا يذكرونه كذلك ، وتابعهم معاصرون

لهم وتابعون للمعاصرين فدخل تاريخ القصة العراقية من هذا الباب واسعاً. ومن شك فليقرأ له مجموعة "نشيد الارض ، بغداد منشورات الثقافة الجديدة 1954، واعادت دار الشؤون الثقافية العامة طبعها 1968،ليرى المرحلة التي تقررها في التاريخ، ويرى الخطوة التي خطتها قدماً قياساً الى ما كان بارزاً انذاك في الساحة.
تقرؤها فتلمس الرعاية الفنية،والجدة فيما حازه وتدرجاً من جديد القصة العالمية روسيا وامريكيها وانكليزها وفرنسيها مما كان في قاعدتها من فكر ومما داخل نسيجها من مستجدات علم النفس والفلسفة، وقد غدت هذه المستجدات جو القصة بمخزون العقل الباطن ومردود تيار الوعي،فاذا القصة العراقية معه (ومع صديقه فؤاد التكرلي) ليست في النسق الذي عليه الصورة المألوفة للواقعية الانتقادية، وليست في النسق التقليدي الذي سارت عليه مصر، وليست محلية وانما هي محلية انسانية لك ان تقدمها للعالم من دون ان تكون هي قصصكم لكم وحدكم فهي بضاعتكم ردت اليكم،من دون ان يقول : بضاعتنا ردت الينا، فهو اذ يراها على احدث الاساليب ، يرى ان هذه الاساليب لم تفسر اقتساراً، وانها لم تبق متباعدة عن مضمونها في الفلاح والعامل والمثقف من الالام والامال.
ولم يأت ذلك عفواً او بين عشية وضحاها، وانما هو ثمرة تدريب وتجريب وتطور، ووعي للذات ومتابعة لمسيرة العالم، وطموح الى الأحسن والاجد ولاتميز المشروع... والتضحية، والبحث المخلص عن لغة مناسبة تتجنب التوعر الاكاديمي وتترفع عن الفضفضة التي يراها اهلها شاعرية وتنأى عن الركة التي يحسبها اهلها شعبية. ومع اللغة بناء عام مناسب يتقدم على البناء المنطقي السائد والنهج التقريري بما يقتضيه المنطق النفسي.
وتسأل عن التضحية؟ وماذا؟ وياتيك الجواب ان من نشأ نشأة عبد الملك بن عبد اللطيف بك نوري في رتبة اجتماعية اولى ان تعد مترفة.
الم يختر كلية الحقوق؟ الم يكن ميسور الحال؟ الم؟الم؟ والبقية تاتي... والنيابة اقل مايمكن ان يحصل بعد المديرية العامة.ولكن فتى اسمه عبد الملك لم يرد المجد عن هذا الطريق السهل بل انه تبنى مخلصاً عن دراية ودراسة ورضا الجانب الوطني الشعبي المناهض للسياسة القائمة انذاك. وما هذا بالطريق السهل وعبد الملك يعرف ذلك. ولا بأس ما يناله ـ وناله ـ فيه من اذى وعنت وملاحقة .وها هو ذا يتبنى الفكرة الوطنية الاصلاحية تأملا وقراءة ومصاحبة وضميراً... إضعافا في نفسه الى عوامل الترف ونزواته و "مضموناته" ، والا اخل بشرط اساس في ادب وطني يطمح اليه.
ولم يكن عبد الملك على خطأ، فما كان الوطن ليعترف لامرئ بمجد، أي مجد ولاسيما ان يكون اديباً،مالم يكن ذلك المرء وطنياً، اصلاحياً،ثورياً،الى جانب الشعب ومع الكثرة الكاثرة من الجمهور الاوسع المضيم.
لم يكن على خطأ، ولكنه لم يختر الطريق ليكون الماجد برأي قومه فقط وانما ليكون الماجد ازاء نفسه كذلك وقبل ذلك. لقد اختاره طوعاً وعن رضاً ومعرفة. وهذه الكتب التي يقرؤها تريه المعادل لمسيرة التاريخ، وها هو ذا يرى ما يعانيه الناس من ظلم، ويرى ان لابد من ان يكون الانسان على الغاية من الغلظة او الجشع او موت الضمير او فساد الفكر ليتهاون في الحق ويستهين بالسواد الاعظم...فيقف الى صف الرصيد المالي... والاستغلال والاستعمار...
لابد له من هذا الرأي والعمل على تشربه من اجل ادب يريده مؤثراً،ومن اجل قلم يستمع اليه الناس حين يرون فيه انفسهم.
ومضى يكتب في هذا الضوء المقالة والقصة والنقد، ويزاول النشاط سراً وعلناً...اما المقالة فهي سياسية تحتويها فكرة يريد صاحبها ايصالها الى القراء باقصر طريق واهم مافي ذلك الوضوح والواقعية المباشرة. وكتابتها مهيأة لاي مثقف سعى اليها من دون ان تشترط فيه الموهبة الفنية وتطلب اليه الابداع الادبي، انه معلم فقط، وقلمه يجري فيما تجري عليه المقالة في العراق اجتماعية وسياسية. وربما نظر الى المبتدع من المقالة المصرية نظره الى مافيه لغو حين يخرج من القصد التعليمي.
وحين كتب مقالات نقدية لم يخرج عن هذا مع قلة ماكتب ـ شكلا ومضمونا حتى حين اشترط الجانب الفني في الاثر المنقود.
واذا كانت القصة لغة مبدعة او نوعاً مبدعاً، فان مسألة الابداع لم تكن ـ انذاك ـ موضوع درس او نقاش ، ولاسيما تلك القصة التي تعالج الموضوع السياسي بمادة اجتماعية تقوم على اساس انتقادي من الاحساس الوطني او من وعي الفلسفة المادية والعامل الاقتصادي وصحيح ان مصر والشام قطعتا شوطاً فنياً في النوع القصصي على خطى موباسان او جيخوف حتى كان ماكان من شأن قاص كبير هو محمود تيمور. وقد تابعهما العراق وانتفع بهما وكتب قصصاً عليها مسحة واضحة من الفن. وتقدم في ذلك خطوة او خطوات. ولكن هذا الذي يقبل عليه عبد الملك نوري شيء اخر لايتخذ مثله من مصر وانما هو من اختصاص عراقي كان يملأ ساحته حين طلع عبد الملك نوري القاص ذو النون ايوب ، وكأنه مؤسس فريد ، وحين يكون كذلك، يكون قد فتح الطريق بازاء عبد الملك نوري . ولك ان تقول ـ على هذا ـ ان اقرب شيوخ عبد الملك نوري هو ذو النون ايوب . وكان ذو النون ايوب كاتب مضمون اكثر منه كاتب شكل وكان سياسياً، اجتماعياً اكثر من ادباً، والتقى مضمون " الفتى" بمضمون الشيخ مع فارق ان الشيخ اكثر تمكناً من الحدث والواقع واكثر معاناة ومواجهة للسلطة.
وهكذا جاءت المجموعة الاولى لعبد الملك نوري: " رسل الانسانية" (1964)ولكن هذا لايدوم ، ولا يطول ، لان في موارد ثقافة عبد الملك الجديدة ، وفي مطامحه الفنية مايبعث على التميز وهكذا كان واذا كانت "فطومة" (1948)خطوة وسطا، فانها كانت عامل تشجيع وتوطيد ثقة ؛ فما كان فوز قصة عراقية بالجائزة الاولى لمسابقة مجلة "الاديب" البيروتية بالامر اسهل الذي يمر دون انتشاء وتأمل وتحفز فضلاً عما كانت تمثله " الاديب" من جديد على الساحة العربية مما لم تعرفه مصر، ولا يدركه ذو النون ، وربما كان اصغاء "العراقي" الطالع اليه اكثر من اصغاء اللبناني نفسه ، فكيف اذا مزج هذا الجديد اللبناني بالمضمون العراقي؟
ويمضي عبد الملك نوري ينمو ، وينمي نفسه فكراً وفناً بالقراءة والاعجاب بالنمط الذي يقرؤه دون ان يبارحه مضمونه لدى التامل والاقدام على الكتابة.... وهكذا استقل وتميز فيما صار يكتبه وينشره في الاديب البيروتية (بخاصة) لم تبق لقصصه علاقة بقصص ذي النون ايوب فضلاً عن بعد العلاقة عن القصص المصري او من تاثر به او تقدم في ضوئه.
ان عبد الملك الحقيقي، اقصد الفنان ذا الوعي بالفن والدهاء في الادارة الذي بلغ مبلغ الريادة ، يبدأ من هذه المرحلة، مستمراً في فكره الى جانب الشعب، باحثا عن اخراج هذا الفكر مخرج الفن الذي يجعل صاحبه اديباً حقاً وقاصاً حقاً واجداً السبيل الى ذلك بتيار الوعي خاصة وما كان قد فقه من فرويد ولا باس بوجودية تعمق الفكر في جانب من دون ان تلغي الفكر المتمكن في النفس.
وتهيأت ـ لهذا البحث ـ مقصوداً كان ام غير مقصود ـ ظروفه الخاصة فيما كان للكاتب من علاقات وصداقات ، وفيما يقرأ باللغة الانكليزية ـ او ماهو مترجم الى العربية ـ من قصص او اتجاهات او اراء ثم ما كان من امر مجلة "الاديب " البيروتية التي فتحت صدرها للتيارات الحديثة ولحرية الحركة وللاقلام الشابة.
وكان يعمل على الاخذ بقدر ، وبالحد الذي لايقف حاجزاً او غالبا عليه . وللمرء ان يقرأ له ريح الجنوب ، او العاملة والجرذي والربيع ، او "غثيان".
وبقيت قصة "العاملة والجرذي والربيع " ـ وما زالت تلقى قبولاً اكثر مما تلقاه القصص الاخرى . وتظل المثل على درجة بلغها الفن القصصي ضمن متطلبه الاجتماعي ، وقد استطاع الكاتب ان يذيب الغرض الاجتماعي الانساني من النقد الواقعي في اسلوب تيار الوعي على ما لا يدع مجالاً لقارئ في ان يرى في اسلوب تيار الوعي اجتلاباً غريباً مترفاً يناقض منهج الواقعية الاشتراكية.وزاد في عوامل نجاح الكاتب في هذه القصة انه ، انما تحدث فيها عن امر وقع قريباً منه . واذا كان في الناقدين من راى فتوراً اجتماعياً في بعض قصص عبد الملك نوري لانه ينظر الى المجتمع ـ كما قال ـ من وراء زجاج المقهى البرازيلي (المترف ) ، فان هذا الناقد لا يجد ـ هنا ـ مجاله ويكفي ان يكون الحدث مما يقع في صميم بيئة الكاتب وعلمه ومن داخل المقهى البرازيلي.
ان "العاملة والجرذي والربيع " تضرب مثلا على عبد الملك نوري فكراً وبناءً ، وحيث يجب الاكتفاء بقصة واحدة.
ولم تكن "غثيان " بعيدة عن البيئة والواقع ، ولكن موضوعها محدود اذا قيس بموضوع العاملة والجرذي والربيع ولهذا قل الاستشهاد بها على الرغم من كونها اعلى فناً واشد تماسكاً من جميع قصص القاص لقد ذاكرته ـ مرة ـ في احسن ما كتب ، فرأى جازماً: قصة العاملة والجرذي والربيع ورأيت جازماً غثيان ثم مضت شهور وقابله اديب يسال عن احسن قصصه فكان جوابه غثيان.
ان العاملة والجرذي والربيع 1952 تبقى في الاجيال كما هي اليوم لدى القراء ولدى الكتاب ولكني ارى لغثيان 1953 ما لهذه من البقاء وزيادة.
انه في عام 1953 وهو في اوج عطائه القصصي وتاتي مجلة الثقافة الجديدة فينشر في العام نفسه قصة ويجمع المختار من قصصه بين 1951 و 1953 ويزيد عليه قصة نشيد الارض ليخرجه في منشورات الثقافة الجديدة كتاباً باسم نشيد الارض مسجلاً درجة عالية لما وصل اليه فن القصة العراقية انذاك وهي تؤلف بين الفكر الاقتصادي وتيار الوعي ولمحات من الوجودية من حيث هي كائنة في الانسان سياسة ومجتمعاً وليس من حيث العبث والتشاؤم والغثيان والمصادفة المحتومة ولابد لمثل هذا التالف بين ما يبدو تناقضاً من تكوين خاص هو الذي كان عليه عبد الملك نوري.
الا ان عبد الملك نوري علم في القصة العراقية وليس بمقدور أي أحد التغاضي عن نشيد الارض وهو يدرس او يؤرخ للقصة العراقية ويكفي ان نذكر المساحة التي خصها بها الدكتور عبد الاله احمد في كتابه الادب القصصي في العراق ـ بغداد 1977.
وتسأل : لم غاب نشيد الأرض من كتابي في القصص العراقي المعاصر بيروت 1967 ؟ واجيب ان تصور كل شيء في الجواب الا سوء الظن بالمجموعة والا فقد وافق صدور المجموعة 1954 عودتي من فرنسا فقرأتها واعجبت بها وكتبت عنها مطولاً اول مقال نقدي اكتبه وارسلت المقال المطول الى الاديب البيروتية ولكنه لم ينشر قلت: قد يكون السبب طوله غير المالوف او لعله مما اضاعه البريد ولاباس ولم اطل التفكير في الامر ومضت سنوات وعدت الى نشيد الارض اقرأ واعجب واكتب من دون ان اتم الكتابة ومضت سنوات اخرى وعدت اقرأ واعجب واكتب واؤجل النشر شهوراً لاعيد الكتابة ولانتهي بذلك الى المقال ـ البحث الذي نتشرته من مجلة الاقلام العدد العاشر من عام 1986 املاً ان اكون قد كفرت عن خطأ غير مقصود اسهم فيه البعد عن الوطن وطبيعة الكتاب الذي ضم مواد سبق نشرها وامل ـ كذلك ان ياخذ نشيد الارض مكانه من طبعة جديدة مزيدة اعدها لكاتب في القصص العراقي المعاصر ـ الخمسينيات. اعيد طبع نشيد الارض وقد مست الحاجة اليه وصار هو وما قبله وما اليه وما بعده من قصص ومقالات ومسرحيات وما لصاحبه من مكانة في تاريخ الادب.. مادة صالحة معدة لطالب ماجستير يرى في نفسه القدرة على تسجيل الموضوع باسمه والقدرة على الوصول الى النتائج اللائقة لدى الدخول في عالم عبد الملك نوري. ولنقرأ نشيد الارض.
*عن كتاب مقالات في النقد الادبي للناقد الراحل علي جواد الطاهر الصادر عام 1982