عندما وصف زكي مبارك الشبيبي بابي كلثوم الوفدي

عندما وصف زكي مبارك الشبيبي بابي كلثوم الوفدي

زكي مبارك
ما كنت أنتظر أن أجد في (شبرا) ما رأيت هذه الليلة. فشبرا حي صخاب لا مثيل له في الحركة والضجيج بين أحياء القاهرة. هو في الأصل من الضواحي الهادئة الوادعة المجَّملة الشوارع بأشجار الجميز والتوت، ثم تحول في مدة قليلة إلى محلة مزدحمة بالتجار وأرباب الأعمال

كانت سهرة هذا المساء في منزل صديق عزيز يسكن تلك المحلة، وكانت السهرة مثقلة بالحديث عن مشروعات وزارة المعارف، فلم يكن فيها جانب واحد من جوانب الهدوء والصفاء

ومن عيوب رجال التعليم في مصر أنهم يحملون شواغلهم في كل مكان، حتى لتحسب أن تلك الشواغل هي كل ما يملكون من زاد الحديث في سهرات الأندية والبيوت... لطف الله بكم يا زملائي!

وزاد في عنف الجدل معالي النقراشي باشا كان تحدث مع جريدة المقطم في أشياء تفتح المجال للنظر والتأمل، وتقدم للمشتغلين بالتعليم فرصاً كثيرة لحركة الأفكار والعقول وأردت أن أخرج قليلاً من ذلك الميدان الذي كنت أركض فيه وقت الصباح، ونويت أن أخلص من شواغله وقت الليل، فاقترحت أن تتفضل (روحية) فتقرأ علينا حديث النقراشي باشا بصوتها الذي يشبه بغام الظباء، وأنا أرجو أن أحول تلك المعضلات التعليمية إلى مشكلات وجدانية


ولكن روحية تلحن حين تقرأ، واللحن من مثلها لا يغتفر: لأنها طالبة بإحدى كليات الجامعة المصرية، ومن البعيد أن أطرب لكلامها الملحون، فقد كان المقام مقام تعليم، ولم يكن مقام تشبيب، وإن كنت قصدت أن يفيض صوتها على ذلك الموضوع الجاف نفحةً من نفحات الوجدان


فهل غيرتني الأيام حتى صرت أعد اللحن من ذنوب الملاح؟!


معذرة، يا روحية، فأن عمك نقله الزمان من إلى أحوال! خرجت مكروب الصدر أفكر في أشياء وأشياء، ولكن القمر طالعني بوجه أصبح وهاج، فنظرت إليه برفق وحنان، وكدت أنسى ما في الصدر من هموم وأثقال... والشعراء كالأطفال ينسون أشجانهم الفوادح في لحظات!


قال رفيقي: أين تقع هذه الليلة من الشهر؟


فنظرت في المقطم على نور القمر فرأيتنا في مساء اليوم الثالث عشر من شوال، فقلت: هذه ليلة البدر، يا رفيقي!


وما هي إلا لمحة حتى كان المذياع يصافح آذاننا بجلجلته من منزل بعيد فهرعت إليه وأنا مأخوذ، فجذبني الرفيق من يدي وهو يقول: إن لم يكن بد السماع فارجع بنا نسمع المذياع في البيت؟


فقلت: أريد أن أسمع مع قوم لا يعرفون وزارة المعارف، ولا يفكرون في المناهج، ولاتهمهم مصا ير التلاميذ!


وقفت أسمع كما وقف ابن عبد ربه يسمع منذ أكثر من تسعة قرون، ولم أخف مما وقع لابن عبد ربه؛ فقد طردوه بأسلوب قبيح حين رموه بجرة من الماء ليحرموا أذنيه ألحان الغناء! ثم نظرت فرأيت الدنيا حولي تذكر بمحلة الصدرية في بغداد هي والله محلة الصدرية بمنازلها المنثورة بلا نظام ولا ترتيب، وفي ثناياها نخلات طوال تخيلتها نقلت من هناك


قال رفيقي: إن المذياع في بيت ليس فيه ضياء


فقلت: إنه يغنى أهل البيت في لحظة صفاء


فقال: ألا يكون من الأدب أن نتصرف؟


فقلت: ومن الخير أن أرجع إلى داري لأكتب كلمة عن أبي كلثوم الوفدي، فقد تذكرته حين رأيت في شبرا صورة الصدرية في وطن الأهل والأحباب، إن بقي لي في الدنيا أهل وأحباب!


فمن هو أبو كلثوم الوفدي؟


هو أبو كلثوم: لأنه مفتون كل الفتون بأغاريد أم كلثوم، وهو يهذي بها في كل وقت


وهو وفدي: لأنه حقاً وصدقاً من أشياع الوفد المصري، وهو يهفو إليه في كل حين


فمن هو أبو كلثوم الوفدي الموزع القلب بين القاهرة وبغداد؟ هو الأخ العزيز الأستاذ محمد باقر الشبيبي أحد الشعراء المجيدين في العراق


وما كان باقر الشبيبي أول من فتن بأغاريد أم كلثوم، فقد فتن بها الزهاوي والرصافي والبناء، ولهم في الهيام بأغانيها قصائد جياد، وربما جاز القول بأن أم كلثوم شغلت جميع شعراء العراق، فمن النادر أن تمر أغانيها هناك بلا تشوف. وقد زاد الاهتمام بأم كلثوم عند أهل العراق بعد أن عرفوا أن حنجرتها مسروقة من الحمامة الموصلية التي تقيم بإحدى نوافذ المنارة الحدباء


لم يكن باقر الشبيبي أول المفتونين بأغاريد أم كلثوم، ولكن هيامه بها قد اتصل بنزعة نبيلة هي الجزع من الانشقاق الذي وقع في الوفد سنة 1932 وخرج به على الزعامة ثمانية أعضاء


في تلك الأيام ذهبت أم كلثوم لزيارة بغداد فاستقبلها الشاعر بخفقة من القلب والروح وهو يهتف:


على الشاطئ صيداحٌ... هنيئاً لك يا دجله


سأرعَى النجم للصبحِ... وأحْي الليل في الحفله


فأهلاً ظبية النيلِ... ومَرحَى جارة الرمله


وبوركتِ على السيرِ... وهُنِّئت على الرحله


هنيئاً لكِ بغدادُ... فهذى أم كلثومِ


من الغِيد الأعاريبِ... أتتنا، لا من الروم


لقد أحيتْ لياليكِ... بتغريد وترنيم


فعذراً فرحة النفسِ... إذا قَّصر تكريمي


أعيدي السجعَ والصدحَ... غنِّينا إلى الفجرِ


فهذى الأنجمُ الزُّهرُ... مُطلاّتُ مع البدرِ


فغنِّى أروع الشعرِ... وصُوغيه من السِّحرِ


فمن نَحرك للثغرِ... ومن ثغرك للنحرِ


أطِلّي بنت فرعونٍ... على المسرح والملعبْ


ورفقاً ربَّة الصوتِ... بأحشائي أن تُنهبْ فأنت الكاعبُ الرُّودُ... فما الظبيُ وما الرَّبرب


خذي روحي إلى مصرٍ... فمصرُ الوطنُ الأقرب


ثم تثور النزعة الوفدية في صدر الشاعر فيصيح:


سلى قلبي عن الحبِّ... فقد ذاب من الوجد


فكم لابَ على الروض... وكم حام على الورِدِ


سليني شاحبَ اللونِ... فمن سُهدٍ إلى سُهدِ


خذي قلبيَ للوفدِ... فأني في الهوى وفدي


ولم يكتف (وفديُّ الهوى) بهذه الزفرة، بل انتقل إلى انشقاق الوفد وهو يصرخ:


عجبنا أمَّ كلثوم... من الحادثة الكبرى


لماذا انقسم الوفدُ؟... ومن ذا بَيَّتَ الأمرا؟


أَلاَ مَنْ يجمع الشَّملَ؟... ألا من يطرد الشرًّا؟


خُذِى حِذْرك يا مصرُ... ورُدِّي الكيدَ والمكرا


وتوجع الشاعر لما صار إليه سعادة الأستاذ محمد نجيب الغرابلي باشا فقال:


رأيت الخصمَ جذْلانَ... بما جَدًّ من الخُلف


أحقًّا فَصَلَ الوفدُ... (نجيباً) وهو في الصفَّ


فهذا الحادثُ البِكرُ... أرانا مواطنَ الضعفِ


إلى الوحدةِ يا مصرُ... إلى الإشفاقِ والعطفِ


نظمت تلك القصيدة في مثل هذه الأيام من سنة 1932 فهل كانت آخر زفرة من زفرات الأستاذ باقر الشبيبي في التشوق إلى أم كلثوم وإلى الوفد المصري؟


إليكم هذا الخبر الطريف:


في بواكير الربيع من سنة 1938 اجتمع نادي القلم العراقي بمنزل سعادة الدكتور فاضل الجمالي، وكانت الجلسة برياسة معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي، وكانت الكلمة يومئذ للأستاذ عبد المسيح وزير، فما الذي قال؟ أخذ يقرأ قصة من قصصه فاشتركت مع الأستاذ عباس العزاوي في السخرية من خياله الجميل!


وعند نهاية القصة طلبت الكلمة لأحاسب (القارئ)، ولكن معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي خشي عاقبة الهجوم على الأستاذ عبد المسيح فاقترح ترك التعقيب، ثم قال أن عنده موعداً وانصرف


واستؤنفت الجلسة برياسة الدكتور الجمالي فقلت: إن معالي الرئيس أغلق باب التعقيب لأنه مشغول، وهو قد انصرف، فأنا أطلب الكلمة من جديد، ثم قلت: إن الغرض هو إلقاء محاضرة، لا قراءة قصة، فكيف جاز للأستاذ عبد المسيح وزير أن يحبسنا ساعة لنشهد طريقته في التلاوة؟ فقال الدكتور عقراوي: الأصل أن يلقى العضو محاضرة، ولكن ما الذي يمنع من أن يقرأ شيئاً من آثاره الأدبية؟ إن الأدب. هو الأصل والتعليق عليه هو الفرع، فالقصة كالقصيدة لون من الأدب الصرف


وقال الدكتور الجمالي: فليكن هذا تقليداً جديداً من تقاليد نادي القلم العراقي، ومن حق الشعراء من أعضاء نادي القلم أن ينشدوا بعض قصائدهم في الجلسة المقبلة، وستكون فرصة نسمع فيها صوت الدكتور زكي مبارك، فقد سمعت أنه شاعر، وله ديوان


فقال الدكتور عقراوي: ولا يشترط أن يكون الشعر جديداً، فالدكتور مبارك شاعر مقل، وعليه واجبات في دار المعلمين العالية قد تعوقه عن نظم قصيد جديد


وبهذا المحاورة نجا الأستاذ عبد المسيح من لساني، وما كاد ينجو، مع أنه أبو إيناس


أنا شاعر مقل؟


هذا صحيح، ولكن كيف ألقي نادى القلم العراقي بقصيد نظمته منذ سنين؟ وكيف أضيع الفرصة فلا أقرع أسماع بغداد بقصيد جديد؟ ومضيت وأنا أحاور شيطاني فنظمت قصيداً (في أحد عشر ومائة بيت) عنوانه:


(من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد) وأنشدته في الأسبوع التالي بالرستمية. فقال معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي: كيف استجزت يا دكتور قتل هذه الشاعرية؟ فقلت: قتلها التأليف، وهو يشغل الفكر عن الغناء وصاح الأستاذ رفائيل بطي: أين الشاعر الذي يجيب الدكتور مبارك؟


فقال الدكتور الجمالي: سيجيبه الأستاذ باقر الشبيبي حين نجتمع في منزله بالزوية في الأسبوع المقبل، إن شاءت الشياطين!


واجتمعنا بالزوية في مساء مقتول النسيم ودجلة تصغي إلينا في تودد وترفق، والإخوان ينتظرون قصيدة السيد باقر الشبيبي، فهتف البلبل:


وفاءً بعهدي أو نزولاً على وعدي... وقفت أُحِّي معشري وبنى ودي


وقفتُ أحِّي عُصبةً عربيةً... بها نستبين الرشد حقاً ونستهدي


فأهلاً بكم في روضة الحب والصفا... وأهلاً بكم عند المسرَّة أو عندي


وهيجني في الرستمية شاعرٌ... به مثل ما بي من أنين ومن سُهد


به من هوى ليلي رسيسٌ من الهوى... وبي لهب لا ينطفى من هوى هند


وما كاد يصل إلى هذا الحد حتى حدثني القلب بأنه سيتحدث عن أم كلثوم والوفد لأن القافية دالية، فقلت: أراهن أنك ستعلن انضمامك إلى الوفد! فضحك ضحكة كادت تزلزله من مكانه، ثم مضى يقول:


وذكَّرني عهد الصبا في نشيدهِ... سلامٌ على عهد الصبا في ربُا نجد


هواه على أجراف دجلة وافدٌ... وأما هوى قلبي فللنيل و (الوفد)


فصاح الأعضاء: صحت فراسة الدكتور مبارك في (الوفد) فهل تصح في (أم كلثوم)؟ فمضى الشاعر في النشيد:


فلا تحسبوه شارد اللب وحده... ولا تحسبوني سادراً في الهوى وحدي


صريعَ الغواني، لا تُلمني فإنني... صريع أغاني أم كلثومَ لا دعد


سلام على تلك الأغاريد إنها... أغاريد من وحي الصبابة والوجد


أما بعد فهذا حديث أبي كلثوم الوفدي، أعزه الحب ورضيت عنه العروبة المصرية والعراقية، فأن كنت فضحت هواه فلا يلمني (فإني في الهوى وفدي) وربما صرحت فقلت إني شيوعي في الحب: فلي صبابات تغرب فتصل إلى باريس ولواحق باريس، وتشرق فتصل إلى بغداد ولواحق بغداد من حواضر العراق، وهل تركتني دمشق وبيروت بلا عقابيل؟


إن حالي لعجيبٌ... ما يُرَى أعجبُ منهُ


كلُّ أرض لِيَ فيها... غائبٌ أسأل عنهُ


مجلة الرسالة/العدد 335/

بتاريخ: 04 - 12 - 1939