الأحمد.. جبل التاريخ الأشم

الأحمد.. جبل التاريخ الأشم

د.هديب غزالة
في أسرة عربية الأصل حلية السكن أهتمت بالثقافة والأدب والتاريخ ولد مؤرخنا الكبير سامي سعيد الأحمد عام 1930 مستمداً ولعه وشغفه بالتأريخ وتحليل احداثه من والده التاجر الذي كان مهتماً بمتابعة وشراء ما يصدر من كتب تاريخية ودواوين شعر ومجلات كانت تصدر في النصف الأول من سنوات القرن الماضي فضلاً عن ولعه باطلال الآثار القديمة ومتاحفها،

هذا الولع الذي دعا الوالد يوما إلى ان يصطحب ابنه سامي إلى متحف الآثار القديمة في بغداد ليرى المخلفات المادية لأجداده التي أثارت في نفسه العديد من الأسئلة المتلاطمة التي كانت تحتاج إلى تفسير وتحليل وكان عليه ان يجد لها حلولاً في المستقبل..

، وكما يشير سجل المدرسة الأساسي له في مدرسة الحلة الشرقية أنه أنهى دراسته الابتدائية فيها عام 1941 مسجلاً درجة متميزة في مادة الاجتماعيات في الامتحانات العامة لتلك السنة وهي (87) مما يشير إلى نبوغه في دراسة التاريخ والجغرافية معاً فهو يؤمن وكما يقول (ان التاريخ بلا جغرافية هو علم بلا هوية).
وفي ثانوية الحلة صادف ان درسه فيها آنذاك المدرس المتميز عبد الجليل جواد (الدكتوراه فيما بعد في اختصاص عصور قبل التاريخ) الذي كان له الفضل في تويجه تلميذه بأن يقرأ التاريخ بعمق وتحليل ويبتعد عن السطحية ولهذا فأنه تعلم من مدرسه طريقة الاستنباط في تحليل الاحداث التاريخية وذلك ساهم في وضع اللبنة الأساسية الأولى لمشروع مؤرخ عراقي عرف بدماثه خلقه وبنشاطه الدؤوب وعلمه الغزير ليكون سليل المؤرخ البابلي كابيت ـ ايلاني ـ مردوخ الذي يعد من أوائل المؤرخين العراقيين الذي تركوا اسماءهم مكتوبة على كتاباته.

سامي الأستاذ الجامعي:
عرفت الدكتور سامي منذ ان قبلت طالباً في قسم الآثار (كلية الآداب) جامعة بغداد عام 1978 بالرغم من انه كان استاذاً في قسم التاريخ إلا إني كنت أذهب لألقي التحية عليه لمعرفة عائلية قديمة كانت تربطنا لهذا فاني جالسته في أوقات متعددة في مكتبه ولمست منه حلاوة الكرم والاخلاق السامية وروح الدعابة وهذا أمر لا تعرفه إلا إذا تعاملت معه عن قرب لأنه يظهر عن بعد على محياه في شخصيته المهيبة والجدية والتي لا تعرف المجاملة في العلم وبنشاط متقد فكان الدكتور الاحمد من أوائل الأساتذة الذين يدخلون كلية الآداب قبل ان يبدأ الدوام الرسمي بساعة في الأقل بالرغم من انه يأتي ماشياً من منزله الكائن في حي المنصور وحتى مبنى الكلية في باب المعظم لأنه يحب رياضة المشي التي كان يتمتع بممارستها.
عندما تجلس معه لتستأذنه وتسأله سؤالاً علمياً بحاجة إلى اجابة فأنه ينهال عليك كالشلال الهادر بغزارة علمه وبذاكرته الوقادة حتى انك لا تلحق به لتسجل ما يقوله وتتضح غزارة علم مؤرخنا الكبير في مؤلفاته المهمة التي فيها معلومات تفصيلية عن تاريخ وحضارة بلاد الرافدين ومصر والشام، ومع كل هذا فأنه كان مصراً على عدم الاشراف على طلبة الدراسات العليا وعندما سألته يوماً عن سبب ذلك قال لي: (اني اعتقد بان على طالب الدراسات العليا ان يجيد لغة أجنبية إلى جانب ما يتمتع به من عربية سليمة وأني أرى ان اغلب طلبتنا لا يتمتعون بذلك).

اخلاق العلماء:
توطدت علاقتي باستاذنا الاحمد بعد قبولي في الدراسات العليا عام 1987 فكنت أتردد عليه لاستشيره ببعض الأمور العلمية فكان مرحباً دائماً يعطيك المعلومة الدقيقة دون ان يشعرك بصغير حجمك إذا ما جلست امامه ويعطيك دفعاً معنوياً كبيراً يكون الباحث بحاجة إليه وهو يكتب عن موضوعه وإذا ما انتهيت من استفساراتك العلمية التي تطلبها منه يبدأ هو بالحديث عن بعض الأمور العامة والاجتماعية بتواضع قلّ نظيره وبروح مرحة لا تخلو من نكتة وتعليق نابعين من سرعة البديهية التي عرف بها.
في يوم من أيام شتاء عام 1988 ذهبت إليه قبل بدء الدوام الرسمي فوجدته جالساً في مكتبه ولكن الحزن كان واضحاً على محياه الوسيم على غير عادته وبعد أن ألقيت عليه تحية الصباح رد علي التحية بنبرة حزينة لم آلفها منه من قبل وعندما استأذنته لأسأله عن سبب حزنه قال لي بالنص: (يا ابني لقد توفيت زوجتي) فبادرته بالمواساة الشرعية والاجتماعية وعرفت منه انه يقصد وفاة زوجته الأولى الأمريكية الجنسية التي تزوجها حين كان طالباً في جامعة شيكاغو عام 1955 ثم أصبح استاذاً في جامعة دنفر قبل ان يعود إلى بغداد عام 1967 وبعد أن رفع رأسه رد عليّ بهدوء: (انا مؤمن بحتمية الموت وهذا لا يحزنني ولكن حزنت لما منعتني الدولة من السفر لحضور مراسيم دفنها وفاء لها، أليس من حقي ان احضر دفن جثمان زوجتي؟) قالها بحزن شديد ينم عن صفة الوفاء السامي الذي يتمتع به الأحمد.
في عام 1989 صادف وبعد ان انهيت كتابة رسالة الماجستير شكلت لجنة المناقشة واقترح اسم الأحمد ليكون رئيسها وعضوية كل من المرحوم الأستاذ الدكتور وليد الجادر والدكتور فاضل عبد الواحد اطال الله في عمره وطلب مني أن اذهب إلى الدكتور سامي لألتمس موافقته على ذلك وعندما ذهبت إليه قال لي مبتسماً: (كيف أوافق ان أكون رئيساً للجنة يكون الدكتور فاضل عضواً فيها، هذا غير ممكن ولكني اتشرف ان أكون عضواً في لجنة يترأسها الدكتور فاضل) وبعد أخذ ورد ودي بينهما مع رئاسة قسم الآثار بقي الأحمد مصراً على موقفه فكان عضواْ في اللجنة التي ترأسها الدكتور فاضل، لقد تعلمنا من الاستاذين الكبيرين ومن موقفهما هذا درساً في نكران الذات واحترام كل منهما للآخر ومعرفة وتقدير العلماء الأفاضل بعضهم لبعض ما لم نتعلمه من الكتب.

كان الأحمد رائداً في تأسيس مدرسة عراقية متميزة بكتابة التاريخ لانه مؤمن بان العراقيين هم أول من أولوا اهتماماً واضحاً بكتابة وتدوين التاريخ وهذا ما استنتجه من حولياتهم الملكية التي وصلت ألينا وبعد ان تعايش مع السومريين وتعرف إلى بطلهم كلكامش وصاحب الملوك الآشوريين والبابليين وعرفنا على كل واحد منهم من خلال ما نقله إلينا في كتاباته العديدة المتواصلة مع الرقم الطينية لكتبة الوركاء ونفر ونينوى وبابل.
الأحمد ثروة من ثروات العراق وسيبقى في أذهاننا على مر الأزمنة بما قدمه من جهود علمية لأنه عرف من كلكامش ان الإنسان يمكن ان ينال الخلود بأعماله.