مسرحية جميلة اسمها عوني كرومي

مسرحية جميلة اسمها عوني كرومي

علي حسين
((اريد ان اموت في بغداد )) اخر كلمات قالها صاحب القلب المرهف رافضا الخراب الذي حل بمدينته الحبيبة -بغداد- فاثر ان يتوقف بعد ان ظل يراوده حلم العودة والوقوف ثانية على خشبة مسرح (الستين كرسي) وشرب الشاي الساخن في المقهى البغدادي .

وفاته ان يعلم ان شارعه الاثير (السعدون) تحول الى كتلة اسمنتية عملاقة وان مسرح الستين لم يعد له وجود في زمن امراء الطوائف وان المقهى البغدادي استبدل الشاي بالويسكي ومحمد القيسي بجنود المارينز.
***
عوني كرومي صوت هادئ وعينان حالمتان بالرؤى ووجه يحمل الطيبة اينما حل وفم لاتغادره السيجارة ابدا .. يتحدث بسرعة لكن بهدوء .. يدع الكلمات تخرج مرحة من بين شفتيه .. رجل بسيط مملوء بالذكاء لايتحدث اكثر مما يصغي .. ساحر ثابت النظرات يتارجح في حلقات من الخيال .. تتجدد الحياة في عينيه مثل خشبة المسرح ويرى العالم من خلال مخيلته الثرة.. شخصية امتزجت فيها طيبة العراقيين مع رؤى برشت وتساؤلات المثقف الوطني .. تستفزه الكلمات فيحولها الى صور متوهجة . المسرح بالنسبة اليه معركة من اجل الحياة.. في مسرحياته تتشابك الاضواء مع الكلمات بزخارف واصداء محببة الى النفس يفهم الفن على انه تصوير لوجدان الناس واحاسيسها الحقيقية ورسم للمدى الذي يبلغه الخيال من الواقع .. رجل مهووس بالحياة والمؤانسة والمشاكسة .. شغوف بالحرية حتى انعكس شغفه هذا على سلوكه اليومي والحياتي كما انعكس على مسرحياته وكتاباته ومواقفه الشجاعة.. مسرحي مولع بفك وتركيب العالم دائماً دائم التعدي على السكون ولايستطيع ان يكون رقما في اي معادلة لذلك كان كثيرا خارج المعادلات وخارج كل الحسابات ورغم انه كان يعتبر نفسه احد ابناء جيل الستينيات الا ان احدا لم يسكنه في احد طوابق هذا الجيل.
ظل ابداعه مقترنا بابداع الحياة واستجابات التحدي الفورية لمشكلاتها .. كان ممتلىء الوجدان بالحقيقة دون ان يسجن نفسه في دائرة سياسية معينة لذلك مضى في طريق تمرده الذي لم يعرف سوى الايمان بالعدالة الاجتماعية وقد جعل منه هذا الايمان مسرحيا ملتزما بقضايا الناس التي اصبحت جزءاً من مكونات وعيه الثقافي .
***
الناس وهمومهم.. كانت كلمات السر والمفتاح السحري الذي دخل منه عوني كرومي الى عالم المسرح .. فمنذ عمله الاول (جان دارك) ومرورا بمبادرات والمسيح يصلب من جديد وغاليلو وفوق رصيف الغضب وصراخ الصمت وترنيمة الكرسي الهزاز وبيرو شناشيل واعمال تجاوزت السبعين عملا كان فيها عوني كرومي يؤمن بان الجمهور لايمكن له ان يصبح متفرجا من مواقع المواجهة للعمل المسرحي بل ان الجمهور هو جزء من اللعبة المسرحية التي يعيشها الممثلون والمتفرجون معا .. فالعمل المسرحي لايبرر وجوده دون ان يصبح الجمهور نقطته المركزية ولذلك خرج من مسرح اللعبة الى مسرح المختبر ليدوزن اللعبة المسرحية على مواصفات اماكن غير تقليدية .. شقة في بناية - بيت عتيق في السنك- كنيسة تنيرها الشموع- باحة في كلية الفنون - رصيف منسي في احد شوارع بغداد .. اماكن استوحى منها كرومي منطق رؤياه وبنى من خلالها معماره المسرحي فالفضاء المسرحي كان العصب الاساسي لمعظم اعماله المسرحية والهيكل العظمي الذي يعطي لعروضه الفنية قيمتها ومعناها .. وهو يؤمن بان العمل المسرحي لايقرأ الا من خلال مكانه لذلك انصب اهتمامه على توظيف المساحات توظيفا فنيا فالمكان يوضح الشخصية ويعمق حضورها وهو يقول للناقد ياسين النصير (المكان عندي مادة واقعية.. لغة تقربني من الناس .. انا لااميل الى تغريب المشاهد ولا الى الغاء حواسه وخبرته بل على العكس اجعل منه قريبا من خلال مشاهد سبق ان عاشها واحبها وتعرف عليها) .. وهو مثل معلمه برشت يدين الخشبة المسرحية القائمة على تراتيبية المقاعد لانه يريد من الجمهور ان يصبح جزءاً من الصورة العامة او جزءا من الاداء او الحكاية .
ويؤمن عوني كرومي بان مسرح معلمه برشت لايمكن عرضه بصدق ودقة الا من خلال روح الجماعة الموحدة الفاهمة لهذا فهو يولي اهمية قصوى للممثل -المنتج- ويجد راحته في العمل مع الممثلين الشباب اي مع الممثل الذي يكتسب مهاراته من خلال دراسته وسعيه الى الاكتشاف وصولا الى تقديم صورة للتجسيد الدرامي واشباع الغاية الفنية من وجود الممثل في العمل المسرحي ولهذا فالممثل الذي يعمل مع عوني كرومي لابد من ان يمتلك ثقافة تجمع بين الفهم الخاص للشخصية والفهم العام لقضايا المجتمع .
***
ثلاثة انواع من النصوص لم تكن تغيب عن بال عوني كرومي .. اولها واهمها نصوص برشت والثانية تشيخوف والثالثة نصوص عراقية قريبة الى نفسه كنصوص فاروق محمد ومحيي الدين زنكنة .. وقد داب منذ تجاربه الاولى على البحث عن نمط خاص من المسرحيات يعالج فيها فكرة صمود الانسان امام محاولات تدمير قيمه الروحية والاجتماعية .. نصوص تعري وتكشف مايتعرض له الانسان من ضغط وقهر .. ولهذا نجد دائما ان ثمة مسرحيات تتحرك بالقرب منه .. غاليلو .. كريولان .. الخال فانيا .. الغريب .. صراخ الصمت .. الانسان الطيب .. ترنيمة الكرسي .. الاب .. اعمال تناقش الحاضر بكل عنفوانه وقسوته ويخبرني عوني كرومي عندما شاهد مسرحية تشيخوف الشهيرة - الشقيقات الثلاث - عام 1974 في برلين خرج من قاعة العرض ورأسه يغلي من حمى الخواطر والافكار وقد رافقته هذه الحمى سنوات عدة دفعته الى التفكير في ان الانسان انما يحتاج الى المكاشفة والى معرفة ماذا يريد .
(اذا اردت ان تعيش فعليك ان تعرف هذا العالم الغريب .. ان تعرف) .. تلك كانت الجملة التي رافقته من مسرحية الشقيقات .. ان تعرف .. يعني ان تنفتح على العالم على كل ذرة في الحياة ولهذا نجد ان المسرحي فيه يكمن بالمرصاد لكل اللحظات الفريدة في الحياة فهو كالصياد ينقض عليها ليكتشفها من جديد وفي معرفته للحياة وانفتاحه عليها يحاول ان يقدم تجربته مسرحية تشع صدقا وعفوية وبساطة وتعكس بصمات فنان ماهر . وحسا دقيقا مرهفا .. ولهذا نجد ان كل خطوة او ضربة على الجدار او كلمة او صراخ او صمت او دقة ساعة حائط او حتى ابسط بقعة ضوء لها وظيفتها المحدودة في اعماله المسرحية التي كانت تسعى الى ان تحول الملهاة الى مأساة تصب في قلب الواقع .
***
يكتب برشت في اخر ايامه ..
لست بحاجة الى شاهد قبر لكن
ان احتجتم شاهدا لقبري
فاني اود ان يكتب عليه :-
لقد طرح اقتراحات ، نحن قبلناها
مثل هذا النقش سيغدو
تكريما لنا جميعا .
ودون ان نعرف ماذا سيكتب على شاهدة قبره ينسحب عوني كرومي تاركا لنا دراسة اعماله والنظر الى حياته من جديد لعلنا نجد الى جانب- طيبته المفرطة- كثيرا من العقل والفن والدموع ايضا