عوني كرومي ذاكرة و بورتريه

عوني كرومي ذاكرة و بورتريه

عدنان منشد
يوم عاد الفنان د. عوني كرومي الى بغداد قادما من المانيا في النصف الثاني من عقد السبعينيات الماضي ، قدم مسرحية (غاليليو غاليليه) على المسرح التجريبي في أكاديمية الفنون الجميلة ، وكان العرض حدثا كبيرا في المشهد المسرحي العراقي وقتذاك -

يضاهي وربما يتجاوز –عروض المسرحيين العراقيين الكبار، امثال : ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وبدري حسون فريد وقاسم محمد ومحسن العزاوي وسعدون العبيدي وسليم الجزائري، وغيرهم الكثير.
الطريف ، ان الذي دعاني الى مشاهدة هذا العرض ، الاستاذ عبد الرزاق الصافي ، العضو السابق في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، ورئيس تحرير (طريق الشعب) باعتباري أحد المحررين لديه في هذه الجريدة ، على الرغم من انغماري الكامل في القسم الثقافي بادارة الشاعر حميد الخاقاني،
وبوجود الزملاء الاحبة ممن كانوا يعملون معي في القسم المذكور ، ومنهم فاضل ثامر ، الفريد سمعان ، رشدي العامل، يوسف الصائغ، رضا الظاهر ، نبيل ياسين ، عدنان حسين ، فضلا عن الراحلين قاسم عبد الامير عجام وحسين الحسيني.
قادني الرفيق الصافي (أبو مخلص) الى الشارع العام ، حيث سيارته (الفولغا) من نوع (البعيرة) كما يتندر العراقيون على هذا الصنف من السيارات في ذلك الوقت، بفعل الاشاعات والنوادر التي يطلقها البعض من عناصر حزب البعث بحق الشيوعيين العراقيين، خصوصا في استعمالهم للسيارات السوفيتية القادمة من ضفاف نهر الفولغا الروسي. ولكننا ، ويالرحمة السماء وصلنا في الموعد المقرر للعرض ، حيث كان الفنان عوني أول المستقبلين لنا ، وأجلسنا في الصف الامامي من المسرح ، حيث أتيح لنا بعد ذلك ان نشهد عرض (غاليلو غاليليه) بمزيد من الاستقبال الذهني وبأستجابة قلبية شفيفة.
لااذكر ابدا اني رأيت جمهورا من العراقيين تبدو عليهم امارات السعادة والسرور الحقيقية وهم يتواصلون مع تجليات المنهج البريشتي في ذلك العرض خصوصا في سحر(الملحمية) وفعل (التغريب) بقيادة عوني كرومي ، الامر الذي خلخل قناعاتي الشخصية وقناعات العديد من الجمهور حول تجارب الرائد ابراهيم جلال في انهماكاته الاخراجية ذات التوجه البريشتي ، ومنها عروضه المسرحية المعروفة (البيك والسائق/مقامات ابي الورد/أبو الطيب المتنبي...) فكان علي ان أسجل هذا الفارق بين فنان محنك رائد ، وفنان اخر من التلامذة الاصلاء الذي عرف منذ البدء مشاكسة اساتذته المخضرمين في أخطر منهج اخراجي في القرن العشرين ، وكانت مقالتي في (طريق الشعب) بعد اسبوع من هذا العرض ، مثار أسئلة واعتراضات من الوسط المسرحي ،ولكنها على العموم ، كانت البداية الحقيقة في التعرف شخصيا على الفنان عوني كرومي واقامة الصلة معه والانهماك بتجاربه المسرحية القادمة ، خصوصا وانه ينتسب الى فرقه (المسرح الشعبي) بقيادة الراحل جعفر السعدي ، وانا انتسب لفرقة (مسرح اليوم) بقيادة المرحوم جعفر ، وكلا الفرقتين في طابق واحد ضمن عمارة (أخوان ) في شارع السعدون .
وهكذا ، توالت اللقاءات بيني وبين عوني كرومي وأعضاء فرقته وزوجته التي كانت زميلة معي في كلية الزراعة ، نتابع معا احوال المشهد المسرحي العراقي ، ونطمح جميعا في تأسيس مسرح الـ (60 كرسي) ضمن الطابق المذكور بمنطلق عال، وبهمة يسارية معروفة في ذلك الزمن الصعب.
اذكر ان في دعوة هذا الفنان لتشييد هذا المسرح التجريبي الذائع الصيت معاناة كبيرة والماً شديدين . وكان يصارحني ويصارح الكثير من زملائي في فرقتي (المسرح الشعبي) و(مسرح اليوم) قائلا: ان المسرح الذي بين أيديكم يستحق المعاناة وصبر التأمل ، انه ينهك الاعصاب ، وقد يثير الرعب ،ولعل أقل ما يقال فيه انه يحمل على التذمر.
وصدقت هذه النبؤة لعوني في أول عروضه المسرحية (مس جوليا) لسترنبرغ على هذا المسرح ، حيث تذمر الفنان أديب القله يجي وزوجته الفنانة المعروفة وداد سالم ، بعد معاناتهما الحقيقية معه في تدشين مسرح الـ(60 كرسي) لاعتبارات كثيرة لا يسمح المجال في ذكرها وكانت ثالثة الاثافي معي ، حينما كتبت عن عرضه المذكور بقلب مخلص يشتاق الى مسرح التغيير الذي سعى اليه عوني بشكل محموم ، وتذكيرا بمنهجه البريشتي . ولكنه –للاسف الشديد – انفعل وتذمر كثيرا لما كتبت ، بل هاج وماج ، ثم رفع شكوى تحريرية عني الى ادارة (طريق الشعب) فساءني منها حجم التهكم والشتائم بحقي ، على الرغم من ان تجربته المسرحية في ذلك الزمن لاتتعدى العرضين المذكورين فضلا عن عرض اولي سمعت به مرارا وتكرارا قبل سفره الى المانيا تحت عنوان (المسيح يصلب من جديد ) تحت اشراف ابراهيم جلال وجاسم العبودي، في أول تجربة لمشروع (ستوديو التمثيل) في بغداد. فأشركني موقف عوني المذكور في حيرتي واضطرام نفسي ... فكان طلاق بالثلاث لاعماله المسرحية اللاحقة ومنها (رقصة الاقنعة /كشخة ونفخة/ كريولانس /ترنيمية الكرسي الهزاز.. وغيرها ) ، ولكن ، عوني هو عوني