فيصل السامر... خواطر وذكريات

فيصل السامر... خواطر وذكريات

محسن حسين
في تاريخ العراق الحديث وفي كل الانظمة المتعاقبة برزت شخصيات عراقية وطنية أصيلة و كفاءات في العلم والثقافة والاقتصاد لكن الانقلابات والانظمة غطت على هذه الشخصيات المتميزة ومنها د فيصل السامر الوزير والباحث والمؤرخ.

في الشهر الماضي ذكرت في موضوع نشر على الفيسبوك بمناسبة ذكرى تاسيس وكالة الانباء العراقية (واع) دور السامر في تاسيسها عندما كان وزيرا للارشاد في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ابتداء من اختيار الصحفيين الاوائل فيها الى اعداد قانونها ونظامها وكنت قريبا منه طوال اكثر من عامين قضاهما في منصبه الوزاري ابتداء من عام 1959 الى عام 1961
واضافة الى واع فقد عمل د فيصل السامر في تطوير إذاعة و تلفزيون جمهورية العراق، وتأسيس الفرقة السمفونية العراقية، و مشروع دار الأوبرا.
لكن الاهم من المنصب الوزاري شخصية المؤرخ والباحث والمفكر والاستاذ الجامعي والمناضل ويكفيه فخرا ان رسالته الماجستير (ثورة الزنج) ورسالة الدكتوراه (الدولة الحمدانية في الموصل وحلب) تعدان من الكتب التاريخية المهمة اضافة الى 16 كتابا وعدد من الكتب المترجمة.
للاحاطة بتفاصيل هذه الشخصية المرموقة اجريت اتصالات ببناته الثلاث في العراق والامارات وكندا.
كنت اعرف كبرى بناته د. سوسن السامر عميدة كلية اللغات في جامعة بغداد وكانت زميلة لنا في وكالة الانباء العراقية في سبعينيات القرن الماضي ومنها علمت مؤخرا بان ابنته الثانية ياسمين مهندسة معمارية في أبو ظبي ولبنى خريجة جامعة برايتون البريطانية مقيمة الان في كندا ومن السيدات الفاضلات حصلت على صور نادرة تنشر لاول مرة للدكتور فيصل السامر اضافة لما موجود عندي.
وتحدثت عدة مرات معهن وخاصة مع د سوسن لالقاء الضوء على حياة هذه الشخصية الوطنية.
كان الزعيم عبد الكريم قاسم قد اختار فيصل السامر عام 1959 ليكون وزيرا للارشاد خلفا للوزير صديق شنشل الذي استقال مع عدد من الوزراء في اوائل ذلك العام لكن السامر قدم استقالته بعد اقل من 3 سنوات اثر الخلافات السياسية بين الكتل والاحزاب والمصادمات الدموية.
تقول د سوسن كان الوالد يرغب الابتعاد عن المشهد السياسي و العودة الى مهامه الاكاديمية. الا ان الزعيم عبد الكريم قاسم كان شديد التمسك ببقائه و الاستمرار معه لثقته الكبيرة به.
وتذكر ان الزعيم كان يصر على مرافقة الوالد له حتى في جولاته في بغداد.
تضيف د سوسن ما يحز في نفسي هو عقوق من بيده القدرة و السلطة على إحياء ذكرى رموز عراقية وطنية أصيلة و كفاءات علمية يشهد لها القاصي والداني..فرغم الوعود منذ عام 2003 على إحياء ذكرى والدي بتمثال يليق به او قاعة كبرى او تسمية شارع رئيسي وووغيرها من الوعود لتكون في العاصمة بغداد او في مسقط رأس والدي في البصرة...لم نر أيا من هذه الوعود قد تحققت.
سالتها كيف تصفين فيصل السامر باختصار
ردت: كيف لي أن اختصر في بضعة سطور مشاعري تجاه اب عظيم و انسان نقي..مثالي..مبدئي...كان (رحمه الله) مربيا فاضلا، مبدئيا و صديقا صدوقا و إنسانا نبيلا متسامحا زاهدا و أستاذا متفانيا كفوءا متميزا و عالما أصيلا و مؤرخا شجاعا جريئا واعيا وسياسيا تقدميا نقيا مناضلا ووطنيا مخلصا أصيلا و مفكرا رصينا...إنسانا ملتزما على كافة الأصعدة و بكل المقاييس...لم يحيد يوما عن المثل و المبادئ و القيم العليا التي تمسك بها..
جمع الفقيد الغالي خصال الخلق الرفيع و الامانة و النزاهة و الصدق و التواضع و التسامح والنبل و دماثة الأخلاق مع الصلابة بتمسكه بالمبادئ والجرأة والشجاعة بالمواقف الوطنية الأصيلة النزيهة..فكان مبعث احترام و تقدير محبيه و معارضيه...كان وجها مشرقا من وجوه العلم العراقي و الثقافة العربية و عقلا نيرا من عقول ابناء هذا البلد العريق و نفسا زكية نقية من نفوس أبناء هذا الوطن الغالي..و مناضلا آمن بشعبه و دافع عن حرية هذا الشعب العريق و حقوقه..متمسكا بالديمقراطية و حرية الرأي و الفكر سبلا لا غنى عنها لانقاذ هذه الامة من الظلم و التخلف و الفساد...و لوضعها على طريق التقدم والازدهار
و خرج هذا المناضل الشريف من جميع الزعازع طاهر الذيل...نقي الثوب..صحيفته بيضاء ناصعة عبر العهود و تغيراتها..لم يشبه ضعف أو تردد أو خنوع...ولم يتردد يوما في قول الحق.
مؤرخ و استاذ جامعي و باحث اكاديمي متميز أصيل له حضور على الساحة الثقافية و الأكاديمية العراقية والعربية والعالمية. كان بحق علما من أعلام المدرسة التاريخية المعاصرة و صاحب منهج واضح عميق واع رصين في كتابة التاريخ..تتلمذت على يديه أجيال زرع فيها منهجيته و تعلمت منه الصدق والأمانة و الرصانة العلمية
وفي استعراض مع د سوسن لحياة والدها د فيصل السامر فانه من مواليد البصرة عام 1924 وتوفي في 14 كانون الاول عام 1982 في لندن.
كان بعد نيله شهادة الدكتوراه أنتخب مرشحا عن الجبهة الوطنية الانتخابية في البصرة الى البرلمان عام 1954 ليكون مع مرشحي الجبهة الآخرين كتلة برلمانية للمرة الأولى في تلك الانتخابات المباشرة في تاريخ البرلمان العراقي و في أيلول من العام نفسه فصل من الخدمة مع من فصل من الأساتذة و المعلمين و الموظفين التقدميين بسبب مواقفهم المناوئة لحلف بغداد و النظام الملكي.
وفي ذلك العام أسهم إسهاما فعالا في حركة السلام التي تأسست و حضر مؤتمرها السري الاول.فلم يكتفي النظام الملكي بفصله من الوظيفة فالحقه و زملاءه بالخدمة العسكرية و ادخل دورة الضباط الاحتياط العاشرة التي خصصت للمفصولين عام 1955.
و بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 اسهم اسهاما فعالا في الحياة الثقافية و السياسية و تعاون بشكل فعال مع الحزب الوطني الديمقراطي، و كان موضع ثقة مؤسسه كامل الچادرچي الا انه بقي طوال حياته مستقلا سياسيا.
منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين أسهم في حركة المعلمين و الدعوة إلى تأسيس نقابة لهم و انتخب اول رئيس لها بعد قيام ثورة 14 تموز. ثم عين مديرا عاما للتعليم في وزارة التربية و من ثم تسنم منصب وزير الارشاد.
تقدم بطلب انهاء تكليفه بالوزارة فعين وزيرا مفوضا في وزارة الخارجية العراقية عام 1961. وفي العام نفسه عين سفيرا للعراق في اندونيسيا و ماليزيا.
بعد انقلاب 8شاط 1963 استقال من منصبه في11 شباط و اختار اللجوء السياسي في جمهورية تشيكوسلوفاكيا (سابقا). و اسقطت الحكومة العراقية عنه وعن افراد عائلته الجنسية العراقية..و عرضت عليه مختلف الجنسيات إلا أنه ابى و رفض أن يحمل غير جنسيته العراقية.
و في براغ شكل مع السياسيين المعارضين لنظام الحكم في العراق آنذاك حكومة مناوئة في المنفى. و عمل استاذا في جامعة براغ و في أكاديمية العلوم و في جامعة 17 نوفمبر. و أسس مجلة الغد الفكرية السياسية و ما زالت تصدر في بريطانيا.
أعيدت له و لأفراد عائلته الجنسية العراقية عام 1968 و عاد إلى الوطن عام 1969 و التحق بهيئة التدريس في كلية التربية / ابن رشد ثم في كلية الاداب (جامعة بغداد)..ورفض أي مناصب عرضت عليه. و خلال حملة اعادة كتابة التاريخ في عهد صدام حسين كان فيصل السامر المؤرخ و التدريسي الوحيد الذي رفضها علنا.
تعتب عائلة السامر وهي محقة فرغم كل ما قدمه للوطن عبر سنوات حياته لم يلتفت احد له ولا حتى جامعته -جامعة بغداد بتكريمه في يوم العلم في أي من السنوات حتى يومنا هذا رغم ترشيحه عدة مرات!
لكن اتحاد المؤرخين العرب التابع لجامعة الدول العربية منحه عام 2014 وسام المؤرخ العربي"تقديرا لدوره المتميز والمبدع في خدمة تاريخ وتراث الامة عبر تاريخها المجيد».