فرج الله الحلو.. شهيد الحرية والديمقراطية

فرج الله الحلو.. شهيد الحرية والديمقراطية

باسم عبدو
عندما رفض الحزب الشيوعي السوري اللبناني حلّ نفسه، وعندما حدد الحزب موقفه من الوحدة"البنود الـ13"، وعندما لم يتنازل عن مواقفه السياسية وأفكاره وأيديولوجيته الماركسية، وظل صادقاً في تحالفاته ومدافعاً أميناً عن العمال والفلاحين وفقراء الوطن والمثقفين، تعرض الحزب إلى هجوم أمني ومباحثي، ودخل الألوف من كوادره وأعضائه المعتقلات والسجون، وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي.

اعتقل الرفيق فرج الله الحلو يوم 25 حزيران،1959 وأصبح هذا اليوم، يوم الشهيد الشيوعي.
لقد صمد الرفيق فرج، ظل كالمارد، واجه الجلادين بصلابة الشيوعي الأمين لمبادئه.. المناضل العنيد من أجل حقوق الكادحين، ومن أجل الديمقراطية والحرية، من أجل وحدة عربية سليمة، وحدة تلبي مصالح الشعبين المصري والسوري.
ولايزال الجلادون الهمجيون يتذكرون"بعضهم لايزال على قيد الحياة"، وعملاء المكتب الثاني"السراجي"من أمثال الخائن والعميل رفيق رضا، الذي أصبح محققاً، فقال له فرج:"إلك زمان بهالشغلة؟ وبصق في وجهه"، وخلال 24 ساعة استشهد فرج.. مات فرج!إن يوم الشهيد الشيوعي، ليس يوم فرج فقط، وإنما هو أيضاً يوم مئات شهداء النضال ضد الإقطاع والاستعمار الفرنسي، والأنظمة التسلطية الديكتاتورية.. وحروب التحرير والنضال الوطني والطبقي. وهذه المقالة لا تتسع لتعداد أسماء هؤلاء المشاعل المضيئة في تاريخ الحزب والوطن.
طفولة وفقر وطموحات
ولد فرج الله الحلو سنة 1906 في قرية"حصرإيل"من عائلة فلاحية فقيرة. هاجر أشقاؤه برفقة والدتهم، ولم يكن فرج قد تجاوز السنة الثالثة من عمره، ونشأ برعاية شقيقته الكبرى ميريانا وشقيقه غالب.
طفولة غرقت في بحر من المصاعب والحرمان والتعاسة، كان في العاشرة عندما علّق الأتراك عام 1916 الأحرار من اللبنانيين والسوريين على أعواد المشانق.
كانت دراسته الأولى في مدرسة"عمشيت"في القرية المجاورة لـ"حصرإيل"، وكان معلمه كاهناً، ونتيجة لظلم المعلم وقساوته يقول فرج:"لم يدخل إلا الشيء اليسير في رأسي، ولن يغيب عن ذاكرتي طعم القضبان، ولا تلك الأخشاب المكبّلة لليدين".
شعر فرج بالتمييز بين أولاد الأغنياء وأولاد الفقراء، وبرز هذا التمييز في معاملة مدير المدرسة وأساتذتها، فترك المدرسة، وبدأ يبحث عن عمل لعجز والده عن توفير مستلزمات الدراسة. فذهب إلى مدينة بانياس السورية، ثم طُرد لأنه دافع عن المزارعين الذين يُرغمون على العمل أربع عشرة ساعة في اليوم.. وبعدئذ عمل في التدريس في إحدى قرى منطقته. وفي عام 1929 تعاقد مع مدرسة في مدينة حمص لتدريس اللغة العربية إلى جانب تحصيله الذاتي في الكلية الوطنية الإنجيلية. وتعرف في هذه المدينة إلى الأفكار الماركسية من صديقه وزميله ناصر الدين حدة.
يقول فرج بعد أن قرأ في مجلة فرنسية مقالة عن لينين ودوره في إعداد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى:"أحسست عندما قرأت هذه الدراسة بخفقان غير اعتيادي في قلبي، واتضحت لي يومها الطريق التي يجب أن أختارها في حياتي، ولم أكتف بقراءتها مرة واحدة، بل عدت إليها مراراً وتكراراً".
زار الاتحاد السوفييتي للمرة الأولى عام،1934 وأصدر بعد عودته كتاباً بعنوان"إنسانية جديدة تبني عالماً جديداً"، وأسهم في تأسيس وتحرير جريدة"نضال الشعب". وفي عام 1935 أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وأثبت وجوده الفاعل في الساحات النضالية المختلفة، فهو بين العمال يوجههم ويرشدهم. ورافق الفلاحين وعاش في صفوفهم. ونظم واشترك في تظاهرات كثيرة في لبنان والمدن السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وركز على توحيد القوى الكادحة والعمل الجماعي والشعبي بعيداً عن النزوات الفردية والمصلحة الشخصية.
قال عنه الرفيق محمود الأطرش"أبو داود":"فرج الله مثال للانضباط الثوري والعمل الجدي الدؤوب المتواصل الذي كان يقوم به بكل نكران ذات وبهمة ثورية عالية. كان صلباً ومتواضعاً مما جلب إليه محبة الرفاق واحترامهم له، كما كان من قادة الحزب البارزين. قام بدور هام في الحركة العمالية والتحررية في لبنان وسورية".
وقال فرج قبل نصف قرن ونيف بعد زيارته للاتحاد السوفييتي:"ليست الاشتراكية بنت لينين، ولا ربيبة روسيا القيصرية، بل هي بنت التاريخ البشري وربيبة الإنسانية بأجمعها، وليس الاتحاد السوفييتي إلا الميدان الأول لتحقيق هذه المبادئ، ولا يمكن أن يفهم الاتحاد السوفييتي كل الفهم إلا من يفهم الماركسية أولاً من جهتها المبدئية كل الفهم".
يُعاقب المناضل الوطني الديمقراطي الشيوعي المخلص من قبل قيادة الحزب أو الأمين العام، وتوجه رسالة"من القيادة المركزية إلى منظمات الحزب الشيوعي"وذلك لموقفه المعارض لقرار تقسيم فلسطين، وكانت القيادة قد وافقت وأيدت موقف السوفييت.
لقد وقف فرج الله عام 1937 بوجه تيار عبادة الشخصية داخل قيادة الحزب، وحمل لواء الديمقراطية. وقال:"الحزب الشيوعي قوته في قيادته الديمقراطية وتنظيمه الديمقراطي". وفي مؤتمر الحزب المنعقد في نهاية كانون الأول عام 1943 وأول كانون الثاني عام،1944 وكان آنذاك أميناً للحزب اللبناني قال: (إن الحزب لا يهمل الاستفادة من الحركات الوطنية التحررية في العالم، ولكن عندما يضع سياسته لا يقلد أحداً على الإطلاق، لا في الشرق ولا في الغرب، بل يطبق نظريته على أحوال البلاد، ولا يحاول أبداً أن يطبق أحوال البلاد على نظريته".
وكتب الرفيق دانيال نعمة في ذكرياته"ذكريات لافتة"عن الشهيد فرج الله قائلاً:"مرة واحدة شعرت بأن فرج الله أصيب بالاكتئاب، وخفتت حماسته للعمل. كان ذلك بعد الأخبار وانتشارها في العالم حول تقرير خروشوف في نقده لستالين وعبادة الفرد. يوم ذاك كما أعتقد تذكر فرج رسالة"سالم"، وربما تصور أن المحاكمة كان ينبغي أن تكون لغيره، أو على الأقل أن لا تكون له". وسمع الرفيق دانيال أن فرج الله طالب بأن يُعاد البحث في رسالة سالم، وأن تدقق الأمور وتصحح بالنسبة إليه، ولكن هذا الطلب رُفِض، وقيل لفرج: ليس لهذا السبب كانت المحاكمة، وإنما لأشياء أخرى!
ولم تبق الأمور كما هي، ولكن بعد فوات الأوان ومرور سنوات على استشهاد الرفيق فرج، فقد أُعيد الاعتبار له، وأزيلت رسالة سالم من وثائق الحزب الشيوعي اللبناني، بقرار من المؤتمر الثاني عام،1968 وكذلك فعل حزبنا الشيء ذاته في مؤتمره السادس عام 1987.
النهاية.. الشهادة
كان الجلادون يعلّقون الآمال الكبار على كلمة ينطق بها فرج الله، فكان صمته مظهراً من مظاهر العظمة والقوة والصلابة والتفاني والسيطرة على الذات والازدراء بالموت.
وتقدم المحامي ميشيل عقل * بشكوى بالوكالة عن السيدة فرجيني أرملة الرفيق فرج وبناتها"بشرى، نجوى، ندى"، بحق المدعى عليهم"عبد الحميد السراج، عبد الوهاب الخطيب، سامي جمعة، رفيق رضا، نعسان محمد زكار"، بجرائم توقيف فرج الله الحلو بصورة غير مشروعة، وإيقاع التعذيب الجسدي به وقتله.
قال عبد الوهاب الخطيب للرفيق فرج:"إنك لصيد ثمين".. وكان فرج يرفض الإجابة والرد على أسئلة الجلادين، فضُرب بعصا حتى تكسرت، ثم صُعق بالكهرباء في قدميه. وكان سامي جمعة يضع سلك الكهرباء في المآخذ، ويقوم عبد الوهاب الخطيب بوضع الطرف الثاني من السلك في إبهامي قدمي فرج.. ونفخ بطنه بالهواء بمنفاخ سيارة، وقفز عليه، وأمر بتعليق وعاء ماء فوق رأسه، تقطر منه قطرات متقطعة من الماء.. وكان"رفيق رضا"يناقشه في أفكاره السياسية والعقائدية، ولكن فرج بصق في وجهه واتهمه بالخيانة والعمالة للمباحث.
وفي صباح 26/6/1959 مات فرج.. استشهد فرج في تمام الساعة،15،07 ووضعوه تحت الدرج، ثم نُقل إلى مزرعة سامي جمعة، وأعيد وذوّب بالأسيد خوفاً من اكتشاف الجريمة البشعة.

عن موقع الحرية