«طلقةٌ للعراق» لمؤيد الراوي

«طلقةٌ للعراق» لمؤيد الراوي

صالح العامري
كاتب عماني
"طلقةٌ للعراق" نص شعري كتبه الشاعر العراقي مؤيد الراوي، وهو من النصوص التي يغبط بها القارئ كاتبها، ويشتهي لو يكتب مثلها عن بلاده أو أماكنه وجغرافياته الثقافية والاجتماعية والسياسية التي ينتمي إليها عنوة أو اختيارا.

إنه نصّ حذر ومنطو على ذاته، لا يقع على مباشرات فجة رغم أن طبيعة النصّ الأفقية تستوجب وتستدعي تلك التلقائية والبساطة السهلتين الممتنعتين، كما لا يكترث بملحميّات، لكنه في نفس الوقت يحاول جاهداً الإمساك بكل تلك المنمنمات والجزئيات الصغيرة، المنسية والمهملة، الصحيحة والسقيمة، الورعة والفاسقة، السامية والمنحطة؛ لتحقيق بنية النصّ الكلية والوصول به، ناقصاً (كأي عمل إبداعيّ رصين) لكنه غير خديج، لكي يتوالد ويكتمل في عين القارئ ووجدانه.
رغم الخذلانات وخيبات الأمل والمنافي التي كابدها في عراقه، والآلة السعيرية التي اكتوى بقبحها ونتانتها، والتي أصاب منها ثلاث مرات من الاعتقال والسجن والتعذيب، إلا أن الشاعر يتطهر بآلامه ويسمو بها، متجاوزاً وحشه المُصاب أو فرانكيشتاينَهُ إلى تلك الحدقة التي يسميها تي. أس. إليوت «لؤلؤتان كانتا عينيه"أو بحسب مؤيد الراوي نفسه، في قصيدة له عن «جليل القيسي، حارس المدينة» حين يكتب: «في محجريك مرجان يشف عن رؤى، فينذر عن جحيم يتكون"أو «في وُسع عينيكَ زمُردٌ ويغطي حاجبيك الذهب».
وإذن لا يربي الشاعر أحقاداً دفينةً أو ضغائن عمياء، بل يذهب بآلامه وجراحه جهة المصهر وأفران الكلمات وذرائع التطهر، هناك حيث يُعالج الزمن والفخاخ والمكايد، ويتعرف على ذاته المغسولة بأشف الحنانات وأنبل الموازين. إن الشاعر هنا، حتّى في أشد حالات وهنه وسخطه، يرتفع بعراقه ويصعد به، كما يسيل لعابه لكي تتخلق من جديد خارج الأصفاد والسلاسل. إن صوته الداخليّ العميق يرثي الكون بأجمعه، دون أن ينسى أن يُفَعِّل المسرّة والغبطة التي يقتحم بها الكائن هشاشته وضعفه، مستعيناً بطفل الأرض الجوّال في حناياه وأصابعه، ذلك الطفل الخارج عن الأعراف والتقاليد، لأنه لم يتسمّم بها بعد، ولم تدخله في قمقمها الشائن.
إن الطلقة للعراق وليس عليها، حيث تحتشد اللهفات في حنجرة الشاعر وفي قلبه الدمث، وحيث النجوم ترتكب أفاعيلها في خاصرته الأزلية، راقصاً بمحبةٍ كزوربا أو متقدماً كصديقه الشاعر العراقي المنتحر إبراهيم زاير «بعصاه، في الممر المتشابك الطويل/‏‏ بمنشفة عتمته يتقدم/‏‏ وسط الأشياء، وسط ما يتركه غالباً/‏‏ بين الراحلين في قاماتٍ مبهمة».
ليس الشاعر هجّاءً قزماً، يكتال من موائد الشتيمة والفضيحة السمجتين، بل يسوق- راعياً أمينا على سرّ القصيدة وخازناً لقمحها وفصولها- مدائحها وأهاجيها معاً، بلابلها المقدسة وأغربتها الحدادية.
إن اللحن ذاته يتكرر في القصيدة، لكن تنويعات ذلك اللحن هي التي تعمقه وتثريه وتزحف به قدماً إلى القطعة النفيسة. ستون سطراً تبدأ بكلمة «أرض» متبوعة بمضاف إليه مطواع، يلبي إرادة الشاعر ورغبته في التكوين والخلق، لتشكيل جسد النص وإقامة مبناه ومعناه. بينما ينسب الأرض إليه باستخدام كلمة «أرضِي"مرتين في نهاية القصيدة؛ كي يوثق عرى صِلاته الغائرة بتلك الأرض وكرنفالاتها الدموية وسخرياتها المتناثرة، في حين أن ثمانية أسطر فقط هي التي تبدأ سطورها بكلمات أخرى. وإذن فالطلقة هنا، رغم أنها واحدة، تكبر وتتشاسع دوائرها المتكررة في بِركة اللغة حين تُرمى الكلمة (حصاة التأويل والمعنى) على أديمها الصافي. صحيح أن اللغة معبأة بالفخاخ، وأنّ الكلمات المنحوتة مكررة، لكن «ينصبها صيّاد محب للطيور، وأنتَ قد خبرتَ الكلمات».
إن الأرض تحترق الآن، لكنّ الشاعر لا يريد أن يرسم أرضاً محروقة، تعيث فيها الوطاويط والأشباح، بل يحاول أن يفتح كرتها النارية، فهو يفقه تماماً، أنّ فردوساً مفقوداً مخبأ هناك، وأنّ ثمة لحناً نائماً يحتاج إلى أن توقظه القصيدة.
إن تلك القصيدة تبدو لأول وهلة كما لو كانت نهراً مَخيطاً أو مقفلا، لكن ما إن تبدأ القراءة حتى يتنفس ذلك النهر ويتدفق في أعيننا وفي دواخلنا ومن حولنا، بل ونكاد أن نغرق فيه وأن لا ننجو من مجراه، لولا تلك القوارب التي تسعفنا في جس مياهه وسبر أغواره وملامسة شكله وهيئته وقوامه والاستغراق في تفاصيله عوض الغرق في لجته. تلك القوارب هي غبطتنا ولذائذنا الخاصة بنا كقراء، وخيوطنا الموازية للنصّ في تلقي شبكة دلالاته وأمنياته. إن النصّ، والحال كذلك، يبعثنا نسوراً وطيوراً وحيواتٍ حرّة، بدل أن يجعلنا نطفو على سطحه أسماكاً ميتة.
الأرض التي يكتبها مؤيد الراوي هي أرض أفقية وشاقولية معاً، أرض مسطّحة ومعمقة في آن واحد، كأنّ قلمين يكتبان تلك القصيدة، أحدهما يكشط التُراب والآخر يحفر البئر، أحدهما يصلح ما خربته الشمس والآخر ينقذ ما طوته العتمات في غرفها السريّة. إنها «أرض الأغذية/‏‏ أرض الاستعارات/‏‏ أرض ما يتيحه الرأس المكرر/‏‏ أرض الإشارات المعوجّة فوق الأبراج». هكذا يبدو رأس القصيدة، وهكذا تتناسل الأرض في الرأس المدوّر، الذي يزن حمولتها وأثقالها.
يطلق الشاعر طلقته منذ العنوان، لكن في الحقيقة لم يكن العنوان إلا تكئة أو ضغطاً على الزناد، أما الطلقة في مهرجانها الكبير وفي أعيادها ومآتمها فهي القصيدة ذاتها، تلك القصيدة التي تشبه أفعى مرقطة بالغة الطول، كل تفصيلة فيها تشبه أختها، وكل جزء من جسدها يشبه الجزء الآخر، غير أن تلك الفسيفساء المجتزأة المنقوشة على خارطة الجسد، لا تعني شيئاً حين تكون منفردة خارج انسجامها وتناغمها الكليين، إذ على مجمل صورة الأرض تتأسس القصيدة وتنبني.
توجد في القصيدة ركائز صغيرة أو علامات، ركزها الكاتب وغرسها بين مسافة وأخرى، كي تعينه على مواصلة السير في حقل اللغة الماكر، من أجل إنجاز المهمة اللغوية والدلالية للنصّ. هذه الركائز والعلامات من قبيل «أرض الرأس/‏‏ أرض العقل/‏‏ أرض السبب/‏‏ أرض الشكل/‏‏ أرض الفصل/‏‏ أرض الفرح/‏‏ أرض المغفرة/‏‏ أرض الرأس/‏‏ أرض الأغذية/‏‏ أرض الدهشة»، لكن لا النصّ ولا الأرض أيضاً ولا الطلقة تقنع أو ترتضي أن تكون الأرض الشعرية على هذه الشاكلة المنطقية، حيث على الأرض أن تكون أكثر تعقيداً في استعاراتها وأساطيرها وطبولها المدمدمة، في فضائحياتها الواقعية وسمومها وترياقاتها المكتنزة بها، وعلى الشاعر أن يكون أكثر من مجرد مريض بالحُمّى أو عابر سبيل يتندر في وجه المارة. من هنا تأتي الصور الأكثر تعقيداً في الطريق المتشعب الشائك، حيث «أرض الشكل» تذهب إلى مزيد من الحَفْر والتعميق الصوريين وتتحول إلى «أرض الألوان الممنوحة للقادة والجنود/‏‏ أرض الجدران المرتوية بالبول/‏‏ أرض الزهرة الكبيرة للمرض/‏‏ أرض الكهرباء النائية عن الفزع» كي تكتسي الأرض شكلها وألوانها، وكي تتجذر في الصورة وتنحفر بإزميل الدقة. كما أن «أرض السبب» تحتمي بأرض لغوية أكبر منها، وتمد أياديها المتعطشة إلى «أرض الفزع والمزارع النهرية/‏‏ أرض القدرات تمد فمها للفأس».
في الثلث الأخير من القصيدة، تسري قشعريرة ما في روح الشاعر، كيف لا وقد تمّ خلق ثلثي الأرض؟. إنّ رعشة تسري هناك، في أزله المعتم، بعد أن تحمحم الكلمات في داخله، راكضاً مثل حصان حُرٍّ في سهوب اللغة الندية. يقف الشاعر هناك، على قمة جبل شاهق، وقد مسته لوثة الألوهة، يرقب اشتعال مدينة بأكملها، شاهداً على الفناء والخراب، على الخلق والانبعاث، محشوراً في كون الموسيقى وفي نداء القداسة الفظة. ولهذا تماماً يكتب عن تلك الأرض بأنها: «أرض الشعوب الساكنة في فنادق دمي»، وإذاً ما يحترق في الخارج هناك: يشتعل في الداخل هنا.
إن الشاعر في تلك الحالة الكثيفة حدّ أن يطير، والشفيفة حدّ أن جناح فراشته عالق يترنح في نسمة هواء، يتقمّص الحالات والشخوص، حيث لا يكتفي أن يكون كاتب نصّه، بل هو الطفل الذي يقول عن الأرض أنها «أرض المسافة مكررة تجاه أقاليم الطفل»، وهو العاشق الذي يقول عنها «أرض جسدي المميِّز لنظريات العشق»، وهو الكولونيل الذي يقول عنها «أرض غزيرة في قراراتي أصوِّبُها للقمع»، وهو الفنّان الذي كسر الزمن تمثال فينوسه، حيث يقول «أرض الحقيقة المكسورة من الذراع». وبهذا تظل «الإشارات المعوجّة فوق الأبراج"مشتعلة، تكافئه بإرشاداتها الدالة على الكيفية التي يستطيع بها أن يرسم بورتريه أرضه التي ينشدها ويتمزق ويتشظى فيها، تلك الأرض الظالمة والأرض الحلمية، الأرض التي تسقطه أرضاً والأرض التي تحمله في بطنها العادل.
في الأسطر الأخيرة من قصيدة «طلقة للعراق"لمؤيد الراوي، يحنو الشاعر على أرضه الخراب، على أرض النعم والعقوبات، على أرض اللعنة والولادات، لهذا ينسب الأرض إليه باستخدام كلمة «أرضي»، ويضعنا في الأخير قبالة ذاته هو، كأنه هو العراق أو أن العراق هو. إنه يقول «أرضي مسقّفة بأعضائي الفائضة، تستوعب الشرق والقطب الشماليّ، مثلما تأكل رأسي، المجزأ لدى الطيور والقادة».
هكذا تنتهي القصيدة بكلمة «القادة»، وهذه الكلمة الأخيرة تنبيْ عن حساسية مؤيد الراوي وتميزه وتعاليه على تلك الغنائية التي تتشبث بها قصائد رفاقه ومجايليه. زاعماً بأنه لو كان على سركون بولص مثلاً، أن يسعف صديقه مؤيد الراوي بكلمة بديلة عن كلمة «القادة» لتخيّر حتماً كلمة «الجنرالات»!.
هامشان:
• «طلقة للعراق"من النصوص التي ضمّنها عبدالقادر الجنابي كتابه الأنطولوجي «انفرادات الشعر العراقي الجديد»، ولا أعرف ما إذا كان قد استل الجنابي ذلك النص من مجموعة مؤيد الراوي «احتمالات الوضوح»، أم من صحيفة أو مجلة أدبية، أم بطريقة شخصية أخرى.
• مؤيد الراوي، شاعر من العراق، غادر بلاده عام 1969 إلى عمّان وبيروت، ثمّ أقام في برلين منذ عام 1979. يعتبر أحد مؤسسي «جماعة كركوك الشعرية» عام 1964، مع ثلة من الشعراء العراقيين، من بينهم سركون بولص وجان دمو وصلاح فائق وفاضل العزاوي. له ثلاث مجموعات شعرية هي: «احتمالات الوضوح"عام 1978، «ممالك» عام 2011، وأخيراً قبيل رحيله «سرد مفرد». توفي مؤيد الراوي، متأثراً بمرض السكري وأشياء كئيبة أخرى، في برلين يوم الخميس 8 تشرين الأول 2015، وهو القائل بأن «الموت إسهام في وحشة الرأس».

عن مجلة عمان الثقافية