قراءة في روايات عبد الخالق الركابي..مخطوطة العائلة والميراث الميتاسردي

قراءة في روايات عبد الخالق الركابي..مخطوطة العائلة والميراث الميتاسردي

فاضل ثامر
منذ رواية "الراووق" 1986 بدا اهتمام الروائي عبد الخالق الركابي باستثمار التعبير السردي في صياغة المبنى الميتا - سردي في الرواية من خلال التمحور حول مخطوطة السيد نور أو"الراووق"التي كتب فصولها الأولى السيد نور نفسه وتعاقب على كتابة فصولها عدد من المدونين والرواة،

ربما كان اهمهم ذاكر القيم وآخرهم نفسه أو ذاته الثانية باعتباره الوريث والمؤتمن على أسرار هذه المخطوطة التي تعود الى اسرته.
تدون مخطوطة الراووق الوقائع والاحداث والمعارك التي عاشها ومر بها البواشق الذين يعتزون بجدهم الاكبر"مطلق"ويطلقون على عشيرتهم أحيانا بالعشيرة المطلقية. والواقع أن عبد الخالق الركابي المؤلف لم يفارق التاريخ في أغلب رواياته، لكن التاريخ الذي يكتبه هو تاريخ تخييلي وسردي ويقدم بوصفه حاضراً، وليس سفراً مطوياً أو مجموعة من الأوراق التسجيلية المتجذرة في فضاء الماضي فقط.
في أعماله، وبشكل خاص في رباعيته "الراووق"1986 و "قبل أن يحلق الباشق» (1990) و »سابع أيام الخلق"(1994) والى حد ما"سفر السرمدية"(2005)، يكشف لنا المؤلف صفحات حية من التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للعراق، وليس لعشيرة معينة او لبقعة مكانية محددة، مع أن هذه الروايات يمكن أن تقرأ بوصفها روايات منفصلة ومستقلة، لكنها من الجانب الآخر تشكل متناً سردياً مترابطاً الى حد كبير من خلال لعبة المخطوطة الميتا - سردية ذاتها؛ ولهذا يمكن النظر الى الرباعية على أنها رواية أجيال أو حقب تاريخية محددة. ومما يلفت النظر أن اهتمام عبد الخالق الركابي بهذا النمط من التعامل مع التاريخ يمتد إلى أبعد من ذلك وبشكل خاص إلى روايته الضخمة"من يفتح باب الطلسم»(1982) التي تتحدث عن رحلة آل غافل من موطن العشيرة على نهر الفرات هرباً من بطش الولاة العثمانيين نحو أقصى الحدود الشرقية للعراق المتاخمة لإيران، وربما في موضع قريب من قضاء بدرة في محافظة واسط.
وهذه الرحلة القاسية بدأت بحشد يضم واحداً وثلاثين شخصاً بين رجل وفتى وامراة وطفل»(ص15)، لكن الرحلة التي استمرت لمدة ثلاث عشرة سنة لم تبق سوى ستة او سبعة أشخاص (بعد عودة راضي اليهم) (ص34). وانتهت هذه الرحلة بالاقامة في سهب عرفات وتشكيل (حمولة) عشائرية قوية بقيادة راضي آخر ورثة آل غافل. التشابه كبير بين هجرة هذه العشيرة وملامحها وتقاليدها وبين التشكيلات العشائرية التي ظهرت خلال"الثلاثية الميتا - سردية"والفارق الوحيد أو الأساسي ربما يكمن في أن"من يفتح باب الطلسم"لم تكن منشغلة بوجود مخطوطة للعشيرة مثل الراووق وبالتالي فهي ابتعدت عن المبنى الميتا – سردي الذي كشفت عنه الرباعية التي تمحورت حول مخطوطة الراووق - ورحلة آل غافل تذكرنا إلى حد كبير برحلة (آل جود) في رواية جون شتاينبك"عناقيد الغضب"- وبذا يمكن النظر الى رواية"من يفتح باب الطلسم"بوصفها الشكل الجنيني للرباعية الميتا سردية. واذا ماكان لجوء الروائي الى توظيف المخطوطة لاول مرة في رواية"الراووق"مثار استغراب لدى عدد من النقاد الذين عدوا ذلك تقليداً لمخطوطة ملكيادوس في رواية ماركيز"مائة عام من العزلة"ومدينة الأسلاف الافتراضية تقليد لقرية (ماكوندو) في رواية ماركيز ذاتها، فان هذه التقنيات الجديدة هي جزء من التقنيات الميتا – سردية التي فتتنت الروائيين الأمريكيين والأوربيين منذ سبعينات القرن الماضي والتي وجدت صداها في الرواية العربية، وهي في حقيقة الأمر مظهر من مظاهر الحساسية الجديدة التي عبرت عنها نزعات ما بعد الحداثة في السرد الحديث.
يستهل المؤلف في رواية"الراووق"مباشرة باستحضار مخطوطة"الراووق"التي بدأ بكتابة صفحاتها الأولى السيد نور من خلال مونولوغ داخلي لأهم رواة المخطوطة ومدونيها ذاكر القيم الذي تسلم أيضاً سدانة مزار السيد نور"إنها لفترة مديدة تصيبه بالذهول؛ فقد مات خلالها المئات من عشيرة البواشق وطواهم النسيان، بينما لا تزال هذه المخطوطة المركونة في حجرة سليمة"وقد يبدو هذا اللون من السرد تقنية سردية تنتمي للراوي العليم، لكنها في الحقيقة لون من المونولوج يعتمد على ما يسميه تودوروف بـ"انا الراوي الغائب».
وهذه الافتتاحية تضع الجزء الأول من ثلاثية الراووق، وكذلك جزئيها اللاحقين تحت مظلة المبنى الميتا - سردي في الرواية المتمحور حول مخطوطة العائلة أو العشيرة التي تناوب على كتابة صفحاتها العديد من الرواة والمدونين، ونكتشف أن التاريخ الذي كان يقف فيه ذاكر القيم أمام المخطوطة هو العام ألف وتسعمائة للميلاد أي بعد مرور اكثر من قرنين على ظهور النجم المذنب الذي أرخه السيد نور في المخطوطة حيث السلطة العثمانية تفرض سلطتها المتعسفة على العراق ومنه ديرة الهشيمة والتي اصبحت بعد أن تحولت إلى ناحية - موطن عشيرة البواشق - والتي تقع في منطقة حدودية شرقي العراق قريباً من مدينة"بدرة"في محافظة واسط حالياً كما أشرنا سابقاً.
ويمكن أن نكتشف هنا أن رواية"الراووق"هي البوتقة الأولى التي انصهرت فيها أحداث الثلاثية وتفرعت عنها، بل وبدت بعض التفصيلات التي سردها الجزءان الثاني والثالث مجرد تفاصيل مجهرية لمرويات سبق لرواية"الراووق"سردها بعد اكتشاف مدونات وأوراق ووثائق تستكمل مخطوطة"الراووق"ذاتها ومنها مثلاً الفصل الموسوم من رواية"سابع ايام الخلق"بـ»الأحدية"والخالص بمعركة القلعة التي أقامها الجد الأكبر للعشيرة"مطلق"وابناؤه ضد السيطرة العثمانية والتي أدت إلى تدمير القلعة ومقتل الشيخ مطلق وأبنائه بطريقة بطولية. هذا الفصل كان في الأصل إحدى مرويات رواية"الراووق»، ولكن بصورة موجزة كما وردت في الفصل الأول من الرواية في حدود صفحتين أو ثلاث لا غير (ص 12-14)، وأما إذا ما كان الجزءان الثاني والثالث من الثلاثية - أي"قبل أن يحلق الباشق"و"سابع ايام الخلق"- تعتمدان على عدد من الشخصيات الرئيسة أو المركزية التي يمكن متابعتها والتعرف إليها فإن الجزء الأول منها، وأعني به رواية"الراووق»، يكاد يفتقد إلى أية شخصية مركزية كبيرة ربما باستثناء ذاكر القيم ويعتمد اساسا على عدد من الرواة والشخصيات المشاركة التي شهدت بعض الاحداث والوقائع في الرواية وهو ما يجعل من الرواية قريبة في تشكيلها من الابنية الملحمية، ومن البناء الملحمي في الرواية تحديداً الذي يتسم عادة بغياب الشخصيات المركزية والاستعاضة عنها بعدد كبير من الشخصيات الروائية وهذه الصفة الجماعية او التعددية في طريقة السرد الروائي القائم على التناوب وعلى تتابع او تجاوز الحبكات الفرعية او الثانوية والقائم على فكرة البطل الجماعي وغياب البطل الفردي والتي تشبه روايته المبكرة"من يفتح باب الطلسم"لا تمنع وجود حبكة مركزية وحركة خطية متصاعدة للاحداث في الزمان والمكان تمتد ربما الى اجزاء الثلاثية بشكل عام، وتشكل مخطوطة الراووق محورها. الحركة الزمنية النامية – وربما شبه الخطية – تتحرك بصورة عمودية في تاريخ العراق الحديث وتغطي فترة تزيد عن القرنين كان العراق فيها ما يزال تحت السيطرة العثمانية، التي اتخذت لها شعار الخلافة الاسلامية و"الاخوة الاسلامية"وظلة لتمرير ابشع اشكال الهيمنة الكولونيالية الرثة. كما غطت الثلاثية الفترة الاولى من الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الاولى وكذلك غطت جوانب من ثورة العشرين في العراق.
اما الفضاء المكاني فهو العراق بشكل عام، يكنى له في الجزء الاول بديرة الهشيمة التي تقع افتراضيا شرق العراق ويتسع في الجزء الثاني ليتحول الى مدينة"الاسلاف"الافتراضية بعد ظهور بوادر النمو العمراني في المنطقة فيبدأ المكان ينتقل في الجزء الاول من عالم ريفي قروي متخلف يعتمد في الغالب على الاقتصاد الطبيعي وتهيمن فيه العلاقات البترياريكية وتحكم تقاليد العشيرة، الى عالم ثنائي التركيب يجمع بين تحضر مديني أولي وحياة ريفية في الجوار، كما اتضح في الجزء الثاني، ليتحول هذا الفضاء المكاني الى فضاء مديني متحضر في الجزء الثالث، وتتحول محافظة"الاسلاف»الافتراضيية الى صورة مصغرة لمدينة بغداد وربما العراق بكامله؛ لذا يمكن القول ان الرواية تقدم شهادة فنية وجمالية وسردية لنمو مظاهر التمدن والتحضر والتحديث في المجتمع العراقي الحديث خلال القرنين الاخيرين، وهذا الفضاء الزمكاني او الكرونوتوبي chronotope بتعبير ميخائيل باختين يمثل التعالق بين محوري الزمان والمكان وتجليهما الفني في الأدب، حيث يتحول هذا التعالق الى كل حسي وبصري يختزن حركية الزمان والحبكة والتاريخ معاً.
وهذا التعالق"الكرونوتوبي"لمحوري الزمان والمكان في ثلاثية الراووق يجد اشكاله الجنينية الاولى في روايات وقصص عبد الخالق الركابي المبكرة التي سبقت الثلاثية وبشكل خاص في رواية"من يفتح باب الطلسم"كما يتواصل في روايته"سفر السرمدية"التي تلت الثلاثية لكنها ظلت ترتبط بها بوشائج متينة زمنياً ومكانياً وميتاسردياً.
واجمالاً يمكن القول ان رواية"الراووق"تعتمد على السرد الذاتي المبؤر حيث يشارك عدد من الرواة الثانويين والشخصيات المشاركة التي تسهم في سرد مما يقارب من ستين مشهداً مما يجعل منها رواية بوليفونية متعددة الاصوات لبطل مركزي او للمؤلف وذاته الثانية؛ وبذا تتكرس آلية ديمقراطية جماعية في السرد يتسيد فيها نمط البطل الجماعي في الرواية، لكنها تظل، على الرغم من حبكاتها الثانوية الستين تقريباً، تنطوي على وحدة سردية متنامية تتمحور حول مخطوطة الراووق وتدوينها ونبوءاتها. وقد لاحظنا تنوعاً كبيراً في الرواة المشاركين، فبينهم شيوخ وشبان وصبيان وأطفال ونساء، وهم الصناع الحقيقيون لمرويات هذا الجزء على الرغم من أن مدونات ذاكر القيم سادن مزار السيد نور وأبرز رواة المخطوطة تظل هي الأكثر لأنه السارد الذي يستهل السرد الروائي ويختتمه أيضا، لكن ذلك لا يجعل منه بطلاً مركزياً على حساب البطل الجماعي لأن شخصيته تندرج ضمن سرود ومرويات ومدونات مخطوطة الراووق ذاتها.
وعلى الرغم من البنية الخطية لنمو الحبكة المركزية، فان الرواية تتشكل من ثلاثة عشر فصلاً، يضم كل فصل منه حوالي اربعة مشاهد مروية من قبل احدى الشخصيات المشاركة في شكل مونولوغات داخلية مبؤرة وبعيدة الى حد كبير عن تقنية الراوي كلي العلم او التخليص، لأن بناء المشهد الروائي (حوالي الستين مشهدا) يظل هو السمة الاساسية التي تتحكم في نسيج الخطاب الروائي بصورة عامة.
ويجدر بنا الاشارة الى ما يمكن أن نسميه بنرجسية المبنى الميتا - سردي الذي يكون عادة مفتوناً بذاته، وأساساً بالكتابة الروائية وأحياناً بشخصية المؤلف التي يشير لها عبد الخالق الركابي في اغلب رواياته، كما سنجد ذلك لاحقا في الجزء الثالث من الثلاثية وأعني به"سابع ايام الخلق"حيث نجد اشارة صريحة إلى عنوان الرواية داخل المتن الروائي، وكما سنكتشف ذلك بتفصيل اكبر في رواية المؤلف التي اعقبت الثلاثية واعني بها"سفر السرمدية"من احالة غير مباشرة الى اسم المؤلف ففي المشهد الختامي من رواية"الراووق"اشارة غير مباشرة الى المؤلف عبد الخالق الركابي يشير فيها ذاكر القيم خلال حديثه عن المخطوطة احتمل ظهور"مدون من عبيد الخالق"اشارة الى اسم عبد الخالق:"وقد يقيض لها بها بعد خمسين او سبعين سنة عبد من عبيد الخالق يستثمرها ان حاول ان يكتب تاريخ عشيرة البواشق"(356).
ونرجسية المبنى الميتا - سردي هذا ربما، هي التي دفعت بالناقدة لندا هتشنون لعنون كتابها النقدي عن عالم الميتا سرد بالسرد النرجسي narcisst narration مما يؤكد السمة النرجسية المتجذرة في طبيعة الصوغ الميتا- سردي بصورة عامة، وهذا ما سيتأكد للقارىء عندما يدخل عالم الجزء الثاني من الثلاثية"قبل ان يحلق الباشق».
في الإهداء الذي كتبه لي شخصياً عبد الخالق الركابي والذي وشح به نسخة روايته المهداة لي"قبل ان يحلق الباشق؟"قال :"ها انذا اطلق الباشق في فضاء الرواية؟ تراه سيحلق عالياً؟ لعلك تملك الجواب أفضل مني؟». وقد ظل هذا السؤال عالقاً في ذهني بوصفي قارئاً للرواية واعتمدته كواحد من العتبات النصية الدالة والموجهات التي يمكن الاستنارة بها تعالقاً مع عنوان الرواية"قبل أن يحلق الباشق"بوصفه العتبة ما قبل النصية التي تتحكم الى حد كبير في مسار الحدث الروائي.
يستهل الروائي نصه بصوت اطلاق يشق السماء وصوت طائر الباشق وهو يسقط صريعاً برصاصة صياد مجهول. ونكتشف تدريجياً المشهد الذي يخلفه الروائي عبر زاوية نظر البطل المركزي للرواية وروايتها الاساس مانع الشيخ عاصي الذي يوظف ضمير المتكلم بسرد لا يخلو من بعض ملامح السيرة الذاتية الاتوبوغرافية التي تجري عبر مونولوج داخلي للبطل: ففي الجانب الاول هناك مجموعة من افراد الجندرمة يقودهم رديف بك يسوقون بغالهم المحملة بالامتعة ويرافقون شاباً متفرنجاً وانيقاً نكتشف لاحقاً انه بطل الرواية مانع الشيخ عاصي الذي عين – بعد تخرجه من مدرسة الحقوق في بغداد – مديراً لناحية الأسلاف مسقط رأسه وموطن أبناء عشيرته البواشق نسبة الى اسم الطائر الجسور"الباشق"والذي كنى به جد العشيرة الاكبر الشيخ مطلق، والذي تسمى سيرة الرواية احيانا بالسيرة المطلقية ايضا كما اشرنا الى ذلك سابقاً.
وفي الجانب الاخر هناك الصياد الماهر ورجاله الذين اسقطوا طائر"الباشق"وسنكتشف ايضاً ان هذا الصياد هو الشيخ فزع الطارش الذي هيمن على مقاليد العشيرة بطريقة غير شرعية بعد وفاة الشيخ عاصي ومارس صنوفاً من الاضطهاد والاذلال لابناء العشيرة ومنهم عائلة الشيخ عاصي وابنه مانع؛ ولذا فقد جاء مقتل الباشق كعلامة سيمائية ونبوءة لما سيجري من صراع لاحق في الرواية، وهذا ما نتلمسه في المونولوج الداخلي الذي يدور داخل ذهن الشيخ مانع :"واحتفظت ببقية خواطري لنفسي: اذ ليس من المفرح بالتأكيد ان افاجأ في أول لحظة أطأ فيها ديرتي بهذا الطائر القناص وقد تحول الى طريدة وهو الذي لقب جد العشيرة الاكبر"مطلق"باسمه». (ص59)
لذا فقد عد البطل مانع ذلك فألاً سيئاً وربما عملاً مقصوداً لتهديده وتحديه، سردياً ربما يمثل ذلك استباقاً سردياً لما سياتي من احداث وصراعات. وفعلا هذا ما حدث عندما اكتشف مانع ان الصياد الذي كان يقود مجموعة من الفرسان لم يكن سوى فزع الطارش، خصمه اللدود الذي لم يكن غيره قادراً على اصطياد هذا الطائر القناص. ولذا عندما رآه مع بقية فرسانه الذين جاءوا لاستقباله وهو يحمل الباشق القتيل فكر في نفسه :"هكذا اذن! انه كان على علم بمقدمي! معنى ذلك انه لم يستهدف برصاصته الطائر قدر ما كان يستهدف بها شجاعتي وجلدي"(ص6).
ومن هنا تتحدد طبيعة الصراع القادم في الرواية، بين مانع الشيخ عاصي العائد الى"ديرته"مديراً للناحية بقرار من الادارة العثمانية وبين فزع الطارش الذي انتزع زعامة العشيرة بالخداع والغدر، لان مانع كان صغيراً وغير مهيأ لقيادة العشيرة مما دفع بفزع الطارش لينصب نفسه ولياً عليه وشيخاً لعشيرة البواشق.
والرواية بهذا انما تمثل المرحلة التي سبقت تحليق الباشق واعني به"باشق"الثورة الشعبية التي تناغمت مع اصداء ثورة العشرين وقبلها ثورة النجف ضد الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الاولى؛ فقد كانت الفترة التي غطتها الرواية تمثل حالة"الوعي القائم"أو السائد وهو وعي سلبي إلى حد كبير، لكنها في النهاية ترتفع الى مستوى»الوعي الممكن"بتعبير الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان؛ إذ كانت الفترة التي أذل فيها طائر الباشق والذي تحول إلى مجرد طائر محنط فوق ممكتب مانع وكأنه يناجيه ويدعوه إلى إطلاقه ثانية في السماء، وهذا ما حدث في نهاية الرواية؛ وبذا لم يكن تساؤل الروائي عبد الخالق الركابي لي في اهدائه الشخصي اعتباطيا وانما كان تساؤلا مشروعا موجها الى قارى ناقد، واقول له جواباً عن تساؤله المشروع : تراه سيحلق عاليا؟ نعم لقد كنت موفقاً في أن توفر له الظروف الثورية والاجتماعية وعوامل الوعي الفكري والسياسي لكي تطلقه ثانية ليحلق عاليا في فضاء الحرية والثورة ورمزا لنهوض شعبي جديد مثله نهوض»البوشق"انفسهم ضد هيمنة الاحتلال البريطاني واشتعال ثورة العشرين؛ فمدينة الأسلاف ذاتها هي مدينة افتراضية وتخييلية لا وجود لها على الخارطة؛ ولذا فهي مدينة رمزية للعراق بكامله لانها تحتشد بالصراعات والهموم الاجتماعية وتضم خليطا بشريا يمثل مكونات العراق القومية والدينية المتنوعة (ص415). ويحسب للروائي انه تجنب خطأ جسيماً وقع فيه بعض الروائيين العراقيين عندما وجد نفسه منحازا الى احد طرفي الاحتلال العثماني او البريطاني؛ إذ ارتفع مستوى الوعي الممكن الى مرتبة رفض الاحتلالين معا والمطالبة بالاستقال التام والسيادة الوطنية، ربما بتأثير الأفكار الوطنية والقومية التي مثلها ممدوح افندي المعلم السوري الهارب من اضطهاد العثمانيين في سوريا.
والروائي بانجازه هذا يعبر عن الواقعية النقدية التي انطلق منها في رسم هذه الصورة الحية لشريحة بشرية ومكانية عراقية افتراضية نحو مشارف اكثر ثورية ووعيا تصب في اطار"الواقعية الحديثة"وتقترب في بعض ملامحها من منطلقات"الواقعية الاشتراكية"ولكن دونما اسقاطات ايدلوجية مباشرة؛ فالرواية تنتهي في صفحتها الاخيرة مثلما بدأت بطائر الباشق وهو يحلق في السماء بجسارة."كانت الشمس قد اشرقت واكتسحت الارض بومضها الخاطفن فشرعت النوارس تتخاطف مطلقة صرخاتها الحادة، وظهر طائر جارح حوم في عمق السماء الزرقاء لحظات قبل ان يحلق عاليا"(ص534) فهذا الطائر الجارح انطلق في السماء لم يكن سوى طائر الباشق رمز العشيرة الذي قد يشير في القراءات الأنثروبولوجية إلى لون من الطوطمية المندثرة والثاوية عميقاً في اللاوعي الجمعي لابناء العشيرة.
كما ان رواية"سابع ايام الخلق»(1994) تتم هي الاخرى برمز الباشق عندما يواصل جد العشيرة الاكبر"مطلق"الذي أطلق عليه اسم"الباشق"اطلاق النار من بندقيته وهو يدافع عن قلعة العشيرة في وجه جندرمة الاحتلال العثماني (398-402) من رواية"سابع ايام الخلق».
وقد سبق لعبد الخالق الركابي وان وظف في روايته السابقة"من يفتح باب الطلسم"هذه التقنية الرمزية التي تعتمد على منظر فضائي جوي بانورامي تحلق فيه الطيور الجارحة بدلالة رمزية وضحة اذ يفتتح الروائي روايته هذه بمنظر النسور وهي تحلق لى ارتفاع شاهق :"عندما حومت النسور الصلعاء البشعة على ارتفاع شاهقن كان كل شيء قد انتهى"(ص11). كما يختتم المؤلف روايته هذه بمنظر جوي مماثل للنسور الصلعاء وهي تحلق على ارتفاع شاهق»(ص739).
لقد وفق المؤلف في اعادة الوعي الى الكثير من الشخصيات المهزوزة او المترددة ورفعها الى مستوى الشعور بالمسؤولية الاجتمعية والوطنية، ومنها تحول بعض اللصوص والمهربين الى مقاتلين في صفوف الثوار ضد الاحتلال الانكليزي، كما يمثل التحول الكبير الذي طرأ على وعي مانع الشيخ عاصي علامة مهمة؛ ذلك انه هجر تأنقه وزيه الافرنجي الذي جاء به في بداية الرواية الى ديرته ليتسلم منصبه مديرا للناحية، وارتدى ملابس ابيه العربية، إشارة لعودته إلى جذوره الاجتماعية والشعبية، واحتراما لتقاليد العشيرة واقانيمها، وهو يذكرنا هنا في تحولاته ببطل رواية يحيى حقي"قنديل ام هاشم"وربما ايضا ببطل رواية"مكابدات عبد الله العاشق"(1982). وطوال مسار الاحداث الروائية كانت مخطوطة"الراووق"او مخطوطة السيد نور التي يحتفظ بها انذاك ذاكر القيم بوصفه قيما على مزار السيد نور ومدونا لاغلب وقائعها محط رعاية ابناء العشيرة، وكأنما هي وديعتهم وميراثهم وذاكرتهم المقدسة؛ ولذا فقد قاوم الجميع محاولة سرقتها او التطاول عليها كما حدث عندما حرض الكابتن"فوكس وايت"الحاكم الانكليزي في المدينة بعض اللصوص والمهربين على سرقة المخطوطة، من الضريح اذ رفض المهرب ضاري عرض صديقه دهش المخبل للقيام بشكل مشترك بسرقة المخطوطة وقال له :"كيف ترضى ان تفرط انت... وانت ابن هذه البلدة، كيف تفرط بهذه المخطوطة التي كتبها السيد نور منذ عشرات السنين ليكملها القيمون على مزاره فيما بعد"(ص463).
كما ان (دهش المخبل) عند محاولته سرقة المخطوطة أصيب بما يشبه الصرع وولى هارباً ونادما على فعلته. ويحز في نفسي منطق بعض القراءات النقدية التي اساءت قراءة هذه الرواية فنياً؛ فهذه الرواية فنياً مروية بطريقة السرد الذاتي المبؤر حيث تقدم الاحداث والمرويات والحبكات من خلال وجهة نظر الشخصيات المشاركة المختلفة، دونما أي مظهر من مظاهر السرد الخارجي او التقريري او السرد"كلي العلم"، كما أن الرواية لم تقتصر على وجهة نظر معينة، بل ضمت وجهات نظر مختلفة ومتعارضة مما جعل منها رواية بوليفونية (متعددة الأصوات) بحق، الرواية هذه تمثل نقلة مهمة قياساً إلى رواية"من يفتح باب الطلسم"التي اسرف فيها المؤلف في التفاصيل اليومية بلون من الواقعية البدائية او الطبيعية المتطرفة مما افقدها التركيز والتكثيف والايجاز.
ومع أن"وجهة النظر"الاساسية ظلت من حصة بطل الرواية مانع الشيخ عاصي، الا ان الرواية قدمت"وجهات نظر"متعارضة ومعادية في تناوب سردي سلس، منها وجهة نظر فزع الطارش وبعض الشخصيات المهزوزة مثل المهربين واللصوص وقطاع الطرق، كما نجحت في تقديم بعض المرويات من خلال"وجهة نظر"اطفال وصبيان صغار منهم وثيج لازم ورميح، وهي وجهة نظر تتسم بالبراءة والحياة، لكن المؤلف وللاسف لم يستثمرها باستمرار لانها يمكن ان تمنح الرواية شفافية اكبر مثلما وجدنا ذلك على سبيل المثال في رواية"مدينة الحجر"للروائي الألباني إسماعيل كاداريه التي قدمت صورة رحبة من وجهة نظر شخصيات طفولية مما اضفى على الاحداث حيادا وموضوعية وبراءة، وهو ما كان بامكان الروائي استثماره على نطاق اوسع.