سارتر يفضح الزيف الأخلاقي

سارتر يفضح الزيف الأخلاقي

حلمي النمنم
ذهب اسم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر”طي النسيان”، ولم يعد يذكر إلا في الدوائر الأكاديمية، في وقت من الأوقات كان سارتر نجماً بين المثقفين في أوروبا وفي عالمنا العربي أيضاً، خاصة بعد أن زار مصر عام 1968، وذهب إلى جامعة القاهرة محاضراً، والتقى بعدد من المثقفين المصريين. وقد أقلقت نجوميته تلك الأصوليين والمتشددين

حتى ان الشيخ الراحل عبد الحميد كشك خصص إحدى خطبه للهجوم المنبرية على سارتر وصديقته سيمون دي بوفوار. كان سارتر وجودياً ثم تراجعت الوجودية تماماً وصار ماركسياً وانهار الاتحاد السوفييتي كذلك، وكانت بوادر الانهيار واضحة في سنوات سارتر الأخيرة، عاش بين عامي 1905 و1882 ثم خبا اسمه تماماً وصار نسياً منسياً بيننا.

عنوان مثير

غير أن مكتبة مدبولي قامت بإعادة نشر مسرحيته الشهيرة ”المومس الفاضلة”، والتي ترجمها عن الفرنسية، الراحل د. عبدالمنعم الحفني، وكانت المسرحية طبعت مرات عدة منذ نهاية السبعينيات توقفت طباعتها ولم يعد عليها طلب بين القراء، الغريب أن الطبعة الجديدة حققت قدراً من الإقبال والمبيعات فاجأ القائمين على دار النشر وفاجأهم كذلك إقبال الشباب على المسرحية ذات العنوان المثير، والذي يحمل للوهلة الأولى قدراً من التناقض.. كيف تكون المومس فاضلة؟ أليست هي بحكم مهنتها أقدم مهنة في التاريخ فاسدة، وتقوم حياتها على ممارسة الرذيلة وإشاعتها في المجتمع؟
ونحن بحاجة إلى قراءة هذا العمل الآن، وتقوم فكرته على الزيف الأخلاقي، وادعاء الفضيلة لدى الكثيرين، وارتداء مظهر الوقار والصلاح، بينما الفساد والانحلال يسكن أعماقهم، ويحرك سلوكهم وأفعالهم، اللورد عضو مجلس الشيوخ يذهب إلى الفتاة”المومس”، يبتزها عاطفياً، لتدلي بشهادة الزور على الرغم من رفضها، كان حفيده ذهب إليها، وقضى معها ليلة، وعرض عليها مبلغاً من المال لتذهب أمام القاضي وتدلي بشهادتها على غير الحقيقة، فرفضت تماماً، حتى حين هددها بانه يمكن له عبر نفوذه ونفوذ عائلته أن يضعها في السجن، كان مطلوبا منها أن تشهد أمام القاضي بأن شاباً زنجياً اغتصبها، ولم يكن الزنجي فعل ذلك، وكانت شهادتها ستبرئ ذلك الشاب من جريمة قتل زنجي آخر، وذهب إليها اثنان من رجال البوليس ومارسا عليها ضغطاً لتدلي بالشهادة وفق ما يملي عليها وليس وفق ما رأته وما حدث بالفعل، ثم ذهب اللورد إليها يتودد أو مستعطفاً، لأن أم ذلك الشاب العجوز تتألم إذا أدين ابنها، وسوف تموت حزينة، ولكنها تصر على الرفض، وفي لحظة يمسك يدها ويجعلها توقع على الشهادة التي صاغها وكتبها هو، وما أن تنتبه إلى ما فعله حتى خرج مهرولاً، وتناديه بأن يمزق الورقة لكنه لم يمزقها وذهب بها إلى المحكمة.
قالت الفتاة كلاما كثيراً.. واضحاً ومباشراً”أفضل أن أدخل السجن ولكن لا أكذب أبداً”ويرد السيناتور مذكراً إياها بالأمة الأميركية كلها التي تخاطبها وتنادي فيها إنقاذ أبنها الأبيض على حساب الابن الأسود”الزنجي”“يجب أن تختاري بين اثنين من أبنائي، يجب أن يختفي أحدهما، فإما هذا وإما ذاك”، ويواصل السيناتور الشرح، ومتحدثاً باسم الأمة: هذا الزنجي الذي تحمينه ما نفعه؟ لقد ولد مصادفة، إنه يجرجر أقدامه، ويسرق، أما ابني الآخر توماس فهو على العكس، قتل زنجياً، وهذا شر كبير لكني في حاجة إليه، ابني هذا أميركي مئة في المئة.

الفتاة والزنجي
يدور حوار بين الفتاة ليزي والشاب الزنجي المطلوب قتله، فيقول لها”هؤلاء الناس كثيرا ما يجبرون الآخرين على قول ما لا يعتقدون”، وترد عليه هي”يقولون إن مجرد كونك زنجياً يعني دائماً أنك جنيت شيئاً؟ وبعد أن يذهب السيناتور عضو مجلس الشيوخ إلى المحكمة بالورقة، ويحقق ما يريد، يعود إلى ليزي لا ليشكرها بل يقول لها”انك فعلت واجبك”، ويمنحها مظروفا به مئة دولار فتلقيه في وجهه وتقول”خدعوني طوال عمري، خدعوني بأمهاتهم العجائز ذوات الشعر الأبيض وبأبطال الحرب والأمة الأميركية لكني فهمت الآن ولن أدعهم يخدعونني بعد ذلك”، وعلى هذا النحو تمضي المسرحية إلى النهاية.
سوف يلاحظ القارئ أن سارتر ابن الثقافة الفرنسية يحمل موقفاً تجاه نشأة وتأسيس الولايات المتحدة، فقد قامت على إبادة الهنود الحمر، واستبعاد السود، من القيم الأميركية التي تمارس ازدواجية أخلاقية، ترفع شعارات نبيلة، بينما تمارس العكس على الأرض، ونحن في عالمنا العربي ندرك ذلك جيداً، جربناه وعانيناه من قبل، وما زلنا نعانيه إلى اليوم.
أهم ما في هذه المسرحية أن الفتاة ليزي التي تمتهن أقدم مهنة في التاريخ هي الفاضلة الوحيدة في ذلك المجتمع، لأنها الأكثر اتساقاً مع نفسها، تمارس مهنتها التي اضطرت إليها، وأجبرت عليها تحت ضغط الفقر والاحتياج، أي أن المجتمع هو الذي جعل منها تلك الفتاة اللعوب، وذلك المجتمع نفسه بقساوسته وشرطته ورجال المال والسيناتور، يجبرونها على الشهادة الكذب والزور لتبرئة قاتل هم يعرفون أنه كذلك، وإدانة بريء هم متأكدون من براءته.
وفي مجتمعنا نحن هناك الكثيرون من أدعياء الفضيلة وحُسن الخُلق، ويكفي أن ترتدي قناعاً وزياً معينين لتصبح في نظرهم متديناً وفاضلاً، أما خارج هذا الزي فهم يفعلون الكثير من الموبقات، يكذبون ويدلسون ويتاجرون بالدين وبالأخلاق وقيمها الرفيعة، وما أحوجنا إلى كشف وتعرية هذا الزيف والتدليس.

عن/ اخبار اليوم
المصرية