حوار مع الرائد المسرحي الفنان بدري حسون فريد

حوار مع الرائد المسرحي الفنان بدري حسون فريد

فراس عبد المجيد
واصل الفنان الرائد بدري حسون فريد في المغرب التدريس في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، فتخرجت على يديه دورات ضمت خيرة الفنانين في القطر الشقيق. ويواصل عطاءه الفني والثقافي والفني بهمة الشباب، وهو على أعتاب الثمانين، سواء في التدريس أو في التأليف والبحث. فهو بالإضافة الى مسؤوليته في رئاسة جمعية الرافدين للجالية العراقية في المغرب،

فقد صدر له مؤخرا كتاب”فن الإلقاء- تربية الصوت”عن دار الديوان في أسفي بالمغرب. كما أصدرت دار الشؤون الثقافية في بغداد الجزء الثاني من كتابه الهام”قصتي مع المسرح”وبمناسبة صدور هذا الكتاب التقينا بالفنان الرائد بدري حسون فريد لإجراء هذا الحوار.

س : صدر مؤخرا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد الجزء الثاني من كتابكم”قصتي مع المسرح”. هل يمكن أن تعطونا نبذة موجزة عن أجزاء هذا الكتاب القيم، والمراحل التي يتناولها كل جزء؟

ج : كما تعلمون فأن الجزئين الأول والثاني قد صدرا. أما الجزء الثالث فنحن في انتظار صدوره. فقد كتبت ألف صفحة، معززة بالوثائق والصور بداية من 1/1/1995 إلى 5 تموز من العام ذاته. وقد كنت أعمل ليليا بين ثلاث إلى أربع ساعات بعد أن يخلد جميع أفراد العائلة إلى النوم. وطبعا أنا لدي حس في الأرشفة. ولكل جزء من المراحل الثلاثة كنت أخصص الصور والوثائق الخاصة به. بالإضافة إلى ما كتبته الصحف عن الأعمال المسرحية منذ المرحلة التي سبقت دخولي إلى معهد الفنون الجميلة، عندما كنت أعمل مع الفنان جعفر السعدي في الفرقة الشعبية للتمثيل. المهم أن عدد الأجزاء هو ثلاثة، صدر الأول منها وهو يبدأ منذ مرحلة الطفولة إلى حين حملت حقيبتي وسافرت إلى أمريكا للدراسة على نفقة وزارة المعارف - كما كانت تسمى آنذاك -. الجزء الثاني يبدأ من رجوعي إلى أمريكا والمتاعب والمشاكل التي مررت بها في البداية حيث لم تكن لدي معرفة في الحياة في أمريكا، وقد كان خير عون لي هو الأستاذ المرحوم إبراهيم جلال الذي سبقني إلى الدراسة في أمريكا في معهد كودمان ثييتر، حيث أخذ بيدي، وقال لي :”انس يا بدري ما كان بيننا في بغداد. وقد سمعت عنك الكثير، سواء في التلفزيون أو المسرح أو السينما. والآن أنت أتيت إلى هنا. وأنا أعرف كم أنت شغوف إلى أن تتعلم”وكان الرجل معي في كل شيء. وعلمني أشياء كثيرة لا يمكن أن تنسى أبدا. قال : أنا وقعت في أخطاء كثيرة، وتأخرت في دراستي، وأرجوك يا بدري ألا تقع في تلك الأخطاء.وأنا متأكد من أنك لن تقع فيها.”ومرت السنوات.. وتتلمذت على يد أساتذة كبار، وأستطيع أن أقول عنهم أنهم جهابذة المسرح الأمريكي، مثل الدكتور جون رايخ، وعملت مع الفنانة ليليان كيش.. أعظم ممثلة في أمريكا خلال مرحلة السينما الصامتة، كما عملت مع كورنافسكي عميد المسرح الانكليزي وكثير كثير من الممثلات والممثلين.هؤلاء جميعا، وغيرهم كان معظمهم ضيوف شرف، حسب النظام الذي كان معمولا به في المعهد حيث كان يخصص ضيف لكل عمل مسرحي، سواء كانوا من أمريكا أو من خارجها. ففي مسرحية”المليونيرة”لبرنارد شو التي كنت بطلها، وهي من اخراج جون رايخ، أتى بممثلة كبيرة جدا من لندن و موجود اسمها في الكتاب. وأيضا لمعهد كودمان فضيلة كبيرة وهي أنه لا يعتمد فقط على الأساتذة الموجودين، وهم أساتذة كبار، وانما يأتون في كل سنة بفرقة مسرحية معروفة عالميا. مثل فرقة”الكوميدي فرانسيز”من فرنسا، والفرقة الملكية في انكلترا، وفرقة”موسكو آرت ثييتر”فرقة مسرح موسكو الفني.. يأتون ويقدمون عروضهم، والطلبة ينهلون من مشارب العلوم ومن التجارب المسرحية ليس من أمريكا فقط بل من بلدان العالم كافة. هذا ما يتعلق بالجزء الثاني. ويبدو أنهم في الطباعة أدخلوا فصولا من الجزء الثالث إلى الجزء الثاني. فهناك عروض مسرحية قدمتها بعد عودتي من أمريكا كان من المفروض أن تكون ضمن الجزء الثالث، إلا أني فوجئت بها منشورة في الجزء الثاني. وبقيت حوالي العشرة مسرحيات في الجزء الثالث الذي ينتظر صدوره قريبا. هذا بالإضافة إلى أن الوثائق الخاصة بكل جزء جمعت كلها في الجزء الثالث.

نظرية لاساك

س : نتوقف عند مرحلة الدراسة في أمريكا.. ما هي وجوه الاستفادة من تلك الدراسة وتطبيقاتها ميدانيا، سواء خلال فترة التدريس في بغداد أو في ليبيا والمغرب؟

ج :الحقيقة لابد أن تقال.وهي أن أستاذي إبراهيم جلال قال لي”يا بدري هناك نظرية حديثة ظهرت في أمريكا من قبل”لاساك”في تربية الصوت وفن الإلقاء وأنا لظروف عديدة لم أستطع أن أحضر كل الدروس، ولست ملمّا بقواعدها،”ويبدو أن الأستاذة مسز بارت، تلميذة لاساك، قالت لأبراهيم جلال:”ان رجعت الى العراق أرجوك لا تدس أنفك في مادة الصوت والإلقاء لأنك لم تدرسها بشكل جيد.”وقد حفزني كل من ابراهيم جلال ومسز بارت على الاهتمام بهذا المجال، خصوصا أن السفارة العراقية في واشنطن كانت قد أرسلت مبالغ لأن تقوم تلك الأستاذة بتدريسي في الصيف. وهذا يعني أنني أدرس خلال السنة الدراسية بأكملها، ثم أواصل دراستي صيفا في شقة الأستاذة، واستمر هذا على مدى أربع سنوات. ولذلك فأهم شيء تمكنت منه بشكل جيد، لا كملق ٍ (سواء في التمثيل أو الخطابة أو قراءة الشعر..)، بل في مجال تدريس تلك المادةهو دراستي نظرية لاساك في فن الالقاء. علما ً، وأقول لك بصراحة فأنا أولا ً وأخيرا ً ممثل. وفي الدرجة الثانية أنا مخرج. وأصبح التمثيل والإخراج صنوين متلازمين الواحد للآخر. ولكن التدريس، نظرا ً لأهمية هذه المادة، ولأنه، وكما يقول أدونيس فان الإنسان العربي”يمومئ”وليس لديه لسان لكي يلقي نارا ً. الكلمة مع الأسف الشديد”ومن المحيط إلى الخليج”تريدون أن تشعلوا نارها؟ إذن اعتنوا بالكلمة. وللأسف الكلمة لم تعط حقها سواء من الممثلين أو الخطباء أو الشعراء إلا ما ندر. يقول أدونيس :”الفعل لحظة وجهة. والكلمة هي الجهات كلها”وهي”اليد والحلم”ولهذا السبب، وأيضا ًكما قال أدونيس، وهو كأنه يقول ما في ضميري، أهتم بتدريس هذه المادة. ولذلك عندما رجعت عرف ابراهيم جلال بأنني قد تمكنت من الأخراج والتمثيل وأوكل إلي تدريس الإخراج والصوت والإلقاء، لكي يتعلم الطلبة كيف ينطقون الكلمة جميلة، سليمة، مؤثرة،”بدون مومأة”. هذا كان في بغداد. وحين خرجت من بغداد في عام 1995 ذهبت إلى تونس، وكان من المفروض أن أدرس في المعهد العالي للمسرح هناك. ولكن، لظروف معينة ذهبت إلى ليبيا، وهناك درّست هذه المادة، وكانت جديدة عليهم. وبعد سنة ونصف خرجت من ليبيا. وفي عمان التقى بي تلميذي المبدع جواد الأسدي، وأراد أن نعمل سوية وأقوم بدور المتشرد العراقي في مسرحية”المصطبة”وطلبت مني الجامعة الأمريكية في بيروت وقتها إلقاء محاضرات في الصوت والإلقاء. وفعلت ذلك. ومرت حوالي الأربعة أشهر في بيروت.. ثم أتيت إلى المغرب. وعندما أتيت إلى المغرب طلب مني أن أقوم بتدريس مادة الصوت والإلقاء لافتقار المعهد المتخصص لأستاذ يدرس هذه المادة، فقد كان المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي في الرباط يعتمد على محاضرات و”أوراش”يقيمها بعض الأساتذة الفرنسيين في الصوت والالقاء بين حين وآخر، كما قيل لي، وبما أن نظرية”لاساك”التي تخصصت فيها نظرية عالمية لا تقف عند حدود لغة بعينها، بقدر ما تعلم الطالب كيف يربي صوته، وكيف يستعمل تقنيات فن الالقاء من أجل إيصال الكلمة والمشاعر والأحاسيس إلى الجمهور، فقدتخصصت بتدريس هذه المادة لأحد عشر عاما في المغرب.
خيارات مبدئية

س : خلال دراستك في أمريكا، وضعت أمام خيارات مبدئية صعبة.هل لك أن توضح لنا بعضا من تلك المواقف؟

ج :نا أفتخر بما ذكرت في الجزء الثاني، وابتداء من الصفحة 94 تحديدا، تحت عنوان :”لولا المبادئ والقيم لسقطت في الوحل”. والقصة لتي أوردتها في هذا المبحث هي أن هناك نظاما في معهد”كودمان ثييتر”يقول : على الطالب، عندما يسند إليه دور في أي عمل، سواء كان على الخشبة أو خلفها،الالتزام التام، ولا يمكنه أن يرفض ما أسند إليه. وإذا أصر على الرفض يقال له :”احمل حقيبتك وعد من حيث أتيت”. وكانت الدكتورة بيلا ايتكن معجبة بي اعجابا كبيرا، ورشحتني في مسرحية تحمل عنوان”تيبايس والملائكة الثلاثة”وحين اطلعت على النص المسرحي وجدت فيها الشيء العجيب والغريب، وهو أن بطل المسرحية قاطع طريق كردي، ولا يقابله شخصية تمثل الكردي الشريف. أي أن محور المسرحية كله يدور حول شخصية”الكردي الشرير”. ونظرا لإيماني بعراقيتي التي تقول أن العرب والأكراد أخوة في هذا الوطن، فقد رفضت العمل في هذه المسرحية رفضا قاطعا لأني لا يمكن أن أعود ذات يوم إلى وطني، وأحمل شهادة عليا، وأنا ملطخ بالوحل. وقالت لي الأستاذة حين عرفت بإصراري على الرفض :”احمل حقيبتك وارجع لأنك تخالف النظام المعمول به في المعهد”واستشرت إبراهيم جلال في الأمر وقال لي”انك تعرف النظام وعليك أن تقرر”. وزادني هذا إصرارا على موقفي. وقررت فعلا تطبيق”النظام”والعودة إلى بلدي. وحين أعددت حقيبتي للسفر، وجئت الى المعهد بعد ثلاثة أيام لتوديع زملائي الذين عرفوا القصة، تقدمت مني الدكتورة بيلا ايتكن وقالت :”كم تحبون أنتم العراقيون بلادكم”فقلت لها”إنها المبادئ وليس الحب فقط”. فقالت :”أنا بنفسي قمت بشطب اسمك من لوحة الإعلان وقلت بأنك لا تصلح لهذا الدور.وذلك من أجل أن تستمر في الدراسة”.. شكرتها وبكيت.لماذا؟ لأنها كانت تجربة حقيقية لإنسان عراقي يقع تحت ضغط قاهر فيغلب المبادئ على المصلحة الشخصية. لأن رفضي الدور، والعودة إلى العراق كان سيضعني تحت طائلة القانون بدفع غرامة مقدارها 10 آلاف دينار عراقي (وكان الدينار وقتها يعادل ثلاثة دولارات ونصف)،أو السجن، وخسارة الشهادة الدراسية العليا التي أطمح إليها. وفضلت أن أفعل كل هذا على القيام بهذا الدور.

مستقبل المسرح التقدمي

س : منذ تأسيس فرقة مسرح الطليعة بعد ثورة 14 تموز كان التوجه التقدمي هو ما يطبع نتاجاتكم. كيف ترى مستقبل المسرح العراقي الآن في ظل هذا التوجه؟
ج :المسرح العراقي له شجون.. فكل الوفود المسرحية التي زارت العراق من المغرب من تونس من الخليج، وشاهدوا أعراس بغداد الفنية، وشاهدوا أعراس المسرح العراقي. كانوا يقولون إن المسرح العراقي في طليعة المسرح العربي. حتى أن الفرقة القومية للتمثيل، عندما قدمت مسرحية”البيك والسايق”في القاهرة، وقد أعدت عن مسرحية”السيد بونتيلا وخادمه ماتي”و عرّقها صادق الصائغ، نشرت مجلة”آخر ساعة”رسما كاريكاتوريا يتضمن ساعة متوقفة بتعليق يقول : إصحَ يا أيها المسرح المصري. بمعنى أن العراقيين عندما قدموا عرضا بهذه الجودة على المصريين أن يصحوا ويقدموا عرضا بمستواه. وكل العروض التي قدمت، سواء من قبل الفرقة القومية، أو فرقة المسرح الفني الحديث، أو فرقة المسرح الشعبي، أو فرقة مسرح اليوم، واتحاد الفنانين.. كلها كانت تتلمس الخير للمسرح العراقي، إلا خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، حيث بدأت المتاجرة بالمسرح العراقي، حيث توجه البعض إلى تقديم مسرحيات هزلية، وبعضها منحطة، فقط لإضحاك الجمهور، بحجة إشاعة البهجة والترفيه للجنود العائدين من جبهة القتال. وأبلغت أحد هؤلاء المسرحيين أن ما تقومون به هو مجزرة في حق المسرح العراقي ستحاسبون عليها حسابا عسيرا. كان هذا في أيام الحصار. وكان يقابل هذا التهريج تقديم أعمال جادة مثل”هوراس”، ومسرحية”جسر آرتا”وكلها تدعو إلى الصمود والى الخير، وكلها تدعو إلى الثقة بالمستقبل وإلى التضحية لا بالدماء التي سفكت، مع الأسف الشديد، من أجل قصة مختلقة لاشعال الحرب العراقية الايرانية حيث استنزفت طاقات الشعبين العراقي والإيراني خدمة للأهداف الإمبريالية. وانتهت الحرب بالخسائر البشرية الفادحة من الجانبين. وبرغم الإسفاف المسرحي.. كانت هناك أعمال جادة سواء في كلية الفنون الجميلة من قبل بعض الشباب التقدمي اليساري الذي يريد أن يعبر عن رفضه للحرب ورفضه لقيم التسلط والدكتاتورية.. وأنا قدمت آخر عمل مسرحي وهو”الخاطف والمخطوف”لأن الخطف كان يجرى على قدم وساق من قبل”أولاد”النظام السابق للفتيات واغتصابهن. حتى أن ابنتي - رحمها الله - قالت لي ذات يوم أن هناك سيارة سوداء مريبة تتعقبها، فقلت لها أن تترك التدريس وتلازم البيت ففعلت. وهناك الكثير من الضحايا التي نعرف ولا نعرف. هذا كله كان قبل 2003 وسقوط الدكتاتورية. وبعد ذلك؟ هل توقف المسرحيون العراقيون عن العمل؟ في الحقيقة فأنا تركت العراق منذ سنة 1995. نعم عملت في 96و97 في مسرحية المصطبة في بيروت..لكن عندما أتيت الى المغرب لم أنقطع عن العمل إطلاقا. فبدأت بورشة مسرحية لطلاب المعهد بعنوان”العين والخلخال”لثلاثة كتاب مغاربة، وكانت في إحدى عشرة لوحة. وقد قيل أنها من أجمل ما قدم في المعهد حتى ذلك الوقت. واستمررت في تقديم المونودراما. وجلت المغرب من أكادير في الجنوب الى تطوان في الشمال أقدم دورات تكثيفية تدريبية لفن الإلقاء، وأقدم معها عرضا مسرحيا (مونودراما) لتشيخوف، وأحيانا من تأليفي أنا. قدمت”النشيد الأخير لطائر الليل المغرد”، و”مفجوع رغم أنفه”إلى آخره.. لم أنقطع عن التمثيل إطلاقا، ولم أنقطع عن الكتابة، ولم أنقطع عن التدريس، ولم أنقطع عن البحث. ففي كل سنة لدي بحث فني. هذا بالنسبة إلي أنا، هنا في المغرب. وأنا متأكد أن هناك الكثير من زملائي، رفاق الدرب، موجودون في كل مكان : في أمريكا، وفي فرنسا، وفي هولندا، وفي ألمانيا وكان منهم تلميذي الفنان الرائع عوني كرومي (رحمه الله)، هذا بالإضافة إلى الأعمال التي تقدم في عمان، كما سمعت، وغيرها من المدن العربية. فالفنانون العراقيون لم يتوقفوا ولن يتوقفوا. وأحيانا سمعت أن بعض الأعمال تسجل أولا، ثم تبث في التلفزيون.هذا النسغ الثوري الجميل المبدع الإنسان العراقي سيبقى وسيبقى فاعلا وبنّاء لقيم الحضارة، لقيم الحياة، لقيم الحب والجمال.

الحيف والجحود

س : هذا سؤال فيه الكثير من المرارة.. بعد عودتك الى الوطن من أمريكا، تعرضت إلى الكثير من الحيف والجحود، على اكثر من مستوى. وما زال هذا الحيف متواصلا معك وأنت في الغربة. ما تقول في ذلك؟

ج : يظهر أن حياتي كلها مفارقات.. فبعد حصولي على الشهادة الأولى في أمريكا، قالت لي بطلة كولومبيا، كما هو مذكور في الجزء الثاني من كتابي”قصتي مع المسرح”:”أنا عملت معك في مسرحية - آنا كارنينا - لتولستوي لمدة شهر في التمرين، وشهر للعرض. وكنت ممثلا رائعا.. أريد أن آخذك معي إلى كولومبيا”فقلت لها :”لا أستطيع. فأنا أريد العودة إلى الوطن.”حتى أن رايخ نفسه قال لي :”إبق َ يا بدري لمدة سنتين، واجمع النقود، وعد بعد ذلك إلى بغداد لتبني مسرحا”وقلت له أيضا :”لا أستطيع.. فأنا مصاب بمرض الوطن - هوم سك”. وكان أن رجعت إلى العراق وعاونني الأستاذ جعفر السعدي لأقوم بإجراءات التعيين. وقد اهتمت الصحافة بعودتي وكذلك إذاعة بغداد. ووصل الأمر إلى موضوع تقييم الشهادة. وكانت الدراسة لنيل شهادة البكالوريوس والماجستير تستغرق سبع سنوات. وبما أنني كنت أمتلك خبرة دراسية في معهد الفنون الجميلة، وخبرة تطبيقية في المسرح والسينما والتلفزيون. وكنت قد أكملت دراسة اللغة في ستة أشهر في سرعة قياسية.(فبعض الشباب كانوا يحتضنون صديقاتهم، وأنا كنت أحتضن الراديو لتعلم اللغة.) المهم.. بما أنني أمتلك كل هذه الخبرة فقد أكملت الماجستير في أربع سنوات بدلا من سبعة.. وهذا ما دفع الإدارة المعنية إلى اتخاذ ذلك ذريعة لعدم معادلة شهادتي إلا بما هو أدنى من البكالوريوس تبعا للمدة التي قضيتها في الدراسة. وقد كنت أعرف أني مستهدف بهذا القرار الجائر. ففي الوقت الذي تشيد فيه الملحقية الثقافية العرقية بواشنطن بي، باعتباري أحد العشرة الأوائل في الدراسة عوملت هذه المعاملة القاسية في بلدي. وما أن قررت الاعتراض على هذا القرار الجائر، حتى وضعوا الحديد في يديّ واقتادوني مثل المجرمين، بتهمة التخلف عن أداء الخدمة العسكرية. قلت لهم :”كيف أكون متخلفا عن الخدمة العسكرية وأنا أظهر على شاشة التلفزيون واسمي يملأ الصحف والإذاعة؟”.. والقصة وما فيها أنني سألت سفيرنا في واشنطن وقتها، المرحوم ناصر الحاني عن موقفي من الخدمة العسكرية، فقال لي”أنك أولا موفد من قبل وزارة التربية، وثانيا أن عمرك تجاوز مرحلة الخدمة العسكرية.”ويبدو أن تعديلا لقانون الخدمة العسكرية كان قد صدر (وأنا في طريق عودتي إلى بغداد) بتمديد فترة الالتحاق بالخدمة العسكرية الى سنتين أخريين، جعلني مشمولا بهذه الخدمة. المهم.. أخذت مخفورا إلى معسكر كلية الاحتياط للتمرين والتدريب لأكون”ضابط احتياط”.. طبعا أثار ذلك كله ضجة كبيرة في الوسط الفني في بغداد. فقد فرح بهذا الإجراء من في نفوسهم مرض، وبكى وغضب الخيرون على هذا التعسف. وقد غضب إبراهيم جلال، وقام بمقابلة الوزير من أجل ذلك. طبعا أنا قدمت اعتراضا طلبت فيه بمساواة شهادتي بشهادة كل من الأستاذين جعفر السعدي وإبراهيم جلال، ومقارنة الدروس التي درسها الأستاذان المذكوران بالدروس التي درستها. وأتت رسالة من جون رايخ من أمريكا، ومن الدكتور تشارلز ماكو رئيس القسم الثقافي يقولان فيها بأني من أحسن الطلاب الذين أتوا للدراسة، ولا تصح معاملتي بهذا الجفاء. وعند مقارنة الشهادات، وبعد ستة أشهر قدموا الاعتذار وعودلت شهادتي بأنها أقل من الدكتوراه. هكذا كان الأمر. وهذه هي الصعوبة الأولى. فتصور أنت متوّج ومزوّد بالعلم والمعرفة وتعامل بهذا الجفاء. المهم قضيت سنة ونصف كضابط احتياط في منطقة كردستان، ثم قامت حرب حزيران.. واقتدت مجددا وكأنني ذاهب لتحرير فلسطين، وإذا بي في كردستان. بعد هذه الرحلة لابد أن أقول بأن الشهادة لوحدها لا تصنع فنانا، بل الأعمال التي يقدمها الفنان. وكان أول عمل قدمته بعد ذلك هو مسرحية”عدو الشعب”لأبسن. وهو عمل هزّ بغداد.. وكتبت عنه سبع عشرة صحيفة.وأنا في كل مسرحبة أقول كلاما جريئا، وأحيانا أؤلفه. وهذه المسرحية ماذا تقول؟ لقد قلت الجملة التالية :”إنني أفضّل أن تهدم مدينة على أن تعيش أكذوبة كبيرة”وصفق الجمهور تصفيقا مدويا. ويبدو أن الأكاذيب مستمرة مع الأسف الشديد. هناك ناس شرفاء يؤمنون بالعراق، بأن يتقدم ويتطور ويسود الأمن والأمان ويسود الحب والوئام والجمال، وهناك من يحاول أن يمد العصيّ ويقتل الأطفال والنساء.. وهكذا هو الصراع دائما بين عنصري الخير والشر. والخير لابد أن ينتصر.

في الغربة..

س : ولكن يبدو أن الجحود ما زال متواصلا مع الأستاذ بدري حتى وهو في غربته.. ماذا تقول في ذلك؟

ج :قصة الجحود قصة طويلة جدا. ولقد نشرت الصحف العراقية، والعديد من مواقع الانترنيت، وغيرها الكثير عن وضعي الصحي ووضعي المالي. خصوصا عندما أتيت إلى هنا.. فقد جئت معافى، وأصبت بعد ذلك بعدة أمراض سواء في القلب أو الشرايين. وآخرها جاءت مشكلة العيون، ليس ثمة مرض في العين، ولكن نتيجة المهنة دفعت بريق عيني وضوء عيني من أجل المسرح والكتابة والبحث. وهناك في العراق يقولون :”لابد أن نقف مع هذا الرجل”.. متى؟ متى سوف يقفون معي من أجل أن أسترد ضوء عيني، من أجل أن أستمر أكثر في البحث وفي الكتابة وفي التمثيل والإخراج. هذا ما أرجوه من الناس الشرفاء الموجودين في العراق، أن يفكروا بأن بدري، كما يقولون عنه”رمز من رموز العراق”فاهتموا بهذا الرمز قبل أن يرحل عن هذه الدنيا. شكرا لكل من سيقرأ سطرا من هذه السطور.


هذا الحوار اجري مع الراحل في المغرب وسبق ان نشرت اجزاء منه في صحيفة المدى